الجرأة والجبن.....النقيضين
يكثر الحديث اليوم في عالمنا عن الجرأة.. وماهيتها وصبغتها... وعُـلّق عليها الكثير من اللغط وسوء فهمها ، حتى وصل لالتباس فهمها مع الوقاحة والخروج عن نصوص الآداب السائدة في المجتمع... وما يزيد الأمر سوءاً أن العديد من المثقفين يخلطون بين مفهومين متغايرين الجرأة والوقاحة وما بينهما مسافات متباعدة، ومع هوة التباعد تفصل بين فهمهما ومن عدمه شعرة . نستعرض في الجزء الأول الجرأة من جوانب عدة ، ثم في الجزء الثاني سنستعرض موضوع الجبن من جوانبه العدة.
الجزء الأول : الجــــــــــــــــــــــرأة
لقد ذكروا أن الجرأة تعاكس الخوف ، والجبن ، فقالوا : الجريء من لا ينهار ولا يتداعى لا في السراء ولا في الضراء ، ويمارس أعمالاً يعجز عنها الآخرون نتيجة خوفهم. والجريء من لا يتنازل عن موقفه عند ما يثبت له بالأدلة والبراهين صواب تفكيره واعتقاده. وإذا ما ثبت له خطل رأيه فهو يؤوب عنه ويتوب حتى لو لبث فيه عمر.
والجرأة تناول المواضيع بجرأة دون التستر وراء الكلمات والعادات والتقاليد ، والوقوف عليها ونقاشها ووضع تصوراتها دون المساس بثوابت الآداب العامة لطبيعة المجتمع.
والجريء من يتحمل الصدمات والضغوط من أجل بلوغ الهدف ولا ينتابه الهلع إزاء الآلام والمشقات ، ولا تعيقه آلاف الموانع والعقبات عن السعي والمثابرة.
والجريء هو من يقتحم الحوار لمعرفة من يكون وراء الكلمات من كامن ، ومن يكون وراء المجتمع من مستتر.
وأخيراً فان الجريء هو من لا ينسى هدفه حتى وان كان غارقاً في الصعوبات والمحن ولا يتداعى أمامها. ومن علائم الإنسان الجريء أنه دائم البحث عن الحقيقة ، ومتخذاً من العدالة والطهارة والصمود أمام الأهواء شعاراً له.
إن الإنسان الجريء يقاتل من اجل إحياء الحق ؛ وقد يُغلب ولكنه لا يتزعزع ، فهو ذلك الإنسان الذي يصمد أمام سيل الانتقادات ويستقبلها بصدر رحب.
والجريء هو ذلك الشهيد الذي وقف مرفوع الرأس وسط الضجيج ولائمة الأعداء. وأخيراً فان الجريء والشجاع هو ذلك الإنسان الذي يرى نفسه على حقيقتها بعيداً عن التفاخر والأنانية.
فوائد الجرأة
إن الخطوات الإيجابية التي شهدتها البشرية على مدى التاريخ كانت من قبل الجسورين والشجعان ؛ فأساس كل تطور علمي وحضاري هو تبلور الأفكار التي أفرزت التطورات والثورات التي تتمخض عن البطولات والتضحيات.
والجرأة في الحوار نمطية معرفة الآخرين في نمطية تفكيرهم ثم وضع نقاط طبيعة الحوار معهم والتي يعقبها آلية تكوين العلاقات ، وهذه حالة مهمة في جرأة الحوار لمعرفة وتحليل جوانب الشخصية.
فعندما يبرهن المرء على جرأته وشهامته يترسخ في ذاته مثال الجلال والقدرة والطهارة ، ويترك بصماته على المجتمع ، ويسخر الأحداث لخدمة الفكر، ويصبغها بصبغه الفضيلة، ويوجهها كما يشاء لخدمة المجتمع .
