الكلمـــــة الحـــــرّة
الكلمـــــة الحـــــرّة
الكلمـــــة الحـــــرّة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الكلمـــــة الحـــــرّة

منتدى ثقافي عام
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مدينة بلا سور : قصة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: مدينة بلا سور : قصة   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 3:47 am


مدينة بلا سور


ـــ
حسن إبراهيم الناصر -


قصص ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ـ 2006



جنون الأرقام‏

مدينة بلا سور‏

كانت تبكي‏

أمنيات رجل‏

طائر النافذة المغلقة‏

الاتجاه المعاكس‏

تلال الرماد‏

زمن عبود‏

المقهى‏

أحلام بائسة‏

شموع‏

رجل يتوهم العشق‏

الخوف‏

شرفات عالية‏

ذاكرة الوجع‏

دعوة غير متوقعة‏

أوراق في مهب الريح‏

بوح الذاكرة‏

الفاجعة‏

الملهوف‏

أبو الريح‏

رحيل‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: جنون الأرقام    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 3:49 am

جنون الأرقام


أنهى شعبان تنظيف غرفة الجلوس ورتب الكراسي على شكل مستطيل مفتوح، تناول أوراقاً صغيرة بيضاً، وكتب عليها أسماء أفراد الأسرة وفق تاريخ ميلادهم، لكنه عندما وصل إلى الكرسي الأخير والمصنوع من الخيزران، فكر ملياً، حرك الكرسي دورات عدة قبل أن يركنه بالجهة التي تقابل كرسيه بينما يتابع دواليب الحظ على شاشة التلفاز. فكر قليلاً ثم فرش فوق الكرسي شالاً صوفياً كان يحتفظ به منذ زمن بعيد، تنهد قائلاً بصوتٍ مسموع: هنا تجلس جلنار... كرر الاسم مرات عدة "جلنار" وفي كل مرة كان يشعر بحلاوة الاسم تذوب على شفتيه، كلما نطق حرفاً من اسمها كان يتوقف طويلاً يسرح بخياله إلى الماضي، يا ه.. سنوات من الانتظار وأحلام الشباب ومشاغبات الطفولة، زمن من الوجع والانتظار، تذكر كيف كان يعبر خلف سياج الرمان متوارياً عن الأنظار، وحين يراها من بعيد كان يشعر بحالة لا يمكن وصفها، يلوح لها بيده، تركض إليه ناسية ما ينتظرها من عقاب إذا وشى بها أحدهم إلى والدها. يجلسان تحت سياج الرمان " كارثة أن يلتقي العاشق بمن يحب في عرف التقاليد، أحس كأن حروف اسمها تنسكب على فمه وتسيل قطرات ندية، لا شيء يغني عنها، لا هذا المكان النظيف، ولا الموسيقى الهادئة. ها هي المذيعة الأنيقة تعلن عن بدء دوران الأرقام ودواليب الحظ، شعر أن الأرقام تواجهه تنظر إليه بتحدٍ، الأوراق على الطاولة يتحرك القلم بين أصابعه، يكتب حروف اسمها على مهل، بينما خياله يستحضر ملامحها، شفتيها، خديها، عيناها، تمتم كانت الكلمات تذوب على شفتيها كلما التقينا، دخل في جدل مع ذاكرته، وقد اختلطت عليه الألوان، مد يده كأنه يتلمسها، أحاطها بمشاعره الدافئة مرر أصابعه فوق جسدها، فوق شفتيها توردتا، أخذها بين ذراعيه وراحا يرقصان على أنغام هادئة.. شعر بالتعب، تذكر حينما كانت تمر به وهو يقف خلف سياج الرمان أمام بيت أهلها، تنظر إليه بعينين تفيضان شوقاً، تعبر من جانبه دون كلام، وعيناه ترقبان شرفات البيت الكبير، يشعر الآن بقشعريرة تجتاحه، يا إلهي بعد كل هذه السنين لم تزل جلنار تعطرني كل صباح بحضورها البهي.. وما يزال زهر الرمان يتفتح على أطراف السياج القديم. تنهد شعبان بحرقة بعد أن أشعل لفافة تبغ كانت جنون تلك الصباحات المنفلتة من قيد المراقبة، أخذ نفساً عميقاً، لامست أصابعه الصورة، مررها على تقاطيع وجهها، تذكر كلماتها، هذه آخر صورة لي قبل أن نفترق، توقفت لحظة عن الكلام، نظرت في عينيه ثم تابعت ربما لا تستطيع الاحتفاظ بها. صوت المذيعة نبهه إلى الأرقام التي تدور مع الدواليب، كان عليه أن يسرع في كتابة أسماء الأولاد كلٍ على كرسيه المخصص، ثم كتب اسمه على الكرسي المصنوع من قش البردي، أخرج زجاجة شراب كان يحتفظ بها منذ زمن، سكب كأسين من الشراب الخمري، رفع الكأس بصوت مخنوق.... همس جلنار، هيا لنشرب بصحة الجميع، دارت نظراته مع الأرقام، بعد أن حذر الأولاد أن لا يصدر عنهم أي صوت. كاد يصرخ آه، آية، لاه.. ليست هي ضرب يده فوق الطاولة، الكرسي تدور به، والأرقام تدور على الشاشة، والكأس تدور بكفه. كان لديه شعور بأنه سيربح الليلة مع أرقام اليانصيب، ابتسم بمرارة " هو لم يربح في حياته شيئاً دائماً شعبان تلاحقه الهزائم لقد خسر الكثير من سنيّ عمره ولم يحقق شيئاً، تذكر أنه ما زال في ثياب النوم، دخل إلى الغرفة ارتدى بدلته الرمادية التي لا يلبسها إلا في المناسبات الكبيرة " وهل أكبر من جنون الأرقام مناسبة؟ " وقف أمام المرآة حدث نفسه، يا إلهي صار رأسه يشبه الربع الخالي، ضحك من الرجل الواقف في المرآة، ومن بدلته المهترئة.. نبهه ظل المرآة اسمع.. بدلة مهترئة أفضل من رجل خلف القضبان. دار وجهه إلى ظل المرآة أنت إنسان انتهازي عرفت أنني مشغول بمراقبة دواليب الحظ قلت لنفسك لتنتقم مني.. لن أرد عليك.. بدلة مهترئة ليكن، المهم أتابع دوران الدواليب. دار الحديث التالي بينه وبين ظله الواقف أمامه بالمرآة،‏

الظل: انظر جيداً نحن نتشابه في كل شيء، إلا شيئاً واحداً.‏

شعبان: ما هو يا فهمان أفندي؟‏

الظل: أنا أستطيع الكلام متى أشاء، وأقول ما أريد، وأنت لا تستطيع فعل ذلك، حتى لو كنت مع نفسك " الخوف يسكن داخلك ".‏

شعبان يلتفت يميناً وشمالاً " الخوف " ربما معك حق، آه لقد نسيت ما أتيت لأجله اتركني الآن سنتحدث بهذا الموضوع في الأيام القادمة، أخرجَ من جيبه الداخلية ورقة ملونة، حدق في الأرقام ثم هز رأسه معقول هذه الأرقام تربح الجائزة الكبرى؟‏

عاد إلى غرفة الجلوس مسرعاً، وقد بدا عليه الجدية أكثر، التفت إلى جلنار، هز الكرسي بيده ما رأيك سأربح الجائزة، وأبني لك بيتاً واسعاً، أحيطه بأشجار الرمان والتين، وأفرشه لك حبقاً وياسميناً، ضحكت حتى جسدها صار يضحك بين يديه، الله يسامحك ألم تزل تذكر، راحت أيامنا، قدم لها كأس الشراب، نظر إلى عينيها يا إلهي ما هذه الألوان الحزينة في عينيك؟ لا عليك سنربح الليلة، تركها لصمتها، وراح يرقص بفرح الأطفال، لقد بدأ ت الدواليب بالدوران، كان يرقص والكأس في يده تهتز ليندلق ما فيها على ثيابه، الدواليب تدور وهو يرقص، ويدور تظهر الأرقام من خلال المربعات الصغيرة يصرخ، يقفز في الهواء مرات عدة، هي الأرقام نفسها، 8، 4، 9، 1، 0، قال بحدة الرقم الأخير غير واضح لكنه متأكد أنه هو، رقم، 0، إذاً الجائزة الكبرى من نصيبه، صار يركض من غرفة إلى غرفة تداخلت الأمكنة، والأثاث، والصور، والذكريات، والكراسي الخالية، وأسماء الأولاد المتخيلين.. وقف على النافذة حدق بالبعيد البعيد، هناك حيث ترك طفولته الأولى، وشبابه حول ذلك البيت الواسع المبني من حجارة كبيرة، وسياجه من رمان وياسمين، دار في الهواء وقع الكأس من يده، تطايرت قطع الزجاج في أنحاء الغرفة، مشى فوق القطع المتناثرة بقدميه الحافيتين، شاهد آثار قدميه على بلاط الغرفة. أخافه لون الدم، دار حول نفسه دورات عدة وهو يرقص بحماس طفولي، شد جلنار إلى صدره.. ضغط على صدره بشدة، حبات العرق تظهر على جبهته.. على جسده، شعر برعشة برد تجتاحه، راح يرقص والغرفة تدور به، وفي زمنه وتخيلاته، يصرخ لقد ربحنا الجائزة.. هذا ليس جنوناً، الأرقام على الشاشة تدور، أحس بدوار شديد، فقد السيطرة على أعصابه، ثم سقط على أرض الغرفة بلا حراك.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: مدينة بلا سور   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 3:51 am

مدينة بلا سور


نيسان أقفل نوافذه الربيعية موشحاً بالليل، وحده أبو نواس ظلّ ساهراً يردد قوافي الشعر على مدرج من أنين، لم تزل بحة صوته ووقع نغماتِ حروفه تشكل سحابة من دمع يبلل صباح المدينة، يساهر قمرها، يدق على نوافذها المغلقة، تهدل نغماته كرف حمام. وحيداً يتجول أبو نواس في الشوارع والحارات الضيقة، تلاحقه عيون العسس ونباح الكلاب الضالة، يرنم قصائده على ضفاف نهر أوجعه عبوره إلى الساحات العامة في مدينة تنغلق عليها بوابات الوجع، أذهله كل ما يعدُ لها من أصناف الحقن المهدأة كي تنام باكراً، بعد أن خرجت المدينة من غرفة العمليات المبرمجة وفق أحدث مبتكرات العولمة الطارئة للولادات الحديثة، لولادات أطفال الأنابيب، وقفت على أبواب غرفة النوم السرية تخلع عنها أثواب الزينة البدوية وغبار الفيافي ولغة الشعر الجاهلي، لم تعد الخيمة مناسبة، كان عليها أن تخرج ذاكرتها.. من دواوين المتنبي والنواب والجواهري وحكايات الرواة. تمشي باستحياء إلى مخدعها الليلي، تشعل الأضواء الحمراء الخافتة كأنها امرأة تخرج من سواد تاريخها، تنحني للريح العاصفة، تحني رأسها أمام سرير سيدها، تدور الدورات السبع حول السرير، تنفتح في وجهها أبوابٌ وغابات من الأسرة، وبصوت غنوج تهمس: عبدتك بين يديك، للطاعة وتنفيذ الأمر. يلتفت الرجل حول نفسه مندهشاً، يفتل شاربيه الأسودين، يدور حول نفسه دورات سبعاً، لا يصدق ما يراه ويسمعه، راح صوته يعلو شيئاً... فشيئاَ كأنه يهذي. يا إلهي في النهار كانت هذه المرأة تستخدم قوتها لتصفع رجولته تستعبد ذكورته. كانت تعرف تفاصيل حياته " هيكلاً منفوخاً كطبل فارغ ". تلهو به، تدحرج سني عمره بقدميها فوق صقيع سريرها، تدعكه فيتصبب من جسده عرق لـه رائحة نتنة، وهو يحاول أن يثبت فحولته كما يفعل باقي رجال القبيلة مع النساء الحرائر.‏

قال لنفسه: أي فحولة أمام امرأة تركت بين ذراعيه كل جمالها دفعة واحدة. كان يلهث تعباً، من ثقل جسده المحشو بأصناف الطعام، أمسكت المرأة برأسه الضخم الذي لا يحوي إلا الصراخ والأوامر. جرته إلى صدرها الناهد، لكنه لم ييأس، فتَّل شاربيه ثم أغمض عينيه، وأشار إليها كالأبله، أنت سيدتي تقصدين بكل هذه الأناقة وهذا العطر رجلاً مثلي!‏

