سقوط

سقـــــــــــوط

سقط القلم من بين
يديه المرتعشتين بتثاقل بالغ يجر رجليه الملتصقتين بالأرض وقلبه المنكسر
يرفرف كفرخ مذبوح يتنفس بصعوبة وكأن حجرا جاثما على صدره ثم تسلق حافة
الشرفة ووقف باستسلام ينظر للأسفل.
وقع بصره على الأرض، وتلك الشجيرات المتناثرة هناك وهناك في فوضوية عارمة كل شيء يبدو صغيرا جدا ما أتفه الإنسان وما أتفه أحلامه.
أطلت عليه الأشجار، مذكرة إياه بحياته القديمة تلك التي عاشها طفولة وشباب
والساقية وخرير الغدير الصافي وسنابل القمح الأخضر يتماوج بخفة ودلال، أرض
أفنى والده عصارة و زهرة شبابه من أجلها وتلك الجداول المتلألئة على
جانبها وتلك الخضرة المتوهجة الراقصة على إيقاعات أنغام مياهها بعذوبة
وغنج، متمايلة بين نسائم صباح مرهف الإحساس صبوح الوجه باسم المحيى متلألئ
الثغر تلمع في مقلتيه قطرات ندى صافية تزيده نورا وبهاء...
طرق كثيف على الباب وأصوات مختلطة متداخلة - تسمر في مكانه - أرجعه فكره
لزمن الحب الأول وهو يوشوش لها بكلام عشق ما استطاع كتمانه وألهبها بقبلات
حارة ماسحا جسدها وقدها وشعرها المسدل على كتفيها كنور الشمس المضيء.
سأنتظرك ولو كان آخر يوم في حياتي...هكذا ودعته ملوحة له من بعيد... بعيدا
عن الأعين المتلصصة الباحثة عن أي اختراق للتقاليد وكان الرحيل ....
أرسل لها آلاف المراسيل من حب مشتعل في قلبه فتعيد الشوق أشواقا ولهفة.
رجع للقرية حاملا شهادته وحبه على أكتافه وخبرا سعيدا بتسلم وظيفة
بالمدينة. من بعيد لاحت له أنوار غريبة متلألئة تسلب النظر وأصوات زغاريد
ومعازف آتية من بعيد وسيارة فارهة متوقفة قرب باب الحبيب وباقات ورود تغطي
المكان...
لم تكن يوما لك يا بني انسها وابدأ حياتك من جديد، مسح عن عينيه دمعة
ساخنة ألهبت خده، كانت أما رائعة كم أخفت عنه وهو في صباه عثراته
المتكررة، كانت صندوق أسراره صدرها دافئ وحنانها لا مثيل له.
ما زال الطرق على الباب أنصت مليا عرف أصوات كانت دائمة الحديث معه هذا
صوت الحاج أحمد آه هذا زكرياء يلح في كسر الباب وأصوات نساء...
أعاد النظر للأسفل كم الأسفل بعيد اغرورقت عيناه ما عاد يحتمل، مد يده على
عهدته بالبنك ، اختلس أموال المودعين وقد فجرت القضية وسيكون مآله السجن
والفضيحة.
رأى أناسا كثرا تجمهروا في الساحة المطلة على المبنى العالي العتيق الذي
يسكنه تكرر المنظر أمام عينيه كأنه للتو يقف في جنازة والده يومها أحس
بفراغ عاطفي خاصة بعد انسحاب والدته بهدوء من الدنيا كما كانت حياتها
دائما.
دفن الوالد وعاد للبيت الفارغ إلا من ذكريات الطفولة وإحساس باليتم غطى
على كل شعور اعتراه ساعتها، أغلق الباب مودعا المكان الذي لم يعد له أي
ارتباط به بإلقاء أخر نظرة عليه بيع كل شيء لأجل مرض والده، خلا المكان
سوى من بيت قديم يئن من تعب السنين وأثاث متهرئ وجدران آيلة للسقوط معلقة
عليها أحزان ماض ولى واندثر.
نظر للسماء مليا حيث الشمس المتوهجة نورا ودفئا تبعث له بخيوطها الذهبية
تلامس وجنتيه وتلاطفه بحنو محاولة ثنيه عما جال في قلبه المتعب بالهموم
الجسام ، رأت الكثير على وجه الأرض ورافقت أمواجا وأمواجا من البشر
وحكايات لا تنتهي والدنيا مازالت بخير.
تبع نظره الهائم طائرا يجول في الفضاء بخفة ويسر يا له من إحساس بالحرية والانعتاق من كل القيود.
رمى بالورقة من بين أصابعه تحكي سطورا من ماض أليم ومستقبل ضبابي كئيب،
أرخى جسمه الفارغ باستسلام أمام ذهول الجميع مسدلا الستار على آخر فصول
الحكاية ونقطة النهاية.