فقادة الفكر والزعماء الكبار تمكنوا من خلال الجرأة التي أبدوها أن يجتازوا العراقيل والمشاكل ، وأن يخلـّدوا أفكارهم في هذا العالم. فكم من الأفكار انتشرت في ظل جرأة الأشخاص ! وما أكثر الذين تجرعوا كأس الموت في هذا السبيل أو نالوا الشهادة. فكم من شهداء الأمة الإسلامية والعربية ممن استشهدوا في سبيل جرأة الحق منذ قيام الدولة الإسلامية حتى حاضرنا اليوم. وحتى الأنبياء من أمثال نوح (عليه السلام ) و يحيى ( عليه السلام) لاقوا ما لاقوه في سبيل جرأة الحق.
وسقراط تجرّع كأس السم في الثانية والسبعين من عمره ولم ينثن كي تبقى فكرته حية. وغاليلو ، وكبرنيكوس ، ولافوازيه .. كانوا من نفس ذلك الطراز.
أنواع الجرأة
يمكن تقسيم الجرأة من الناحية الكيفية والظاهرية إلى قسمين:
الجرأة المادية أو( البدنية) .
والجرأة الروحية.
وانطلاقاً مما طرح في علم النفس ، فإن هذين القسمين لا ينفصلان. فإذا كان الإنسان شجاعاً من الناحية الجسمية فهو شجاع ، إلى حد ما ، وإن إذا كان شجاعاً من الناحية النفسية مع الجسمية أيضا فذلك خير وأفضل.
وهنا أن نرى هل من الضروري تربية الناس على الجرأة في عصرنا هذا أم لا ؟ وهل من الصواب تأهيل المجتمع على الجرأة في ظل الظروف الراهنة والإمكانات المتاحة ؟
إنّ الجواب على هذا التساؤل سلبي من منظار البعض لأنهم يعتقدون أن هذا الأمر يهيئ الأرضية لشقاء وحرمان البشر ، ويسود هذا النحو من التفكير بين أتباع المذاهب المادية ، وذلك لأن مسألة الحياة الأخرى غير مطروحة لديهم ، فكل ما يفقدونه يعني عندهم خسارة خرجت من جيوبهم ؛ وشعارهم هو أنّ استغلال مواهب الحياة المتوفرة يتطلب أكل الخبز بثمنه اليوم.
أما الإلهيون فيقولون بأنه لا يمكن النيل من الحقيقة لدرء الأذى عن أنفسنا. فان إظهار الجرأة وإن كان يسبب الضرر في بعض الموارد ، ولكن من مصلحة الإنسانية القبول بهذا الضرر ، لأن الحياة بجمالها وزبرجها لا تقارن بعار الجبن. ومن ناحية أخرى فان الحاجز الوحيد الذي يقف أمام الشر والفساد والاستبداد ويقاومها هو الجرأة والشجاعة .فليس من الضرورة أن يكون كل شخص في هذه الدنيا بطلاً وقوياً ، ولكن من الضرورة بمكان أنْ يكون كل شخص شجاعاً وجريئاً.
ضرورة زرع صفة الجرأة على المستوى الفردي
الجرأة ضرورة للإنسان في كل مجالات الحياة. فالفرد الذي يريد أن يكون أميناً وصادقاً ومخلصاً في الحياة لابد أن يكون جريئاً. و الذي يريد أن يظهر على حقيقته ويبتعد عن الرياء والكذب والمراوغة والخداع والمكر فهو بأمس الحاجة إلى الجرأة. وأخيراً ، فالذي يريد أن يصون شرفه وكرامته ، وأن يدافع عن نفسه يجب أن يكون جريئاً. فلا علاقة لتقدم وارتقاء الأمم وأفراد المجتمع بتكامل أجسامهم وطولها ، بل بما لديهم من جرأة أخلاقية ؛ لأن اغلب حالات الشقاء والإخفاق ، والأخطاء والفساد المنتشر في المجتمع ناتجة عن ضعف الروح وهوان إرادة الأمة.