خلعت آخر ما يستر بياض جسدها الفاتن، مدت يدها الناعمة وبكل دلال أطفأت أنوار المدينة " تاهت المدن " وأسدلت ستائرها السود. حالة من سواد " تعم الدنيا، تتحول إلى غيمة تمطر وحلاً وأسئلةً، تاهت عن الدروب لم يعد أحد يدري إلى أين تقوده خطاه. صارت المدينة قطعة من ليلٍ لا نهاية لـه، مدينة تمشي بلا اتجاهات، حكايات تنقلها الريح. تقف على بوابات القصور " وأي قصور " وأسوار الحدائق المغلقة. حافيةً تركض في الشوارع الخالية من الناس. بهدوء ضغطت بأصابعها فوق زر صغير أضاءت مصباحاً خافتاً. انعكس لونه الأحمر على السرير. أدارت مفتاح آلة التسجيل. موسيقى راقصة. ليلٌ وموسيقى. ربطت حول خصرها شالاً من شعارات أغفلها ورَّاقو المدينة. صوت من عمق الليل يتعالى: لا تصرخي، لا تندهي فلا أحد يجيب! دوي يهز الأبواب. يتطاير زجاج النوافذ. مدت يدها لتأخذ بيده. كان يتكوم جثة تحت السرير، وكمن يفقد ذاكرته في اللحظات الحرجة أو الحوادث، شعرت كأنها تطير بلا أجنحة وقد تاهت عن تاريخها الموغل في القدم. راحت تغني وترقص على أنغام الجنائز وأزيز الرصاص. احتار الرجل ماذا يفعل وقد غدرت به فحولته أمام هذه المرأة المتألقة جمالاً وأنوثة، تارة تريده رجلاً، وتارة تابعاً تهزأ منه. لم يجرؤ يوماً ابن امرأة على اختراق مسرح شهرزادها الليلي أو الاقتراب من أسوار حدائقها. سحابة من غبار ورمل حارق. تركت فوقها ظلاً رمادياً ثقيلاً، تراكم فوق صدرها. التف حول عنقها كعقدٍ ثمين. توغل إلى جسدها توسد ثيابها الداخلية. صرخت. استجارت بأبناء القبائل الأقرب ثم الأقرب. حملت الريح استغاثتها إلى المضارب الممتدة من البحر إلى النهر، إلى الصحارى والسهول الداخلية. مشت مع مجرى الأنهار. تسلقت قمم الجبال. غاصت تحت موج البحار. اجتازت كل الوديان والهضاب. " ما في حدا " فيروز قد سبقها الزمن " لم يزل رنين أجراس العودة معلقاًً على بوابات الكنائس ومآذن الجوامع ومسرح الرحابنة!.‏

قالت المرأة: يبدو أنَّ في آذانهم وقراً " صمٌ، بكم عميٌ، فهم لا يفقهون" عبر الزمان تاه صوتها. بينما الرجال يمشطون لحاهم، ويفتلون شواربهم وهم يراقبون عارضات الأزياء على الشاشات التلفازية المتعددة والتي تنقلها الأقمار الصناعية المصنعة خصيصاً للقبائل، والمضارب والبوادي، والنساء كن منشغلات بنتائج مسابقات الجمال والأغاني الراقصة للنوادي الغربية. دوي غامض يهز النوافذ. تصرخ المرأة المدينة الحالمة. لا أحد يسمع صوتها. تمر الأيام. تعبر في شوارعها القديمة قوافل محملة بالتمر والبن، ودواوين الشعر. تمر من خلف صفحات تاريخ عبثت فيه أقلام الوراقين، وحفظة الأحاديث، والذين ليس لهم خبرة بأمور البادية والصحارى.‏

هو الغبار اللعين يحمل إليها ملامح السواد، حين عبر كل أسوارها صرخت المرأة من جديد. شيء ضاع منها. شعرت أنها تفقد الأشياء الجميلة والغالية الثمن. تقطعت حبالها الصوتية حين فقدت عذريتها جهاراً.‏

في تلك اللحظة، كانت نوافذ القصور مغلقة، والريح غربية تعوي في زوايا العتم، زوبعة رمل تغلق الأبواب ومسالك الطرقات في وجه الرجال كل الرجال! كأن الفجر تأخر، والمرأة المدينة تبكي ما ضاع منها، حين لم تجد من ينجدها، بلعت دمعها بحرقة، ثم رويداً رويداً تصالحت مع الوضع الراهن لتصبح مع الأيام امرأة ليل تبيع أنوثتها لمن يشتهي، صارت تؤدي طقوسها اليومية في وجود هذا الهيكل الذي لم يزل يحمل ملامح الرجال. صمت.. الأمكنة صامتة. الليل ومواء قطط الجوع، وبكاء أطفال تشردوا بفعل الريح والغبار. صمت في كل مكان، إلا صوت أبي نواس، كان يغني قصائده، بينما يوزع على البيوت الطينية سعف النخيل ودقيق القمح، وبضع حبات التمر. لا أحد إلا الرجل. والمرأة ترقص بثوبها الشفاف. هاجت رجولته. خلع كبرياءه. أتاها زاحفاً جاثياً على ركبتيه ويديه. تمرغ بعطر جسدها. مررت ساقيها فوق كتفيه " مدينة بلا سور " تزف نفسها إلى رجل بلا ذكورة. يلفه كل ما يوحي بالاغراء، كان يرتجف بين ذراعيها العاريتين خجلاً من وهنه، وماضيه. استسلمت المرأة لـه بانتظار الفجر. حرق السؤال شفتيها. وهل هناك فجر؟ أغلقت المدينة بوابات قلعتها.. وهل هناك قلعة؟ لم تبقِ الريح الغربية، لا قلعة، ولا أسوار.. ولا نوافذ.. ولا رجال، الحيرة تكاد تقضي على المرأة، دخلت غرفة نومها بحذر لتمارس هواياتها السرية؟ شعر الرجل أنه مرهق وأن حالته تستدعي الاتصال بطبيب الأمراض العصبية.‏

المرأة: جن الرجل.‏

الرجل: لم أجن يا امرأة من نار وحرائق.‏

صمت مخيف، فتح الرجل النافذة المطلة على عويل النساء المتشحات بالسواد منذ أول غبار معركة انتصر فيها الظلم على الحقيقة، أدهشه ما يجري. أنهر من الدمع والدم جرت تجرف في طريقها حصى البادية والطرقات الوعرة، حزن خانق، تقطعت أوتار العود، نز الدم من أصابع أبي نواس وهو يلقي مقتطفات من شعره في قاعة مغلقة لمحكمة أقامها الرواة والوراقون وكتبة دواوين السلطان. وحدك أبا نواس متهم بالمجون وشرب الخمر على قارعة الطرقات، وحدك أبا نواس تقول شعر الحقيقة، ظل أبو نواس يرتل شعره بالرغم من اعتراض الرواة والعسس ومواء القطط التي تغوص في أكوام القمامة تفوح من نفسها رائحة عفنة. أرادت المرأة أن تظهر مفاتن جمالها للرجل، على أن يستعيد بعضاً من رجولته. أشعلت الضوء. خاف الرجل، سألته بلهفة هل تخاف الضوء؟ قبل أن يجيب أسرع إلى النافذة أغلقها، وقف مندهشاً " الظلمة تخفي عيوبنا " كان حائراً ماذا يفعل أمام امرأة تشبه نور الصباح، تفرش جمالها بين يديه؟ لم يكن يتوقع حدوث ذلك حتى في أحلامه. أحس برعشة باردة تجتاحه من رأسه إلى أسفل قدميه، بدأت حبيبات صغيرة من العرق تتشكل فوق جبهته، وعلى جلده، شعر الرجل بسائل ساخن يجري بين ساقيه، بلل السائل أوراقه المبعثرة فوق أرض الغرفة. شكل السائل ساقية من حبر لـه رائحة عفنة تدفق السائل بقوة. فتح ثغرة في أكوام القمامة. تسلل من خلال شقوق الباب الخشبي. عبرَ مسرعاً درجات حجرية تؤدي إلى الشارع العام. ربما من الخوف أو من القهر، أطلقت المرأة ضحكة قوية ثم ألقت بعريها فوق جثة الرجل. الخوف جعله يقفز محتجاً في أرجاء الغرفة. أحس كأن جسدها تحول إلى ثعبان يتلوى. يطوق عنقه. يشد الخناق عليه. صرخ الرجل بصوت عالٍ. حاول أن يتخلص منها. دفعها بقوة. سمع دوي سقوط على الأرض. صرخ من شدة الألم. كان جسد الكاتب يتمدد على صقيع البلاط وحيداً. تحسس أطرافه. نظر حوله. بقايا أوراق ممزقة. سرير غير مرتب.. غرفة نوم لم تعرف عطر امرأة من قبل.. زجاجات شراب فارغة. كؤوس محطمة. كتب على رفوف خشبية قديمة يعلوها الغبار. أوراق صفر لم تزل أختام الولاة عليها. عباءات من ماضٍ ملقاة على درج قصور شهرزاد وألف ليلة وليلة. خناجر لها قبضات من ذهب وغدر. هز برأسه " ما هذه الكوابيس؟ " تناول الكاتب مصب القهوة. كان البخار يتصاعد على شكل سحابة صغيرة. رائحة الهيل المنعشة ملأت المكان. شرب فنجاناً من أجل الأحلام، وفنجانين من أجل ساقية الحبر، وثلاثة فناجين من أجل امرأة تشبه الصبح، وخمسة فناجين من الزنجبيل وجوز الطيب، من أجل مدينة غادرت أسوارها بلا عذرية، ولا حراس. حاول أن ينهض عن صقيع البلاط ترنحت مشيته. قال لنفسه يبدو أنني أفرغت كل تلك الزجاجات في جوفي. حاول أن يخرج من ماضيه، من يأسه. دخل إلى الحمام. تقيأ. شعر بالراحة قليلاً. ترك جسده تحت الماء البارد. وقفت لـه الكوابيس بالمرصاد. ضحك الرجل من نفسه. أكان كل هذا مجرد حلم. ارتدى ملابسه وراح يصب القهوة، ويشرب نخب المدن المترامية الأطراف.‏

دمشق: 9/4/2004.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: كانت تبكي    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 3:53 am

كانت تبكي


وحدها تجلس تحت ظلال شجرة الزيتون فوق التل المشرف على المخيم، ترتدي ثوباً فضفاضاً مطرزاً، تلفّ حول رأسها عصبة منسوجة من القصب والسّواد، يتدلى من أذنيها قرطان فضيان على شكل هلال، تتشكل في نسيج الثّوب ألوان من " الفلكلور الشّعبي " وأنت تنظر إليها كأنك ترى في تلك الألوان نموذجاً للحزن، حزنٌ يتوغل في الزمن منذ احتل " الصهاينة " فلسطين. ثم الجولان، إلى الجنوب اللبناني، واليوم " العراق " و.. و. سقطت الاحتمالات على شليل ثوبها المطرز بالألوان، والرايات ، تستدل منها على فلكلور " الديار العربية " من بلاد المغرب إلى آخر متر من بادية العرب. تتخيل المرأة الباكية، وهي تمرر ناظريها على مياه الخليج " ماذا حلَّ بها.. انقلب الماء على أهله وتكاثرت بيوض " سمك القرش ". المرأة تبدو كأنها تجمع ألوان الطيف في ثوبها بتناسق يُدْهشُ الناظر إليها، يمر صبي صغير من أمامها تمسح دموعه، تأخذه إلى صدرها وهي تلملم أحزانها تحت الشجرة، تحسب بصمت حبات الزيتون المتساقطة والمتناثرة من حولها، تشهق وتبكي زمناً زرع المرارة في صدرها، في كفيها، في جدائلها، في أحلامها، عيناها كنبع ماء يتدفقان بالوجع والخوف، شفتاها مشتعلتان كجمر، في كفّها عود من القصب تشد عليه بقبضة يدها، لا.. لا تظن أنها تغني أو تعزف الألحان!!. هي لا تجيد العزف على الناي، ولم يكن في كفّها ناي؟! " كانت تحفر الأرض بالعود وتبكي، تحت ظلال الزّيتون، يستبيح الدمع تجاعيد خديها زمن يحفر آثاره ويمضي بها وهي تجبل تراب الزّيتون بالدّمع، بعينيها المحمّرتين تراقب الدّروب الوعرة التي تمتد تحت أطراف حقول الزيتون؛ تلك الدّروب الممتدة إلى الشّوارع والسّاحات التي تفتح صدرها للأطفال والحجارة ولدواليب السّيارات المشتعلة، كلّ شيء من حولها يشتعل. كانت الأم التي ترتدي الألوان المزركشة بماضي العرب تبكي وتحفر في الأرض، غابت الأزمنة عنها وهي تجبل التّراب بالدّمع وتودّع مواكب الشّهداء، الأم تحت ظلّ الزّيتون تبكي؛ وتبكي معها الأنهار، والبحار، الشّواطئ الرّملية، الجبال، الوديان، السّهول، وعلى حواف البادية المفتوحة للوجع والحزن وفوق تلال السّفوح المغسولة بالمالح والحقول المزروعة بالقمح كانت تبكي وتبكي معها الأحلام والأمنيات والزّمن. تحت أظفارها ينبت القهر، الموت، آلاف من النعوش مكللة بالورد والوصايا، لا تصالح. بين يديها ديوان أمل دنقل.. لا تصالح. حكايا الغدر " يكتب " وائل بن ربيع.. لا تصالح.. دمي بين يديك أمانة؟!‏

حين عرضت صورتها على شاشة التّلفاز أسرع إليها العديد من الصّحفيين العرب، الذين تتوزعهم وكالات الأنباء العالمية، يحملون الكمرات التلفازية، يريدون نقل صورتها الصامتة إلى المشاهدين عبر المحيطات والخلجان والديار العامرة.‏

توقفوا جميعاً أمام صمتها المطبق على الحزن القابض على عود القصب، هي لم تكن تغني، كانت تبكي؟!‏

هي لا تبوح بأشيائها الخاصة لأحد، لا تدلي بالتصّاريح النّارية التي تجعلها تفقد أحد أبنائها، لا تقول شيئاً عن تمازج ألوان ثوبها عن عصبة رأسها المطرزة بالقصب المجدول بالفضة!‏

بعد محاولاتهم المخفقة أن يخرجوها من عالمها الحزين، أو أن تنتقل من مكانها إلى مكانٍ أكثر أمناً، كانت تبتسم بمرارة " وهل هناك أمن؟ " مدّعين رغبتهم الحفاظ على حياتها!! غادر جميع الصحفيين والمصورين و" البصاصين " من تحت ظلال الزّيتون ولم يحصدوا إلا مرارة الخيبة. ظلت تحفر بعود القصب الأرض.‏

أسرع إلى التّلة التي تجلس " المرأة الباكية " فوقها. العديد من الفنانين المهتمين بالرّسم والألوان والعديد من الكتاب، توقفوا أمامها قليلاً " حاولوا أن يخرجوها من صمتها، وحين تاهت كلماتهم بين الأشجار والسفوح وهي لم تزل صامتة غادروا كلٍّ إلى جهة يفتش عن آخر مبتكرات " الفن العولمي الحديث " من أغاني الطرب الجديد والموسيقا الراقصة وفديو" الكليب " بعد أن انشق الغبار، وتكشفت الرؤية. لم يبقَ إلا كاتبٌ واحد، ورسام واحد.‏

ثبّت الرّسام الورق المقوّى على جذع شجرة زيتون إلى جانب المرأة التي تبكي وتحفر بعود القصب في الأرض، أخرج ألوانه وفرشاته، وفي الجهة الأخرى جلس الكاتب وفرش ذاكرته وأوراقه وأقلامه وبعض الصّور التي كانت تزين صدر الصّحف اليومية، وراح يتأمل الأم التي تبكي بحرقة وهي تحفر بعود القصب في الأرض.‏

الرّسام يقف أمام اللوحة... يمرّن أصابعه اليابسة على الفرشاة يأخذ دوره، ويبدأ بنشر ألوانه على البياض، غمس الفرشاة بالألوان، رسم نهراً ومركباً وعاشقين رسم أشجاراً وقمراً يظهر من خلفها غيم، رسم طفلاً يحمل حجراً، ويحدق إلى عدوه بِلا خوف، نظر الرسام إلى وجه المرأة، ووقف حائراً كيف يرسم ملامح هذه المرأة التي تبكي وقد استعصت ملامحها عليه، وعلى ألوانه، وفرشاته، و خياله الفني، كيف يرسم تلك الدّموع التي تسيل على مهلها فوق التّجاعيد التي تركها الزّمن؟ ترك الفرشاة والألوان وجلس على الصخرة يدّخن، وعيناه ترقبان المرأة وهي لم تزل تحفر بعود القصب في الأرض، ترسم وجوهاً، وجدراناً وساحاتٍ ودروباً ضيقة، وملامح أطفال وحجارة.. و.‏

نفض الكاتب ذاكرته عن بقايا الرمال والغبار، حاول أن يجد كلمات يكتبها تُعبّر عن المرأة التي تبكي.‏

ضغط بأصابعه على القلم والأوراق، الكلمات تتراقص بلحنٍ حزينٍ على شفتيه. تسأل هل للثوب تاريخ محدد؟ فكًَّر قليلاً.. يبدو أن التاريخ متداخل في نسيجه "التاريخ كل شيء يقلقنا نعيده إلى التاريخ"، تجسده المرأة على لوحة الرسم.. هناك على الصدر ملامح من " جنين "وهناك على اليسار غزة، وبين الذراعين يجري بردى والليطاني، وحول الرقبة ينتشر بياض " الشيخ " وريحان جبل عامل، وهناك في الجهة اليمنى يتدفق النيل بهياً وتحت الصدر تنبسط سهول الهجرة نحوَ الشمال، بين الكتفين يعبر الفرات إلى بكاء النخيل، وصور عن الحزن والدمار، دجلة يغسل صباحات العراق، ويستريح الخليج فوق دفء الحواف! كانت الكلمات تشعل أصابعه،‏

شعر بألم في رأسه، كيف يكتب عن امرأة لها لون القمح، تمتلك قوة السنديان، ولقامتها ينحني الحور، عيناها على وسع البحر، على جبهتها ينبثق الضوء، ويتجمع المكان، يرسم فيهما ألواناً عسلية صافية، شعر بالعجز أمام ما تدلقه محابر صمتها بوجهه! ترك القلم، واختار صخرة مقابلة جلس فوقها. يتأمل المرأة الباكية وهي تحفر بعود القصب في الأرض وتجبل التراب بالدموع.‏

أشعل الرسام غليونه ومج نفساً عميقاً فانتشرت رائحة تبغه في المكان ترك حقيبته فوق الصخرة، تقدم إلى اللوحة، حاول أن يرسم الثوب بفرشاته المغموسة بكل ألوان الطيف، توقف قليلاً.. تاهت عنه أزمنة الثوب. لا يدري من أي ماضٍ قادم؟ كان عليه أن يوحد الألوان في الثوب؟ أعجبته فكرة توحيد الألوان في الثوب.. الآخرون أصابهم العجز عن تدارس أمر الثوب الواحد في عدد من الألوان، عليه هو أن يجمع كل ألوانه في ثوبٍ واحد.‏

كان قد رسم قدمي المرأة... الشواطئ.. الرمل.. البحر، الحارات، توقف أمام عينيها أراد أن يمنحها اللون العسلي أكثر قرباً للبادية " أخافته ملامح الوجه الباكي ارتعشت يده، كان يتخيل ملامح المرأة الباكية، توغلت الفرشاة إلى داخله.. إلى ذاكرته غمسها باللون، وراحت هي تفرش على اللوحة ملامح حزينة. كان عليه أن يتوقف ويعود إلى الغليون، والصخرة، والتأمل، ربما يتذكّر ملامح امرأةٍ لها لون الصباح، ورائحة البخور، وصوت فيروز " يا رايح صوب مشرق.. مشرق ما‏

بو ربيعي "ألوان الأرض، والزيتون، والبحر، شلال من الذاكرة يمر في خياله جعله يعيد صياغة أفكاره من جديد.‏

نهض الكاتب. دقق بما كتبه عن امرأة أقوى من السنديان، ذاكرتها من تاريخ الأرض، تبدأ صباحاتها بلقاء أطفال الحجارة، تجلس أمامهم كأنها تعيد عليهم قصصها منذ الفتح الأول.. وصوت المؤذن.. وقصة هذا التراب. ترى في عيونهم وجوه أولادها الذين أصبحوا غراس زيتون وجداول... امرأة تكتب بالقصب، وتحفر بأظفارها على جذوع الزيتون والسنديان تاريخ شعب لا يموت يتوالد مع كل مطلع فجر، ينهض إلى الحياة من رحم الشهادة والزغاريد، يزرع القمح والنخيل والزيتون تحت شليل ثوبها المزركش بالقصب، وخيوط من الذهب تعبر مواكب متتالية من حملة الرايات.. السيوف، الرماح.. الدروع، الشعارات، السيارات الفارهة.. مواكب الحزن، الفرح، القهر، البكاء، نهر من الدمع من الدم يجري تحت قدميها، على أطراف مساءاتها، تحكي للقادمين للراحلين لجوازات السفر، للموانئ، للشواطئ لليّالي الباردة، وللخريف، والصيف، والربيع، عن تاريخ ميلادها، عن تلك الأمكنة المسّورة بالعشق، تمطر عيناها دمعاً يجري في الوديان وتحت ظلال الزيتون شلالاً من دم.‏

الكاتب يشعل كلماته، يشعل دمه، دمعه، كفاه تلتهبان تحترق أصابعه، يقبض على الحاضر الموجع، على الماضي الذي لا يرجع ، يقبض على الجمر والانتظار؟!‏

الرسام تعبر في خياله كل الملامح، والألوان، واللوحات المعلقة على الجدران، والأرصفة، والمدن المرهونة " للعولمة "؟!‏

الكاتب يجمع كل ما تعلمه من لغة الحروف، وفن القص، وما قرأه من حكايات التاريخ، والأدب، والتضاريس، والحروب، عن النساء اللواتي يبكين في الفرح ويزغردن بمواكب الشهداء، بين يدي المرأة التي تجلس تحت ظلال الزيتون، والتي ترتدي ثوبها المزركش الطويل وقف الكاتب والرسام؟. انحنيا قليلاً، قدما بين يديها قرابين من ورق، وأقلام، وفراشٍ، وألوان.. وجلسا صامتين ينظران إلى عيني المرأة بحب.‏

نهضت المرأة، نفضت الغبار، والأزمنة، والألوان، والكلمات عن شليل ثوبها، مدت خطواتها باتجاه الساحات المفتوحة للأطفال والحجارة وراحت تغني بصوتٍ حزينٍ:‏

زين الشباب يمه... كفنيه بحنا وغار، اغسليه يمه بدمع العين والريحان.. الكفن يمه من الأرض.. ما عاد فيه عتم يمه...‏

شعلي يمه البخور على بوابة الدار. هدول المروا على الجسر يمه ما عادوا صغار.. يمشوا على حد النهر مثل الرمح.. مثل الصبح. غسلي زمانهم يمه من الحزن من الوجع... ت يضوي يمه ليلنا.. ويصير نهار؟!.‏

رف طير الحمام وطار.. فوق القدس يمه فوق الخليل والشام، يا شايل غصن الزيتون بيدك.. اسمع يمه كلامي زين، نحن العرب من زمن آدم ونوح وعيسى والنبي " محمد " عليه الصلاة والسلام... عندنا " المثل يمه.. بيقول: غير النذل يمه بالأرض، ما يخون؟!‏

دمشق: 2004‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: أمنيات رجل   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 11:27 am

أمنيات رجل


الشارع مزدحم بالسيارات العابرة، والناس غير مهتمين بالشارات الضوئية ولا حتى برجل المرور الواقف على تقاطع رئيسي، كان الشرطي الأسمر يتصبب عرقاً، وهو يلوح بعصاه الملونة بالأبيض والأسود، كلما اشتدت عليه شمس الظهيرة، يخرج من جيبه قطعة قماش بيضاء يرفع طاقيته ليمسح عرقه المتصبب، تراه بعض الأحيان نزقاً يشتم، وتارة يؤدي تحية بأدب إلى سائق سيارة عبرت دون أن تعيره أي اهتمام. ثم ما يلبث أن يثأر لرجولته فيصرخ بوجه سائق آخر، ما هذه الفوضى التي غرق فيها السائقون؟ كلّ مسرع إلى غايته، غير آبه بما ينتج عن رعونته من خسائر بشرية ومادية. قريباً من التقاطع، كان ثمة رجل رث الثياب، شارد الذهن، كان يطيب لـه أن يقف يومياً يراقب حركات شرطي المرور، ويقلده معجباً بما يقوم به تجاه العابرين، تخلق لديه حالة من عدم حسابات الزمن. يمر الوقت ولا يشعر بالجوع أو العطش. توقف الشرطي عن الدوران. أخرج منديله مسح عرق جبهته، كان متلهفاً إلى لفافة تبغ، لكن الواجب يمنعه.‏

حدث الرجل نفسه: إن الشرطي يشبهني بكل شيء، هو عليه أن يحتمل حر الصيف وبرد الشتاء، وتقلبات الفصول، من أجل لقمة العيش، تابع هازئاً " لكن أنا أنتظر من الآخرين أن يمنحوني لقمة العيش ". تتبدل الفصول على كلينا، و كأن الشرطي والرجل صارا جزءاً من المكان والزمان، الوقت ظهراً في شهر آب، إحساس ما دفع الرجل للشعور بالضيق من الشرطي والمكان. هاجسٌ يقلق الرجل. كان عليه أن يتذكر طريق عودته إلى بيته إلى ماضيه. دار في مكانه كمن يبحث عن شيء فقده. منظر الرجل بثيابه الوسخة يثير انتباه المارة. كان يرتدي طقماً رمادياً يبدو به وسيماً رغم مرور الزمن عليه. كم من الفصول تبدلت على الرجل وطقمه الرمادي. لم تزل ربطة العنق مكانها. حاول أن يتقن حركات الشرطي. أخرج أيضاً من جيبه قطعة قماش ملونة مسح عرقه... سأترك شارة المرور والشرطي اليوم، وأقف في الجهة الأخرى من الرصيف. كان يمشي يلتفت حوله كفاقد شيء مهمٍ. بعد أن وصل إلى الرصيف العريض، انتحى جانباً يراقب ازدحام الناس، أحس أن قدميه تلتهبان " كأن الأرض تكاد تشتعل. خلع حذاءه " بعض الحصى الصغيرة تسللت إليه عبر الثقوب الخبيثة التي انتشرت في نعل الحذاء كما ينتشر مرض الجدري على جسم الإنسان. أخرج الحصى من بين أصابع قدميه. حاول أن يسند تعبه إلى جدار تفوح منه رائحة البول والقمامة. تناول صحيفة كان يخفيها فتحها. ضحك من الصور، والأرقام، والأسماء، ثم وضعها بلا مبالاة فوق رأسه" هكذا أفضل" الشمس تكاد تحرق ما على اليابسة. تذكر وهو يحاول أن يستعيد الأسماء، والأرقام في الصحيفة، أن صورةً تشبهه وأنه قرأ شيئاً لـه علاقة بالتغيرات الكونية التي حصلت على المناخ العام للأرض وقد تأثر بها البشر، والشجر، والدواب كما تأثرت بها البحار، والأنهار، والمستنقعات، وأنه إذا ما استمر البشر بمعاداتهم للطبيعة وعدم الحفاظ على قانون الحياة، فسيواجهون جفافاً في كل شيء، الماء، والهواء، الزراعة والصناعة، أصبح كل ما في الكون يمضي بسرعة " الغاية تبرر الوسيلة " جشع الناس لا حدود لـه، الأخ يطمع في رزق أخيه، والزوجة تستغل زوجها، لكن الرجل لم يعد يذكر أين قرأ هذا الكلام، أو تركه مكتوباً، أو لمن تحدث به، ولم يجد من يسمعه، الحرارة تكاد تشعل قدميه، نظر إلى حذائه بأسى: لا فائدة ترجى من إصلاحك.. ربما أجد من يمنحني حذاء أفضل، حدق إلى عيون المارة وهم يجلدون كهولته بنظراتهم المتسائلة. سمع صوت امرأة خشن تقول وهي تتمايل من فرط سمنتها وقد اندلق بطنها أمامها، إن زوجة هذا الرجل، ذات شخصية قوية جعلته يفقد عقله. كانت تتكلم مع امرأة قصيرة القامة ذات شعر مجعد، وملامح تعبة تجرجر خيبتها إلى جانب سيدتها " المفرطة بالسمنة ". تابعت المرأة البدينة: الرجال بحاجة دوماً إلى امرأة قوية تحد من تسلطهم. تشد الخناق عليهم حتى لا يخرجوا عن الطاعة. شهقت متعبة كأنها لم تعد تستطيع أن تأخذ نفساً، وهي تنظر إلى امرأة فائقة الجمال. قامتها كشجرة حور. شعرها أسود طويل. وصدرها ناهد. توقفت أمام الرجل، نظرت نحوه بشفقة.‏