فكثيراً ما نرى في هذه الدنيا أشخاص لديهم مشاريع وأهداف عملاقة إضافة إلى الخطط الدقيقة ، إلا أنهم لا يمتلكون الجرأة في تطبيقها.
وعلى أية حال ؛ فان الجرأة والصلاح من أهم عوامل استقلال الإنسان. إن الذين يريدون أن يكون وقتهم ومالهم ملكاً لهم ولا يكونون ظلاً للآخرين ينبغي أن يكونوا جريئين يفكرون بأنفسهم ويطبقون ما يرونه مناسباً. فالجبان مستسلم أمام الميول والأهواء ولا يستطيع الصمود أمام الأحداث الطارئة ، بل سرعان ما ينهار في مواجهة الأفكار المباغتة فقد ينتقم من نفسه أو ينتحر.
وخلاصة الأمر : فالجبان مخلوق لا قيمة له ، فهو يبيح للآخرين حرية التصرف به كما يشاءون عندما يواجهه أدنى شكل من أشكال الضغوط.
الجرأة من الناحية الاجتماعية
تدلل التجارب بأنه كلما ازداد الإقدام والجرأة في المجتمع ، كان المجتمع أكثر حيوية ونبوغاً ، وأكثر تطوراً فالمجتمع بحاجة للجرأة كي يستطيع الصمود أمام المؤثرات السلبية ، ويحول دون انتشار الشرور والمفاسد. فندرة الأخلاق السامية والفضائل والمكارم في المجتمعات ، وتسلط الأذلاء والمفسدين وقصيري النظر على الآخرين يعود سببه إلى فقدان الجرأة. فما لم تكن الجرأة موجودة لا تتضح الحقوق والواجبات ، ولا يندفع الناس نحو الرقي والسمو فأصحاب الجرأة يسرون كسريان الدم والروح في مجتمعاتهم ، وهم أساس كرامة الشعب. وباختصار ، حينما تتبلور أخلاق المجتمع على أساس الجبن والخوف ، تتغلب السيئات على الحسنات ويتفشى الهوان.
الجرأة في نظر الدين
لم تتقدم الأهداف النبيلة في العالم ، ولم تترسخ إلا بعد اصطدامها بالعقبات ثم مواجهتها بالثبات والصمود. فقانون الدين يفرض أن يصمد الأفراد في سبيل الدفاع عن عقائدهم التي أمنوا بها بالرغم من أنهم قد يدفعون أرواحهم ثمناً لذلك ، وهذا هو تكليفهم ومسؤوليتهم.
إن الظلم جريمة والخضوع للظلم جريمة مضاعفة. يقول القرآن الكريم « لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ُظــلم » . يجب أن تكون للمظلوم جرأة ، فيصرخ وينادي مجاهراً بالحق في كل مكان وأمام كل ظالم. يقول النبي الأكرم (ص) : « أفضل الجهاد عند الله كلمة حق أمام سلطان جائر ».
فهؤلاء الذين يعجزون عن بيان الحقيقة هم في الواقع ـمنحرفون عن الحق ، بينما الحقيقة لم يصدر منها أية إساءة ضدنا.
الجرأة في نظر العلم
إن انتشار العلوم والمعارف ، والتعرف على أسرار السماوات والأرض حدث في ظل جهاد وتضحيات واستقامة وشجاعة الرجال العظماء الذين كانوا اكبر من زمانهم وعصرهم. فلقد كان هؤلاء يكافحون العقبات والمشاكل الاجتماعية التي كانت تعترض طريق انتشار واتساع المعارف ، وكان هذا ضرورياً لانتشار العلوم. والعلوم بأمس الحاجة إلى شجاعة العلماء الذين يجتهدون في سبيل تحقيق أهدافهم.
هل يمكن تنمية الجرأة لدى الأفراد ؟
إن الجواب على هذا التساؤل ايجابي لحسن الحظ ؛ لأن الجرأة أمر فطري والدليل على فطريته هو : أن الأطفال أول نشأتهم جريئون إلا أن الجبن يستحوذ عليهم فيما بعد في ظل تربيتنا لهم. إننا نميل ، ذاتياً إلى الجرأة والشجاعة من خلال الفطرة، ويغمرنا السرور عندما نسمع بأن البعض قد دافع عن نفسه حتى اللحظة الأخيرة. ووقف أمام العدو وقال كلمة الحق. فعندما نسمع أن شخصاً واجه السيف والقبر الضيق ولم يستسلم نبارك له في قلوبنا ؛ وبالعكس نتألم عندما نسمع أن شخصاً آخر قد استسلم وخضع للذل ليعيش يومين آخرين في هذه الدنيا ، ونوبخه على ذلك
. فالذي يدفعنا للتشجيع هو السباحة ضد التيار ، وإلا بإمكان كل ميت السباحة منحدراً مع تيار الماء. وبإمكاننا أن نعتبر الجرأة فطرية من وجهة نظر الدين ؛ لأن الله تعالى لا يرى ولكننا نرى مظاهره.
من أين تنشأ الجرأة ؟
للعثور على الجذور التي منها تنبعث الجرأة ، لابد من تقصي العوامل التالية :
1 ـ الفطرة : كما اشرنا سابقاً فانّ الإنسان يولد وفيه نفحة من الباري المقتدر في جانب الصدق والحقيقة المطلقة ، إلا أن الوالدين والمجتمع هما اللذان يطفئان هذه الجذوة فيه ويجعلان منه إنسانا جباناً وخواراً.
2 ـ الوراثة: والمقصود هي المواصفات التي تنتقل من الوالدين إلى الأطفال ؛ ومنها الشجاعة والإقدام، والتي ينشأ عليها الفرد فيما بعد.
3 ـ المزايا الجسمية والبدنية: إن الجرأة ترتبط بالمواصفات الجسمية من ناحية. فقلة أو زيادة إفرازات الغدد الداخلية لها تأثيرها في هذا الأمر. والمسألة الأخرى هي الجسم ؛ فالجسم القوي والسليم ـ بحد ذاته ، يحفز على الإقدام ويلعب دوراً إيجابياً في تكوين الشجاعة عند الشخص.
4ـ البيئة: وهي من العوامل المهمة في بناء الجرأة ومقصودنا من البيئة كلا البيئتين العائلية والاجتماعية:
أ ـ العائلة : وهي أول مكان لتربية الأخلاق ـ حسنها وسيئها ـ والكثير من المفاسد والأمراض الأخلاقية تنشأ من هناك. ويتعلق بها نشوء القسم الأعظم من المخاوف والوساوس. فالعائلة التي تسودها روح التمسك بالواجبات والشجاعة تخرج أبناء شجعان ؛ ويصدق هذا الأمر عندما تتحلى الأم بالإقدام. فالأم البارعة تعادل مئة معلم وأستاذ. إن الأم هي أصل البناء الفكري وأساسه ، لأنها تمسك بزمام الأمور في العائلة وتستقطب إليها قلوب العائلة وتجذبهم نحوها وتبعث فيهم الحياة.
لهذا يجب أن يكون أسلوب التربية بنحو يربي في الإنسان روح الاعتماد على النفس وقوة الإرادة والتصميم والمثابرة.
ب ـ البيئة الاجتماعية : والمقصود منها المدرسة والمجتمع والإقران والكبار ، حيث البيئة تلعب دوراً كبيراً بزرع مفهوم الجرأة في نفوس من يعيش فيها، فالبيئة التي تجنح للخنوع يكون الفرد فيها يتصف بالجبن وبالتالي لا يستطيع أن يكون غير ذلك.، ويكون المجتمع فيها يحكمه عامل التخلف والتأخر ويعم فيه الفساد والظلم والاستبداد.
انتهى عن الجرأة
يتبع لا حقاً عن الجبن وأسبابه