المرأة البدينة: كأن هذه المرأة كانت على علاقة بهذا الشحاذ، ألا ترينها اقتربت منه كثيراً، كأنها كانت تريد أن تكلمه، وخافت من عيون الناس، فتحت المرأة الأنيقة حقيبتها، أخرجت مبلغاً يبدو كبيراً دفعته إليه، ومضت دون أن تنتظر منه دعاء أو شكراً، كأنها تخاف النظر إلى عينيه. ذهبت المرأة الجميلة، وظلت رائحة عطرها في المكان. هزت المرأة البدينة رأسها بأسى.. هذه امرأة تجعل الرجل مجرد لعبة بين يديها. التفتت إلى خادمتها: خاصة رجل كسيدك أبي وائل، ولم تنسَ أن تعود إلى حديثها السابق " مجنونة المرأة التي تمنح ثقتها للرجل " حاولت الخادمة أن تنهض قصر قامتها، وهي تفكر بأي رجل يتقرب منها، حتى لو لا يستحق الثقة " استدركت حديث سيدتها: عفواً سيدتي، هل تظنين بسيدي أبي وائل سوءاً؟ فاجأها السؤال من الخادمة، تمتمت سيدك أبو وائل يظن نفسه أنه بهداياه الغالية، والكثيرة يشتري صمتي، ويخرس حاجتي كامرأة إلى الرجل. إنه واهم، أنا أعرف عنه أكثر ما يظن وراحت تعدد لها عن سفراته التي تطول ربما شهراً، أو أكثر خارج البلد أو الصفقات التي يعقدها مع شركائه تمد سهراته حتى آخر الليل، وغيرها، وغيرها، وأعرف أنه يهزأ من أنوثتي وترهل جسدي، ماذا أفعل حاولت كثيراً أن أتخلص من هذه السمنة اللعينة كي الفت انتباهه، لم أستطع، أنا متأكدة من زواجه مني.. لم يكن إلا صفقة بينه وبين مال والدي، هو رجل لا يعرف الشبع. تابعت بتهكم، لا من المال، ولا من النساء. أحس الرجل أن شيئاً يشده إلى هذه المرأة الجميلة، كأنه يعرفها. يعرف تفاصيل جسدها. تنفس بعمق. ورائحة عطرها حركت بقايا غريزته الجنسية. ياه زمن لم يعد يفكر بهذه الغريزة، كأنه نسي نفسه أنه رجل، من زمن لم يشتهِ امرأة. بعد أن شاهدها تبتعد عنه، شعر بحاجته إلى البكاء، أو الضحك، أو ربما إلى امرأة تلملم بقاياه. شيء يشبه المضحك المبكي. تعالت ضحكاته حين استمع إلى حديث المرأة السمينة، هز برأسه يبدو أنني أضحك على نفسي. تخيل الرجل أنه كان لـه بيتٌ يوماً من الأيام، وكانت ملابسه مرتبة نظيفة، مد يده رسم إشارات غير مفهومة، خافت المرأة البدينة شدت بثوب خادمتها، ابتعدي لقد تطورت حالة الرجل، خيالات وأشباح لها ملامح الماضي تمر في خياله، حاول أن يتأكد منها، خانته ذاكرته، لاح برأسه، قال بيت، وثياب نظيفة وامرأة ممشوقة القامة وعطر، مل من حالته المزرية، ومن حديث المرأة البدينة، دفع قدميه في حذائه القذر، مد خطواته متمنياً أن يكون لـه بيت في الواقع، لا في الخيال، تملؤه امرأة بعطرها كهذه التي دفعت لـه أوراقاً مالية كثيرة، عاد إلى الضحك من جديد، يبدو أن مظهري جعلها ترثي حالتي كي تمنحني هذا المبلغ الكبير، تابع تخيله، إيه لماذا لا يكون لـه مكان يأوي إليه حتى لو كان هذا المكان كوخاً صغيراً على أطراف البادية أو يكون قبراً يعود إليه آخر الليل بعد أن تتعب قدماه من الدوران في شوارع المدينة، أعجبته فكرة أن يفتش في مدافن المدينة عن قبر قديم، ينظفه ويفرشه بحصيرة، يمدد جسده فوقها براحته، دون أن يهزأ منه أحد، أو يوقظه حارس الحديقة، مسح دمعات ساخنة عن خديه، دعك عينيه. شعر بالألم. تاهت أفكاره. حاول أن يتذكر أنه شم رائحة جسد امرأة في حياته، فلم يستطع. مد يده، شعر أنها لمست لحماً طرياً انتابته حالة من فرح داخلي. حاول أن يقول كلاماً جميلاً، صرخات امرأة أخافته.. جعلته يقفز في الهواء، ثم يلتصق بالجدار. قالت المرأة غاضبة: أنت رجل وقح تستغل حالتك هذه في تحقيق رغباتك الخبيثة. ضحك الرجل، ثم بكى. يبدو أن أحلامه مجرد وهم، كما هي حياته كلها وهم. خابت ظنونه هو لا يعرف عن المرأة إلا ما يراه منها حين تعطف عليه ببعض الملابس البالية، أو النقود، أو الطعام، المرأة جسد لـه خصوصيته يتحرك أمامه في الشارع، يشتهيه. يحلم به في الليالي الباردة، لكنه لم يدخل على امرأة يوماً، لم تضمه إلى صدرها، لم تعبث أصابعه بشعرها. تظل حلماً بعيد المنال لرجل بحالته، كيف تكون امرأة لرجل بلا مأوى، حتى ولا اسم. لاح برأسه، ليتني أعود قبل الفجر، وأجد امرأة تصرخ بوجهي تلومني على تأخري.. تغسل بعطرها المسائي عذابات روحي، تدعك بيديها جسدي تحت بخار الماء، أن أجد طعاماً فوق طاولة مفروشة بالورد، وعلى منضدة جانبية، باقة من بنفسج تثير شهيته، أحلام الخيبة، أخرج من جيبه مرآة صغيرة مهشمة، نظر إلى عينيه على اتساعهما، كان في المرآة رجل يشبهه، ويشبه صور الرجل في الصحيفة.. يرتدي طقماً رمادياً، وربطة عنق في جيبه الخارجية قلماً وزهرة فل حمراء، لا يدري بمن يذكره هذا الرجل الذي يشبهه، في تلك اللحظة مر بجانبه شحاذ يتكئ على عكازين. توقف أمامه. نظر الرجل إلى عيني الشحاذ بلا تردد. مد يده. أخرج من جيبه الأوراق المالية التي دفعتها لـه المرأة الفائقة الجمال. قذف بها إلى الرجل. خذ هذا من نصيبك، وراح يمشي بقدمين تكادان تشتعلان على الإسفلت في الشوارع، يجرجر تعب جسده، كما تجرجره أحلامه الخائبة.‏

دمشق: 9 / 2003‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: طائر النافذة المغلقة   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 11:29 am

طائر النافذة المغلقة


قطرات مطر تنساب على زجاجِ النافذةِ المغلقةِ بوجهِ الريحِ، تنسابُ تلكَ القطراتُ على الحوافِّ بتمهلٍّ كأنها عالقةٌ بينَ الريحِ وبردِ الصباح، ثمةَّ طائرٌ يرفُّ بجناحيهِ الملونينِ بالبياضِ على النافذةِ، نفضَ ريشهُ المبللِّ مراتٍ عدة قبلَ أن يفتحَ عينيهِ مندهشاً، كانَ زائراً صباحياً غيرَ متوقعٍ، ينصتُ الطائرُ كأنهُ سمعَ صدىً يشبهُ النحيبَ..‏

يا إلهي رجلٌ وحيدٌ ينتحبْ!‏

ضرب الطائرُ بمنقارهِ مراتِ عدة على الزجاجِ، لعلّهُ يلفتُ انتباهَ الرجلِ، لكنَّ الرجل المحزونَ لمْ يرفعْ رأسهُ باتجاهِ النافذةِ مطلقاً، ظلَّ مطأطِئَ الرأسِ.‏

يتحدثَّ الرجلُ معَ نفسهِ: لا شيءَ يجعلُ الإنسانَ يغامرُ برفعِ رأسهِ.‏

دارَ الطائرُ الأبيضُ بعينيهِ باتجاهاتِ المدى، ثمَّ ثبتَ نظراتهِ باتجاهِ البيتِ، كانَ الرجلُ يجلسُ قبالةَ التلفازِ، عيناهُ حائرتانِ وهو يرقبُ الصّورَ التلّفازيةَ تتسارعُ على الشاشةِ الصغيرةِ، حاولَ أن يمدَ ساقيهِ، أن ينهضَ لم يستطع، تمتمَ بكلماتٍ لا تليقُ بهِ.. اللعنةُ، قاماتنا أصبحتْ تخوننا.. بل نحن نخون قيامة الزمن. ظلَ في الكرسيِّ يتململُ يمنةً ويسرةً، والصورُ تتسارعُ كأنها تستفزُّ رجولتهُ، نساءٌ ممزقاتُ الثيابِ يستبيحُ الدمعُ نضارةَ خدودهنَّ النديةِ، يلتففنَ بالسوادِ والوجعِ، أطفالٌ يتراكضونَ بأقدامٍ حافيةٍ في الشوارعِ القذرةِ، يهربونَ من الموت، من الرصاصِ " الذكي " ماذا تقول يا رجل.. رصاص ذكي زمن العجائب.. والجنودُ ذوو الخوذاتِ الصحراويةِ والملامحِ الغربيةِ النافرةِ، سيلٌ منَ الشتائمِ أطلقها الرجلُ على هؤلاءِ الغرباءُ، الذينَ تسمحُ لهم عُنجهيتْهم بتقييدِ رجالٍ لونتْ الهزيمةُ وجوهَهمْ بالسواد.. وارتسمَ الذل كالوشمِ على قاماتِهمْ المنحنيةِ.‏

بدا للطائرِ أنَّ الرجلَ فقدَ رجولته، بعدَ أنْ استهلكْتهَا تلكَ الصورُ المتسارعةُ على الشاشةِ، ووجهُ المذيعِ الملمع بالأناقة واللكنةِ الغربيةِ وهو ينقلُ الأخبارَ ويعلقُّ على تلكَ الصورِ بدمٍ باردٍ " حيادياً " كما يدعي، تساءل ما السرُّ في أنْ تتحولَ الدنيا إلى شاهدِ زورٍ وهي ترقبُ موتَنا البطيء؟!‏

توقفَ المذيعُ عن تحليلِ الأخبارِ.‏

وقالَ: الآن أعرضُ عليكم بعضَ الفرحِ، كانتْ الصورُ عبارةً عن أجسادٍ بشريةٍ بملامحَ لا تشبهُ الصحراء، تحرقُ جمال المدن، وتخربُ كل شيءٍ يمتدُّ إلى الجذورِ والتاريخِ والحضاراتِ الفراتيةْ. صاحَ الرجلُ يا للنخيلِ ويا لمواويلِ النخيلِ ماءُ دجلةَ صارَ بلونِ الحبرْ، انفلتتْ الأزمنةُ، الأرصفةُ مسكونةٌ بالريحِ والرملِ واللصوص، كانتْ الأرصفةُ تبكي وضفافُ الأنهارِ تشتعلُ بالنفط، والوجوهُ حائرةٌ والنساءُ كأنهنَّ أتين من أقبيةِ الثقفيِّ، يحملنَ رائحةَ الموتِ والدمارِ والعويلْ صوت أبي ذر من خلف رمالِ الربذةِ " انتبهوا يديكم على جمر الحجاج أو سيف أبي لهب.. تبت يدَا أبي لهب " ثمةَ نواحٌ معجونٌ بالمآسي يمزقُّ صمتَ الأمكنةِ. وحدها الريحُ وهذا الصوتُ يدقان أبوابَ الليل. عجبتُ لمنْ يجوعُ ولا يحملُ سيفاً " رددَّ الرجلُ بلهفةٍ، السيوفُ صَدِئَتْ في غمدها يا سيدي، تاَهتْ دروُبنَا عنِ المناراتِ، كأنَنا نعيشُ في حلقاتٍ مفرغةٍ، احتارتْ بنا المفارق، وتوزعتَنا المنافي والمدنُ وسفن تنقلُ موتنا بِلا جوازاتِ سفر، لم تعدْ الأشجارُ تموتُ واقفةً " حاولَ الرجلُ النهوضَ ثانيةً، لكنُه لمْ يستطعْ، الصورُ تتسارعُ على الشاشةِ، يبتسمُ المذيعُ الأنيقُ " والحيادي " والرجلُ يتململُ في كرسيهِ استغربَ الطائر.‏

كانَ الرجلُ لا يتحرك لكنه بدأ يرتعشُ ويهذي، كأنَّ الحمىَّ سكنتْ جسدهُ، تخيلَّ أنَّ الرمال دَفَعتْ برجل يلفه البياض يحمل كتابه بيمينه، قلةٌ أولئكَ الذينَ يحملونَ كتابَهُمْ بيمينهم. يصرخُ بالتاريخ والناس.. والشوارعِ التي تصفرُ فيها الريحُ ويتكومُ على أرصفتِها الرملُ. كانتْ الحاجةُ إلى لقمةِ العيشِ أقوى من صوتِ هذا الطالع من رحمِ الصحراءِ الملتفِّ بالبياضِ ومن يمينه. أخذتْ قامةُ الرجل الخارجةِ من رملِ الصحراءِ، تغوصُ في الماضي.. والرجل الجالس أمام التلفاز يغوصُ في كرسيهِ في زمنه. يلتفتُ حولَ نفسهِ كأنهُ يبحثُ عن شيءٍ، حدقَّ الطائرُ إلى الرجلِ وهوَ يحاولُ النهوضَ من جديد، خانتهُ قِواهُ مرةً أخرىَ، شعرَ الرجلُ أنَّ أحداً ما دفعهُ إلى موقدةٍ من جمرٍ وحرائق. في البيتِ الكبيرِ لا حركةَ، لا صوت لنحيبه.. و صدى المكانِ يردد صراخه. لقدْ غادرَ الجميعُ كل إلى جهتهِ أخذتهم الجهات إليها. تخيلَّ الطائر وعيناهُ مغروزتانِ بالصور وابتسامةُ المذيعِ الأنيقِ والحيادي، إنِّ الرجلَ مشلولٌ ووحيدٌ، فراحَ ينقرُ على الزجاجِ بشدةٍ، لا أحدَ يفتح. لم ينتبه الرجلُ لوجودِ الطائرِ على النافذةِ، هو لا ينظرُ إلى الأعلى، كانَ دائم النظرِ إلى قدميهِ. يخافُ الأماكنَ المرتفعةَ، تشعرهُ بالغثيانِ، تفكيرهُ توقف عن هذا المذيع الحيادي، وهو يلملمُ كلَّ صورِ القهرَ بالدنيا ويرميها بوجههِ رفَّ الطائرُ بجناحيهُ ودارَ حولَ البيتِ مراتٍ ومراتٍ باحثاً عن المدخلْ، وحينَ لم يجدْ، عادَ إلى النافذةِ من جديدٍ يرقبُ الرجل، مدَّ الرجل يديهِ محاولاً أن يتناولَ شيئاً ثقيلاً ليضربَ به وقاحةَ هذا المذيعِ الأنيقِْ، بينما المذيعُ يتبادلُ الضحكاتِ مع محللٍ ذي لحيةٍ ملونةِ وعينينِ ملونتينِ، ينقلُ بينَ أصابعهِ قلماً ملوناً، يسخرُ منَ الصورِ التي يمررَها المذيعُ على الشاشةِ بينَ الحينِ والحين.‏

ظنَ الرجلُ أنه يسخرُ من عجزهِْ.‏

الرجلُ: ضحكوا علينا دهراً وهم يقولونَ التاريخُ يعيدُ نفسهُ، يا للتواريخَ التي تعادُ على عقولنا، أين تاريخنا أين حضارتُنا؟ أين سيوفُنا، قوافُلنا؟ تذكرَ أنهُ قرأَ يوماً هذهِ المواويل على ورقةٍ مشلوحةٍ فوق طاولته: واكتبْ عالجفوفِ... اسمك.... هوية وصيت.‏

تندلّه البشرْ..... يا شعبي إشكثر عانيت وانطيت؟‏

وخبرتك..... تنعجن بالهم والأوجاع.‏

يكطعوني عليك أوصل.... وأبوس الكاع؟!!. "‏

يصرخُ الرجلُ، أينَ، تخرجُ منهُ ألفُ أينَ مزروعة كالشوكِ في حلوقِنا مفروشةً على صدِورنا. بعد قليلٍ شاهدَ الطائرُ أنَّ الرجلَّ تناولَ مزهريةً ورودها يابسة، وقد تُركتْ فيها بِلا اهتمام.‏

الطائرُ: ربما منذُ زمنٍ مركونةٍ على الطاولةٍ، هي مثل هذا الرجل لا تلقى العناية، تخيلَّ حالتَها وحالةَ الرجلِ، مركونانِ في غرفةٍ بِلا أنيسْ. بكلِّ قوةٍ قذفَ بها الرجلُ وجهَ المذيعِ " الحيادي " سمعَ الطائرُ صوتَ انفجارِ التلفازْ، لكنَ المذيعَ الأنيقِ والحيادي ظلَ ينقلُ الأخبارَ عن الريحِ والنخيلِ المخضبِ بالدمْ، ومشاهدَ الفرحِ في الشوارعِ.‏

رفَّ الطائرُ بجناحِيه، وراحَ يضربُ الزجاجَ محاولاً تحطيمُه.‏

الطائرُ: إذا لم يجد الرجلُ من يحكي معه، ويخرجُهُ من معاناتهِ سيصابُ بالجنونِ. تحرك الرجل.. دُهشَ الطائرُ يا ألله، الرجل ينهض يا ألله.. ووقفَ على قدميهِ، صفقَّ الطائرُ بجناحيهِ " فرحاً " الرجل يحاولُ أن يمشي، فجأةً ارتعشَ جسدهُ الضخَم صارَ يرتجفُ كأنَّ الحُمَّى استولتْ عليهِ من جديدٍ، صرخَ، لا أحد يسمعُ صوته، ترنّحَ، تمايلَ، وهوى بجسدهِ على الأرضِ بِلا حركةٍ.‏

دُهشَ الطائرُ، تحولَ فَرحهُ إلى حزنٍ ضاقَ عليهِ، رفرفَ الطائرُ بجناحيهِ وضربَ بهما النافذةَ حتى صارا يقطرانِ دماً، انتفضَ وارتعشَ الطائرُ مراتٍ عدةٍ في الهواءِ ثمَّ هوى على الأرضِ جثةً هامدةً.‏

دمشق: 9/ 3 / 2004‏

هامش:‏

" المواويل - للشاعر العراقي: عريان السيد خلف.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: الاتجاه المعاكس   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 11:30 am

الاتجاه المعاكس


كأن كل شيء في الحياة يعانده، كثيراً ما حاول أن يغير من طريقة تفكيره ليثبت لزوجته دلال أنه يتأقلم مع الواقع الذي فرض عليه، وأنه ليس كما تدعي دلال دائماً " كتلة من الجمود " لا يتصالح مع واقعه الحياتي الجديد، لكنه في كل مرة كان يفشل.. الطيبة تسكنه، تستجره إلى مواقف لا يحسد عليها، لا يستطيع أن يشاهد من يحتاج إلى مساعدة ويقف مكتوف اليدين ولا يسرع لمساعدته، في داخله صوتٌ مؤنب.. يا بني الإنسان إن لم يفد غيره بما يعرف أو يملك يصبح كالشجرة بلا ثمر " دلال: ألم تتعلم بعد كل هذه الانكسارات لقد تغيرت الدنيا يا أيمن، تغيرت ارفع عن عينيك تلك الغشاوة التي تسميها " الطيبة"‏

انظر إلى الحياة بجدية أنت تحاول أن تحصد الريح، افهم هذه المعادلة جيداً الحياة سباق " أيمن: وهل نحن في ملعب؟ دلال: في ملعب يا سيدي.. نعم في ملعب " والشاطر الذي يفوز " تابعت دلال: لا أدري كيف أدخل هذه الفكرة إلى دماغك الناشفة، الدنيا لم تتغير نحن الذين بدلنا نفوسنا يا دلال، أيمن يمشي وهو يكلم نفسه.. لماذا كل شيء يريد أن يقدم فيه عملاً نبيلاً يدفعه إلى الاتجاه المعاكس؟ " كلما أسرع إلى مساعدة أحد الذين يشعر أيمن أنهم بحاجة إليه يثبتون لـه أنهم أول من يتخلون عنه!. حتى دلال تلك الفتاة الطيبة التي كانت تشبه صباحات الياسمين الدمشقي صارت اليوم تبحث عن المظاهر البراقة، تحاول أن تمحي من ذاكرتها.. الحارة التي ترعرعت فيها، ووالدها الرجل الصالح.. كان يسعى وراء لقمة العيش طوال النهار.. هي اليوم لا شيء يعجبها وطلباتها لا تنتهي، تريد أن تسهر في النوادي الليلية وتأكل في المطاعم، وتلبس أفخر الثياب، تذكر وهو في الليل وحيداً مع خيالاته، كيف تعرف على السيد منير صاحب الشركة التي يعمل فيها الآن. كان يجلس وحيداً في مقهى الشرق يطالع الصحف اليومية، يحاول أن يكتب بعض الخواطر من الذاكرة، اقترب منه السيد منير مستأذناً هل تسمح لي بالجلوس إلى طاولتك ابتسم بلطف.. تفضل المقهى للجميع، ودون مقدمات قال السيد منير: أنا صاحب شركة تجارية كبيرة " اسمي منير عبد الله " أبو جميل بالواقع أنني أراقبك منذ مدة تغيرت ملامح أيمن وبدا عليه القلق تلفت يميناً وشمالاً" ضحك أبو جميل لا تخف لست ممن ظننت. تابع أبو جميل: كل يوم أراك تأتي في الموعد نفسه، تجلس على هذه الطاولة تقريباً، بعد أن تقرأ الصحف تبدأ الكتابة، لقد استغربت كم تمضي من الزمن وأنت تكتب " تخيل.. أن ابنتي تعيش في أوربا مع زوجها وأولادها، تعاتبني بعد أن ترسل لي عشرات الرسائل، حتى أكتب لها رسالة فيها بضع كلمات عنها وعن زوجها والباقي قبلات لأحفادي " ضحك أبو جميل وتابع كلامه: وطوال هذه المدة لم أسمع لك صوتاً بالمقهى، أو أنك تذمرت من سوء الخدمة وقليلا ما يشدك التلفاز، بعد أن تنهي كتاباتك تلملم أوراقك وتمضي، تمنيت أن تعمل عندي افهمني يا أخ أيمن.. أنا بحاجة إلى رجل يتحلى بالأخلاق يساعدني في تسيير أمور الإدارة " لقد تجاوزت السبعين من العمر " نحن في زمن لا يعلم إلا الله إلى أين يمضي يا بني " سعيد الحظ من يجد رجلاً أميناً في هذا الزمن. كانت فرحة أيمن لا تتسع لها الدنيا.. عمل وبهذه البساطة ومع صاحب شركة ودون مقدمات ولا توسلات جانبية.. أكيد هو في حلم، فرك عينيه مرات عدة.. ماذا قلت سيدي: أنا أعمل عندك؟ السيد منير: إذا لم تكن مرتبطاً بعمل. ماذا؟ مرتبط بعمل " منين يا حسرة " أنا يا سيدي متخرج في الجامعة منذ سنتين ولم أجد عملاً يأويني أو يدر عليّ مدخولاً أعيش منه.‏

أيمن: أنا.. أيمن خليل، خريج كلية الحقوق، عملت في بعض مطاعم المدينة لكن لم أوفق في عملي، والسبب بصراحة أنا لا أستطيع غش الناس أو خداعهم، كلما شعرت أن صاحب المطعم يغش في أصناف الطعام أو في الفاتورة، كنت أتدخل لصالح رواد المطعم، ثم عملت يا سيدي في مكتب محام كبير، احترق وأنا أشاهد المراجعين يدفعون الأموال لقاء أتعاب الأستاذ صاحب السمعة الطيبة، والاسم اللامع، دون أن يقدم لهم إلا الكلام والوعود الوهمية والتأجيل لقضاياهم، يقف أحياناً مع المعتدي.. ضد صاحب الحق، أصرخ من ألمي هذا لا يجوز، هناك أمور غير طبيعية يتم تمريرها من خلف القانون، وما إن أنتهي من صراخي حتى أجدني مرمياً على رصيف العاطلين عن العمل " هذه الدنيا غريبة " تضحك علينا وقد تعلمنا منها أن نكون " على الفطرة التي ولدنا عليها " ربت أبو جميل على كتفه لا عليك وراح يشرح لأيمن عن الشركة وعملها وقانونها الذي تلتزم فيه.. طبعاً أنت تعرف لكل صاحب عمل طموحه أن يزيد رأسمال الشركة وأن يربح في المشاريع التي يتفق مع الآخرين عليها " لكن شركتي تقبل بالربح المناسب والذي يزيد استثماراتها " مد يده إلى جيبه أخرج بطاقة كتب عليها عنوان المكتب وأرقام الهواتف.. نلتقي صباحاً. أبو جميل كلما انفرد مع أيمن في المكتب بعد أن يذهب الموظفون، يحاول جاهداً أن يخرجه من جحيم أفكاره السوداوية عن الحياة، في أحد الأيام تعرف أيمن على أحد العمال من الذين يحضرهم أبو جميل لتنظيف المستودعات أو لنقل البضائع وتحميلها في سيارات الشركة، كان ذلك الرجل والد دلال " والتي صارت اليوم الست دلال " بعد أربعة أيام من العمل المتواصل من الصباح حتى المساء، أصبح بين الرجلين حميمية في الكلام قدم أيمن في صباح هذا اليوم كأس الشاي بالنعناع وراح أبو دلال يحكي معاناته في الحياة وأنه أب لأربع بنات أكبرهن دلال.. طالبة جامعية، التفت إلى أيمن والله يا بني لا أدري لماذا ارتحت إليك.. شيء وجدته عندك مفقوداً بهذا الزمن، يبدو أنك ابن حلال، وأولاد الحلال قلة. مضت الأيام وقبل أن ينتهي عمله عند أبي جميل طلب أبو دلال من أيمن أن يزورهم في البيت، وهناك تلاقت نظراته بعيون دلال، لم يتردد في طلب يدها.. آه.. لقد تحولت الآن إلى امرأة مختلفة، بعد أن تحسنت أحوالهم هو لا ينسى معروف " أبو جميل "، أيمن حين يغادر مكتبه في الطابق الثالث، يكون الليل قد انتصف، كثيراً ما كان يترك سيارته الصغيرة، في الكراج أسفل بناء الشركة، ليقطع المسافة بين المكتب والبيت سيراً، لاحظ في الفترة الأخيرة أنه بدأ يميل للسمنة، حتى دلال زوجته أبدت ملاحظاتها الشديدة عندما كانا يلتقيان على العشاء المتأخر كالعادة، كانت تلامس بطنه بيديها وهي تسخر.. أيمن دير بالك على حالك أنا لا أحب الكروش " صارت ملاحظات دلال كثيرة، تؤنبه حين لا يرتدي بدلة وربطة عنق.. وحين يفرش على أرض الغرفة السفرة لتناول الطعام، وحين يلاعب طفليه رغد وسامي، كانا يركبان فوق ظهره وهو يمشي على يديه وركبتيه، تصرخ دلال: العمى ضربك العالم كله تغير.. إلا حضرتك تحن لماضيك.. انسَ يا أخي انسَ الماضي تذكر كلاماً قرأه على صفحات لرسول حمزاتوف " من يطلق ناره على الماضي.. يطلق الحاضر نار مدافعه عليه " كل ما حوله يشعره بالضجر والقلق، رغم النجاح الذي حققه مع أبي جميل وتحسن حالته المادية وترقيه في الشركة ليصبح مديراً إدارياً، لم يدخل الفرح إلى قلبه، الكثيرون ممن قدم لهم المساعدة، رفعوا تقاريرهم للسيد منير، يتهمونه بالتسيب وتبذير أموال الشركة " لولا أن السيد منير يعرف حقيقته لكان الآن يمشي على أرصفة المدينة يشحذ لقمة العيش ". أسئلة كثيرة راودته اليوم قال لنفسه: يبدو أنني أمشي على الرصيف المخالف للحياة، كما يقولون الاتجاه المعاكس؟! تذكره مآسي الناس الذين يشبهون حالته، عندما لم يكن يملك شيئاً، في طريق عودته بهذه الليلة الشديدة الحرارة، بينما يقطع الشارع العريض إلى الرصيف المقابل، أدهشة وجود ثلاث صبية لم يتجاوزوا الثانية عشرة من أعمارهم، يقرفصون خلف جدار مهدم، خلف حاوية القمامة، يتبادلون سيجارة فيما بينهم، كل يأخذ منها نفساً عميقاً.. ثم يناولها للآخر ويتكئ بعدها على الجدار القذر. فضول أيمن دفعه لمعرفة ما يفعله الصبية في هذا الوقت المتأخر، اقترب منهم حتى صار بجانبهم، لكنهم لم يشعروا بوجوده. بعد قليل انتبه أحدهم لوجود أيمن دفع رفاقه وأسرع ليركض باتجاه الشارع.‏

أيمن: لا تخف أنا أريد التعرف إليكم.‏

الصبي الأول: لماذا تتعرف علينا؟‏

أيمن: مبتسماً الحقيقة من باب الفضول، لقد خرجت من العمل وأنا أشعر بالضيق وعندما شاهدتكم استغربت وجودكم بهذا الوقت وبهذا المكان.‏

الصبي الثاني: وهل أنت من الشرطة؟‏

أيمن: يضحك من الشرطة " سامحك الله " وهل هناك ما يدل على أنني من الشرطة.‏

الصبي الثالث: إذاً لماذا تمشي وحيداً؟‏

أيمن: أحياناً يشعر الإنسان أنه بحاجة إلى أن يحكي مع نفسه " دون رقيب "‏

الصبي الأول: تعني شيء من الجنون؟‏

أيمن: يضحك.. لا " الجنون كلمة واسعة " الملل.. الضيق من تصرفات الآخرين.. الوحدة أحياناً تريح النفس.‏

الصبي الثاني: ولماذا تمشي في الليل؟‏

أيمن: أنا أحب الليل والوحدة.‏

الصبي الثالث: ما ذا تعني الوحدة؟‏

أيمن: تعني أن تنفرد بنفسك.. تكلمها، تعاتبها، بعيداً عن العالم المحيط بك.‏

الصبي الأول: لقد سمعت بالوحدة من قبل، لكن ليس بهذا المعنى!‏

صمت.... تدور همسات بين الأصدقاء الثلاثة.‏

الصبي الثاني: ماذا تعمل حضرتك؟‏

أيمن: في شركة تجارية".‏

الصبي الثالث: شركة تجارية وتمشي في الليل ومن دون سيارة وتقف معنا!‏

أيمن: ما الغريب بالأمر؟‏

صمت....‏

أيمن: ما هذه السيجارة التي تتبادلونها بينكم؟‏

الصبي الأول: نحن نعمل في ورشة بناء مع المعلم أبي سعود، وآخر النهار نشتري بأجرتنا، هذه السيجارة التي تراها من ابنه سعود.‏

أيمن: آه... سيجارة كيف!.‏

الصبي الثاني: لقد حزرت، سيجارة تجعلك تنسى همومك " تحلق بعالم الخيال "‏

أيمن: والمدرسة؟‏

صمت... يتبادل خلاله الثلاثة " همسات ضاحكة "‏

الصبي الثالث: " المدرسة يا أستاذ لا تطعم خبزاً.‏

أيمن: يفكر ثم يقول: ما رأيكم أن تعملوا عندي في الشركة؟‏

الصبي الأول: ما نوع العمل أولاً؟‏

أيمن: الحقيقة أنا بحاجة لرجل يعمل عندي. حدق في وجوههم، وأنتم تستطيعون أن تعملوا مكان رجل واحد.‏

الصبي الثاني: كيف؟‏

أيمن: أشار إلى الأول أنت تنظف الشقة والمكتب ودرج البناء، وأشار للثاني وأنت تأتي بالمشتريات والبريد، وأشار للثالث وأنت تعمل في البوفيه والطلبات التي يحتاج إليها صاحب الشركة.‏

الصبي الثالث: اعطنا فرصة للتفكير.‏

الصبي الأول: يطلب الإذن بالكلام، أستاذ هل عندك أولاد؟‏

أيمن: سامي ورغد.‏

الصبي الثاني: هل هم في المدرسة؟‏

أيمن: رغد طالبة في كلية التجارة، وسامي في الثانوية.‏

الصبي الثالث: عائلتك صغيرة.. ولد وبنت.‏

أيمن: متطلبات الحياة.‏

الصبي الأول: تصور أستاذ نحن الثلاثة أقل عائلة " مؤلفة من عشرة أشخاص.‏

أيمن: عشرة.. أعان الله والد كل منكم.‏

الصبي الأول يطلب الإذن بالكلام: لكنهم جميعاً يعملون في بيع الدخان والمحارم على شارات المرور، وفي تنظيف زجاج السيارات، وفي المطاعم أو الحدائق العامة؟!‏

أيمن: ينظر إليه بدهشة وحيرة، الحياة مريرة وقاسية.. لقد جربتها طويلاً.‏

الصبي الثاني: نعود إلى قصة العمل أين نلتقي؟‏

أيمن: يشير بيده إلى البناء الذي يقع فيها مكتبه.. هناك في الطابق الثالث نلتقي غداً صباحاً بإذن الله.‏

صمت... بينما يرتفع أذان الفجر.‏

أيمن: قبل أن يغادر يلتفت نحو الصبية، مارأيكم أن نؤدي صلاة الفجر معاً.‏

الصبي الأول: لكن لم ندخل إلى الجامع من قبل.‏

أيمن: لتكن المرة الأولى برفقتي.‏

الصبي الثاني: ولم نغتسل منذ أسابيع.‏

أيمن: في الجامع توجد " دورة مياه " وأنا أعلمكم طريقة الوضوء.‏

الصبي الثالث: يحدق إلى رفاقه، يخيم الصمت في المكان، بينما أيمن يمد خطواته باتجاه الجامع، وبيده حقيبته، تبادل الصبية الثلاثة النظرات إليها، وبلا أي تأخير ولا تردد انقضوا على الحقيبة ليخطفوها ويركضوا مسرعين تحت الأضواء الشحيحة. وقف أيمن حائراً، ثم راح يضحك من نفسه قائلاً: معها حق دلال أنا أمشي بالاتجاه المعاكس للدنيا.‏

دمشق: 1/3/2004 م

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: تلال الرماد   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 11:33 am

تلال الرماد


خلف تلال من رماد وزمن فاحم، تنتشر بيوت تئن متهالكة بعضها على بعض، مبنية من الصفيح، والحجارة، ووجع أناسها، تخترقها أزقة موحلة تعشش في جوانبها أكوام القذارة والجرذان، ثمة أولاد حفاة شبه عراة يلهون بطفولة موحشة، ونظرات تائهة، كانت الحاجة زهرية أم ناجي، تستيقظ كل يوم، قبل أن ترسل الشمس أشعتها على تلك البيوت التي تتكاثر كل يوم مع الحزن والأسى، تفرش بسطتها المكونة من البقدونس، والبندورة، والنعناع فوق طاولة خشبية تمد فوقها قطعة قماش نظيفة، وقد بللتها بالماء، كانت تجلس على مقعد حجري، امرأة من صبر تسعى إلى رزقها، ولقمة عيش أولاد ابنها ناجي، الذي ودعها في يوم من أيام عام 1982 كي يلتحق بالمقاومة الشعبية التي قررت أن تواجه الغزو الصهيوني لبيروت أول عاصمة عربية تدخلها القوات "الصهيونية" على وقع الصمت الجنائزي للوطن الكبير؟ كان ناجي يومها يعمل في ورشة بناء، يغادر بيته عند تشقق ضوء الصباح، مودعاً بنظرات زوجته وبسمتها التي تشبه الندى، ولا يعود إلا بعد صلاة العشاء، تستقبله أم ناجي بين ذراعيها، وهي تتوسل إلى الله أن يرزقه وأن يمد بعمره، ويستطيع تربية أولاده , لم يكن لـه ارتباطات، ولم تشده التيارات السياسية التي يضج بها حي الصفيح! كان إذا ما استدعاه الواجب الاجتماعي لمساعدة أحد سكان الحي يهرع بلا تردد، لا ينتظر أجراً ولا حمداً من أحد، ولا يبالي بالتوجيهات الحزبية. ناجي شابٌ معجونٌ بعشق وطنه، هو لا ينسى أن أمه حملته على ظهرها في يوم حزيراني مهزوم، يلفهّا الحزن ويسورها الوجع، تهيم على وجهها مع الذين تركوا أرضهم " وقلوبهم " في فلسطين، لتتوه فيهم " الهزيمة " تمتد بسوادها فوق بيوت من طين، وصفيح خلف تلال الرماد، طالت غيبة ناجي هذه المرة، الحاجة " زهر البان " كما كان يناديها أبو ناجي شعرت بشيء ثقيل يجثم فوق صدرها، قالت وهي تطلق العنان لدمعات حبيسة رحمة الله عليك يا أبا ناجي، كانا حين يجلسان عند الغروب تحت شجرة الليمون يشربان الشاي، يهمس لها بكلمات حلوة، تمتمت رحمة الله عليه كان ندياً بارعاً في انتقاء الكلمات التي تجعل المرأة يفيض عطرها كحبة الهال، يا لـه من يوم، حين دخل الصهاينة إلى البلدة التحق أبو ناجي بالمقاومة، قرر ألا يغادر القرية حتى لو دفع حياته ثمناً لها. عدد كبير من أبناء القرية رفضوا أن يتركوا أرضهم للمحتلين " منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر "؟ مسحت دموعها، أين أنت يا ناجي في هذا اليوم الماطر شديد البرودة، لا تستطيع أن تذهب إلى السوق. لم تفرش بسطتها كعادتها في مدخل الحي. نديمة زوجة ناجي: مالك يا خالتي أراك حائرة؟ خير إن شاء الله "! أم ناجي لم تنظر في عيني نديمة، لا شيء يمه شوية تعب ".‏

نديمة: أشعر يا خالتي أن قلبي مقبوض، والدمعة تكاد تفر من عيني.‏

أم ناجي: خير يا بنتي " الله يسترها معانا " فجأة سُمع صوت ضربات قوية على الباب أسرعت نديمة، فتحت الباب , كان ثلاثة رجال ملثمين يرتدون بدلات الخاكي المموهة وإلى جانبهم سيارة جيب صغيرة.‏

قال أكبرهم سناً: هذا بيت الحاجة زهرية أم ناجي؟‏

نديمة: وصلت خيا.‏

الرجل الملثم: نريد أن نحكي مع الحاجة.‏

صاحت نديمة خالتي، يا خالتي إنهم يسألون عنك، نهضت أم ناجي، وهي تتمتم بالدعاء والسؤال إلى الله أن تكون العاقبة خيراً، شدت الغطاء الأبيض على رأسها ولفت به عنقها.. نعم يا بني، نظر الرجال الثلاثة في سواد عينيها، والكلام يرتجف على شفاههم " لم يستطع أي منهم أن يخرج الكلمة من فمه ".‏

الحاجة زهرية: خير خيا كأن في عيونكم كلاماً صعباً، نظر الرجال إلى وجهها بصمت، تقدم أكبرهم منها.. نحن، يا خالتي، من المنظمة نحمل إليك كل ما يخص أخينا الشهيد ناجي " قبل أن يكمل الرجل كلامه شعرت الحاجة " زهرية " أن الأرض تلف بها وتدور، فراحت نظراتها تجول في المكان، قدماها لا تحملان جسدها، أسندت قامتها إلى الجدار، حاولت أن تتماسك أمام الرجال.‏

الرجال دفعة واحدة: كلنا شهداء في الطريق إلى فلسطين يمه. انطلقت من فمها زغرودة مخنوقة بالدمع، لم تشد شعرها، ولم تصرخ، أحنى الرجال الملثمون رؤوسهم بين يديها " كلنا أولادك يمه " مسحت بيدها المرتعشة على رؤوسهم بحنان " الأرض أمنا كلنا " ولولت نديمة، وهي تضم الولدين إلى حضنها. شدتها الحاجة من كتفها يمه ناجي ابن فلسطين " وين بدك إياه يكون، لقد انزرع سنديانة بترابها " ناجي شهيد، والشهيد ابن الأرض والسماء. احتار الرجال أمام هذه المرأة بقامتها الباسقة كحور على ضفاف نهر، شعروا أنهم أقصر قامة من هذه المرأة.‏

أحد الرجال يهمهم: يمه ولا يهمك نحن معكم، قدم الرجال كل ما يلزم لأسرة الشهيد من معونات تقدمها المنظمة، ودّعوا الحاجة زهرية، والأولاد ورحلوا، لكن شيئاً داخل أم ناجي جعلها تحس أن ناجي لم يزل حياً، وأن لقاءها به قريب، رفعت يديها إلى السماء " اللهم أنت المنجي وأنت المغيث وأنت المحيي وأنت المميت، اللهم أسألك الرحمة " وزعت أم ناجي المعونات التي منحتها المنظمة لها على أطفال حي الصفيح.. يقال في الحي إنها لم تقف يوماً أمام مكتب المنظمة لتأخذ منه ما يخصص لكل شهيد، كانت تردد: هذا ليس تكبراً على مساعدات المنظمة لكني أشعر أن ناجي حيٌّ، وهذه المعونة ليست من حقي؟ وعدت ناجي أن أربّي ولديه من تعبي حتى يعود.‏

نديمة: ناجي راح يا خالتي، ونحن بعد الله لم يبق لنا غيرك، أخذتها إلى حضنها. مسحت على شعرها بحنان. يمه وتراب فلسطين ناجي راجع.‏

نديمة: أخ يا خالتي يا حسرتي " لو يرجع الميت " ما كان حدا بكي على ميت.‏

أم ناجي: توكلي على الله يا نديمة، هناك ما يطمئنني أن ناجي حي يمه، مرت الأيام والحاجة زهرية تستيقظ قبيل الشمس تفرش بسطتها في مدخل الحي تبيع الخضار وعيناها تترقبان كل قادم " شعورها يطمئنها إلى عودة الغائب " ونديمة تعمل في البيت، والأولاد صاروا بالمدرسة، تعبر الأيام فوقها تشوي جسدها على نار الانتظار، وأم ناجي، في الصباح تبيع الخضار، وفي الليل تسهر مع أحلامها، تتخيل ناجي قادماً يدق الباب، كأنها تسمع وقع خطواته تتعالى حول البيت تسرع لتفتح النافذة، ولكن لا شيء إلا الريح ونباح الكلاب الشاردة، ومواء القطط الجائعة، في هذه الليلة الشديدة الحرارة من شهر أيار، كانت نديمة نائمة تلف بحضنها ولديها، وقد استسلمت للأمر الواقع راضية بقضاء الله، رفضت أن تترك خالتها وتذهب إلى أهلها.‏

نديمه أجابت أمها حين طالبتها بالعودة معها إلى البيت، سأبقى مع أولادي، وأم ناجي. لم تجبرها أمها على شيء بل قالت: يمه بعدك صغيرة لازم تشوفي حياتك، العمر ليس لعبة يا نديمة " لكنها رفضت وظلت مع خالتها وولديها. في هذه الليلة شديدة الحرارة، كانت أم ناجي تضم إلى صدرها المذياع الصغير، وهي تسمع أغاني الانتصار وكيف رحل " الصهاينة عن الجنوب، وهم يلملمون هزيمتهم وأشلاءهم " وأتباعهم " عن طهارة الأرض التي تنبت رجالاً يؤمنون بأن إرادة النصر، وقوة الإيمان أقوى من أسلحة العدو، وأنه مهما طال ليل الغاصبين، لا بد من رحيلهم. كانت أم ناجي تبكي، لا تدري من الفرح أو الحزن. تذكرت ناجي يوم ودّعها ليذهب للدفاع عن بيروت، وهي تمسح دموعها " وينك يمه، أخ شعرت بغصة كادت تقضي عليها، يا إلهي المذيع يكبر" الله أكبر " منذ أعلنت فضائية " المنار " في الخامس والعشرين من أيار انتصار المقاومة، والأخبار المفرحة تنهال على لبنان، وخاصة حي الصفيح، لقد تحرر اللبنانيون، والعرب الأسرى جميعاً من سجن الخيام، لا تدري لماذا تشعر أن ناجي بينهم، يا إلهي، لقد حول الصفيح حرارته إلى جحيم، صارت جدران البيت تتكئ على نار، لم تطق أم ناجي أن تنام، ظلت ساهرة تستمع لإذاعة " القدس " ترهف السمع أكثر. يا إلهي طرقات على الباب كأنها تعرفها، رائحة عرق لرجلٍ ملأت ساحة الدار الصغيرة، رائحة الرجولة هذه تعرفها أم ناجي جيداً، ركضت حافية القدمين وهي تصيح بصوت متحشرج يغص بالدمع، ناجي يمه جاي لعندك يمه، نديمة يا نديمة ناجي على الباب، ألا تسمعين دقاته، ألا تشمين رائحة عرقه، آه يا نديمة نسيتِ رائحة عرقه؟!‏

بسملت نديمة قائلة حسرة على خالتي " تعلقها بناجي جعلها تفقد عقلها " فتحت الحاجة زهرية الباب، تاهت نظراتها، أرادت أن تزغرد، اختنقت الزغاريد في حلقها مع الدموع يمه ناجي قلبي كان شاعر يمه.... أنك حي، ما صدقوني! آه يمه كم حكيت لأولادك أنك راجع، وسقطت مغشّياً عليها، حملها ناجي مددها على السرير، خنقته الدموع، وهو يحتوي بحضنه ولديه وزوجته، أسرع الجيران إلى بيت أم ناجي يباركون لها عودة الغائب، ويباركون لأنفسهم جميعاً بالانتصار الذي حققته المقاومة على " هؤلاء الأوغاد الذين " صورهم الإعلام على أنهم لا يقهرون. كان أهل الحي، وكأنهم نسوا معاناتهم بهذا الحي المركون خلف الرماد والصفيح والحزن، راحوا يسمعون من ناجي رحلة عذابه منذ وقع بالأسر، وهو يدافع عن العاصمة بيروت، وكيف تم تطويقه مع مجموعة من رفاقه بعد أن نفدت ذخيرتهم والحاجة أم ناجي تراقبه بعينين تائهتين تريد أن يتركها الجميع لتحتويه في حضنها تحكي لـه هي أيضاً عمّا جرى لها بعد غيبته الطويلة، كان ناجي يتكلم، ودموعه تغسل سنوات القهر، والعذاب المريرة، وكيف كان " الجلاّدون " يُعرّون الأسرى من ثيابهم كل صباح يدلقون على تلك الأجساد المثخنة بالجراح الماء البارد، ثم تمرر الأسلاك الكهربائية بين أصابع أقدامهم ترتجف الأصابع، كان صراخ الرجال يقهر صمت الجدران التي صارت رفيقة صبرهم، وأحلامهم، وأيامهم المريرة، وسهراتهم، وهم يغنون للوطن، والحرية، كل من في البيت كان يبكي، من الفرح تارةً، ومن الحزن والألم تارةً أخرى. كان ناجي في نظر الجميع يمثل كل ابن عائد إلى أمه وناسه، وهم يرون في وجهه كل مقاوم.‏

تهمهم أم ناجي، وهي تضمه إلى صدرها.. لم تزل الأرض تلد الرجال، ولم نزل نقبض على مفاتيح العودة وتضيف اسمع يا بني، هناك في الخزانة القديمة تحت كتاب تركه والدك، يوجد مفتاح البيت في " فلسطين، لا تنساه يمه، وإلى جانبه صرة بيضاء فيها حفنة من تراب أرضنا هناك.. حافظ عليها عيون أمك، التفتت إلى نديمة بعينين مغرورقتين بالدمع، نديمة بنت حلال وأصيلة يمه حاول أهلها أن يأخذوها لكنها رفضت، وبقيت معي ومع الأولاد، حافظ عليها" خبيها جوا عيونك يمه " الأصايل قلة بهذا الزمان، وهؤلاء الناس كلهم أهلك، يشهد الله أنهم لم يتركونا يوماً وقدموا لنا كل مساعدة، أكثر مما نتوقع أثناء غيابك يمه بحياتك أرجو أن لا تزعل أحداً منهم، كانت تتكلم، وعيناها تجولان على الوجوه والجدران، بسطة الخضار.. ثم تحط الرحال على نديمة والولدين الصغيرين، مدت يدها المرتجفة شدتهم إلى صدرها، وهذه البيوت المنسية خلف تلال الرماد تشهد علينا، ركزت نظراتها إلى وجه ناجي، وأسندت رأسها إلى صدره ثم أغمضت عينيها بهدوء، وفارقت الحياة.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: زمن عبود   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 11:57 am

زمن عبود


حين غادر عبود الضيعة مهزوماً يحمل عاره على ظهره لم يكن يجرؤ على النظر إلى الخلف، حمله ثقيل ويداه ملوثتان بما خلفتاه من أضرار ومآس، كان من الصعب على أهل ضيعته أن يغفروا لعبود تلك الأعمال المشينة، التي كان يقوم بها متستراً بسواد الليل، وخوف الناس من جرأته وقوته، يركض عبود حافي القدمين على طريق الضيعة الوعر، تنغرز الحصى في أسفل قدميه الحافيتين، ينز منهما الدم، لكنها لم تكن أقسى من نظرات أهل الضيعة التي تنغرز بظهره كالمسامير، يصرخ عبود مصلوباً على ألواح الرحيل ولا من مجير، يلهث يسيل دمه، تهان كرامته، يركض، وخلفه يركض زمنٌ بلا لون ولا ملامح كل شيء من حوله يتبرأ منه، تلفه الشتائم التي قذفتها بوجهه سعاد الأمين، حين " ضبطته يحاول إغراء ابنتها بدرية، سمعته يقول لها وهي مستسلمة بين ذراعيه: غداً يا بدرية عندما أذهب إلى المدينة، وأعمل هناك سأجمع لك مهراً تحكي صبايا الضيعة عنه وتتباهين به، سمعت سعاد الأمين صوته المخنوق بالرغبة والشهوة المكبوتة، كان عبود يهمس في أذن بدرية، وهو يحاول الدخول إلى غابات أنوثتها الفتية كلاماً جعلها تنسى نفسها ومصيرها بين رغباته الجامحة. أنت يا بدرية أجمل بنات الضيعة، سأجعلهن يحسدنك قريباً تعرفين ذلك.. بينما يداه تعريانها من ثيابها؟ صرخت سعاد الأمين وهي تهوي عليه بالعصا، ثم تشده عن صدر ابنتها أيها القذر ابتعد عن ابنتي، لم يكن أحدٌ بالضيعة، يسمح لعبود بالاقتراب من داره.‏

الشيخ فاضل كان يردد: الدار التي يدخلها عبود " تصبح نجسة لا يقبل فيها نذراً ولا صلاة ولا دعاء؟!‏

وحدها بدرية كانت تمسح عنه تلك الأقاويل والحكايات التي يقصها الناس في آماسيهم حين يلتقيان بعد الغروب، وهم يجلسون على المصاطب الطينية، كانت بدرية تضمه إليها تفتح لـه صدرها، ادخل يا عبود فتش عن الدفء والأمان، هنا ملاذك الأخير لا تبحث عن أمك ولا أبيك، أنا أمك وأبوك، وأنا أهل ضيعتك، كانت بدرية " العرجا " كما ينادونها لها قدم ملتوية بعكس القدم الثانية، لا تستطيع السير طويلاً تشعر بالتعب على الرغم من لون بشرتها السمراء الغامقة، منحها الله ملامحَ تشد الناظر إليها، سواد عينيها الواسعتين فمها الصغير، شفتاها الرقيقتان، صدرها يبرز نهدين مكورين ينفران حلمتيهما من تحت قميصها المشدود على جسدها، حديثها عذب، كانت شديدة الاهتمام بأحواض الورد، وعبود. أيتها اللعينة سيرتنا صارت على كل لسان في الضيعة، قالت أم بدرية: اللعنة عليك وعلى عبود، واحد حرامي كذاب لا أعرف كيف أنت مقتنعة به، صمتت الأم قليلاً.. لو تعلمين يا بدرية ما فعله عبود بعائلتنا لكان رأيك غير ما أسمعه الآن؟ وماذا فعل بحق السماء؟ أرجو أن تحدثيني بكل شيء. تصمت الأم حائرة كيف تخبرها وهي تعرف شدة تعلقها به، نظرت بدرية إلى ساقها العرجا وقالت لأمها: كما ترين لست أفضل حالاً من عبود. يمكن يتوب ويصبح مثل العالم مع بعض العناية به، وتعويده الاعتماد على نفسه، لكن هذه القدم العرجا من يعيدها إلى طبيعتها.‏

سعاد تتأفف وتضرب عبود بالمكنسة، أيها الوغد تخون العيش والملح، تظن أنني لا أعرف عن ماضيك شيئاً.. وقلت لنفسك سعاد امرأة أرملة وما لها أحدٌ يدافع عنها. اسمع أيها الخسيس، صحيح أنا امرأة لكن بعشرة رجال من أشكالك الخبيثة، إذا رأيتك مرة ثانية تحوم حول الدار فستكون نهايتك على يدي، يضحك عبود بخبث، كل هؤلاء المتكومين أمام باب داركم حضرتك أنهيت حياتهم يا أم بدرية؟ أنت تضحك لمعلوماتك أيها الوغد " وهذه أول مرة يسمع واحد من الضيعة " أن سعاد الأمين تحتفظ ببندقية زوجها الذي قتل خطأ عن طريق طلقة من بندقية صياد في الغابة البعيدة " والقاتل لم يزل طليقاً تابعت سعاد قائلة اسمع يا عبود الأجرب.. البندقية لم تزل بمكان أمين لكن إذا احتاج الأمر فستكون أنت أول من يموت بطلقةٍ منها.‏

شعر عبود بالخوف، أول مرة يخاف ينتابه هذا الشعور أحياناً عندما يتسلل إلى البيوت يسرق الدجاج والغنم، وأحياناً أكياس القمح. قليلةٌ هي المرات التي كان يشعر فيها بالخوف، يغيب بعدها عن القرية أياماً عدة يقضيها كما يقول بعض الذين يلتقون به في المدينة، إنَّ عبود يمضي أياماً في دور " اللهو " يصرف ثمن المسروقات على الراقصات وطاولات المشروب والقمار ويرتدي الثياب الجديدة.‏

وتقول مريم السعيد، وهي طالبة تتابع تعليمها في الجامعة إنَّ من يشاهد عبود في المدينة لا يصدق أنه عبود الأجرب الذي يعيش بيننا؟! " ثيابه نظيفة وأنيقة ورائحة العطر تفوح منه".‏

لكن بدرية راضية بعبود كما هو، ولا تريد أن تعرف عنه المزيد!‏

تقول بدرية وحياتك يا أمي بعد الزواج سأجعل منه رجلاً يعتمد على الأرض " الأيام قادمة، سيتحول إلى رجل آخر. وتهددها سعاد قائلة: سيكون ذلك اليوم آخر يوم في حياتي، عندما يدوس بقدميه القذرتين بيتي أو أرضي.‏

يجتمع بعض جيران سعاد، يهرب عبود تاركاً بدرية تواجه غضب أمها.‏

لكن هذه المرة اختلف الأمر، لم تكن مشكلة عبود مع الأرملة سعاد وبنتها بدرية كان عبود ملقى على الأرض ومن حوله رجال المختار ينهالون عليه ركلاً وضرباً.. وهو يصرخ مستجيراً، لكن لا أحد يجيره وحدها بدرية كانت تقف خلف النافذة الكبيرة تبكي حظها وحظ عبود. تقول بدرية: لو رضيت به أمي لكان عبود الآن زوجي أغسله، وأنظفه، وأفرش لـه حضني بيتاً... باكية نادمة تندب حظها.‏

رحل عبود عن الضيعة، سنوات طويلة لا أحد يذكره إلا بدرية التي ماتت أمها، وتركتها في هذا البيت الواسع وحيدة. لولا وجود بيت خالها أبي صبري لكانت كما يقولون " ماتت من القهر " لقد تقدم لخطبتها أستاذ المدرسة بالضيعة، عمار السعيد، صحيح كان رجلاً فقيراً لا يملك غير راتبه ورحمة الله.. لكنه كان شهماً يقدم المساعدة لكل من يقصده، كان عمار مهتماً بالكتب والصحف التي تحملها معها مريم شقيقته من المدينة في نهاية الأسبوع، لكن بدرية العرجا طلبت مهلة بحجة التفكير بالموضوع، لكن في الحقيقة كانت بدرية تنتظر "عبود".. لديها إحساس بعودته.‏

في يومٍ صيفيٍ أشرقت شمس الصباح على سيارات من أنواع مختلفة ورجال ذوي شوارب سود ونظارات ملونة تعكس صورة الناظر إليها، وسيارات شحن كبيرة محملة بالمواد التموينية " طحين وسكر وتمر ومعلبات كالسردين والطون وغيرها تجمع الناس حول الشاحنات. أمر كبير الحرس الناس بأن يقفوا بالدور.‏

قائلاً: كل واحد منكم سيأخذ نصيبه من التموين، لا تتعجلوا. الأمر متروكٌ لكم بهت الناس حين أعلن الرجل صاحب الجثة الضخمة والشاربين الكبيرين، أن هذه الأرزاق هدية من عبود الماجد، إلى أهل ضيعته وفاءً منه.‏

كادت بدرية العرجا أن تطير من الفرح، شعرت أن جناحين نميا تحت ذراعيها وراحت ترف حول السيارات تبحث عن عبود، قالت لنفسها لكن ربما لم يكن عبود نفسه؟‏

يقول الرجل الضخم: إنَّ هذه الأرزاق من عبود الماجد، وهي تعرف أن عبود لم يكن أحد بالضيعة يناديه إلا عبود الأجرب.‏

اقترب المختار يرافقه عدد كبير من أهل الضيعة والشيخ فاضل. وقال للرجل الضخم: أيها السادة نريد شرحاً مفصلاً عن هذه السيارات والمواد التموينية.‏

فسأله الرجل الضخم: حضرتك المختار؟‏

ـ نعم يا سيدنا.‏

ـ هل تعرف السيد عبود الماجد؟‏

نظر المختار إلى وجوه الرجال.. كما نظر كل منهم إلى الآخر مندهشين مما يسمعون. وقال: نعم كان عندنا رجلٌ شبه معتوه ومشرد، ترك الضيعة منذ زمن ولا نعرف عنه شيئاً اسمه عبود!‏

همهم الرجل بغضب ليغفر لك الله خطأك يا مختار.. هذا الرجل اسمه عبود الماجد، صاحب شركة كبيرة تعمل في التجارة " يبيع ويشتري ".‏

سأل المختار: وأين هو؟ نحن كلنا نعمل عنده، وهذه هداياه لكم. أوصانا المعلم عبود قبل أن يودعنا، توزعون هذه الأرزاق بمعرفة المختار والشيخ فاضل على أهالي الضيعة.‏

تمتم المختار مرحباً بالرجال، يا أهلاً ومرحباً بكم وبالمعلم عبود ابن الضيعة البار نادى على الرجال لكي تقف السيارات أمام الدار الكبيرة ليتم تفريغها من الحمولة وبعدها يوزعها بمعرفته على الناس.‏

بدرية التي لم تجد عبود وقفت جانباً لا تتكلم، بينما الشيخ فاضل بدأ يقرأ الفاتحة ويكرر الأدعية طالباً من الله أن يشمل عبود الماجد بالرحمة والمغفرة لقاء ما يقدمه من أعمال الخير لأهل ضيعته، ناسياً ما كان عبود يفعله مع الناس وخاصةً سرقته للزيارة التي كان هو نفسه يعتني بها ويخدم زوارها " زيارة الرياحي "‏

سمعوه يقول: الله يغفر الذنب ما دون الإشراك بالله، وعبود رجل تائب ويده للخير.‏

مدَّ الرجل الضخم يده إلى جيب سترته، وأخرج صرة كبيرة من المال هذه لك يا شيخ من المعلم عبود. أوصانا أن نبلغك السلام وأن نعطيك هذه الصرة.‏

لم يصدق الشيخ ما رأت عيناه، راح يبسمل ويحمد الله على نعمائه وهو شارد الذهن. اقتربت بدرية العرجا منه وقالت: يا عم أبو عباس ألم تقل لي يوماً إنَّ عبود نجس.. والبيت الذي يدخله لا يُقبل فيه نذرٌ أو زكاة أو صلاة؟!‏

حدقَّ الشيخ بها ويده الممسكة بالصّرة ترتعش.. الله يقبل التوبة يابنتي ادعي ربك أن يذكر عبود بك. فيعود إليك، على الأقل تعيشين معززة مكرمة " يكفي الناس ما تناقلوه حول سيرتك معه.‏

تغمغم بدرية بأسى الله يرحم أيام زمان يا عم " أبو عباس ".‏

ما هي إلا دقائق حتى انشق غبار الطريق الترابي عن سيارات جديدة تحيط بسيارة فضية كبيرة وقفت في ساحة الضيعة ترجل منها بعض الرِّجال , وبعد أن هدأ الغبار ترجل شخص أنيق يرتدي نظارة سوداء يمشي على مهل. كان ذلك الرجل عبود ما غيره، أسرع الحاضرون إليه يتلهفون لرؤيته، بينما رجاله يوزعون على الناس " المصاري " من فئة الخمسمئة ليرة يطير الناس بها فرحاً.‏

تقول بدرية لمن حولها كل شيء مغفور لمن يملك الجاه والمال.‏

يتقدم المختار نحو عبود مرحباً: أهلا أستاذ عبود الماجد صاحب الكرم والوفاء.‏

عبود يقف، ثم يرفع النظارة عن عينيه، ينظر إلى الناس من حوله، يا أهل الضيعة اسمعوني جيداً لقد قررت بعد أن منحني الله رزقاً كبيراً أن أبني مشروعاً يجعل الضيعة من الأماكن المهمة في المنطقة سأقوم بتعبيد الطرقات حتى الزراعية منها.. وابني لكم مدرسة ومستوصفاً. كان عبود يتكلم، والجميع ينصتون إليه بصمت مهللين لكل كلمة يقولها كأنه خطيب الجامع، وربما أكثر من ذلك!‏

ويضيف: مقابل ذلك سأمنح من يعمل معي راتباً شهرياً كبيراً لم يكن يحلم به من قبل، سأقيم مشروعاً صناعياً وآخر زراعياً على تلك الأرض الممتدة من بئر الماء إلى أرض الأرملة سعاد أم بدرية العرجا.‏

جن جنون بدرية فصرخت الآن صارت بدرية العرجا أيها " الأجرب " عفواً الماجد كما ينادونك الآن.. نسيت حين لم يكن في هذه الضيعة التي تفرش لك الورد الآن.. أحدٌ يعترف بك غير بدرية " الرحمة عليك يا أمي" فعلاً الأجرب لا يمكن أن يملك بيتاً أو أرضاً " مهما غسلت ماضيه بالماء والصابون لا يمكن أن تنظف القذارة، فالعفن الداخلي لا شيء ينظفه إلا النار " نار جهنم " ذلك الجسد سيبقى نجساً.‏

تابع عبود كلامه دون أن ينظر إليها ولا حتى يرد على كلامها ليسمعني الجميع كل من تقع أرضه ضمن هذا المخطط الذي ذكرته، لـه أن يطلب السعر الذي يريده وسأمنحه أكثر مما يتوقع إضافة إلى نصيبه في المشروع. طار عقل الناس وأولهم المختار والشيخ فاضل وحتى خال بدرية أبو صبري قال: " مشاريع " كل شيء يباع للمشاريع بزمن يباع به الغالي والرخيص! ولم يتردد بالموافقة على بيع أرضه.‏

لكن بدرية قالت بإصرار: أرضي ليست للبيع مهما كان السعر مغرياً لن أبيع أرضاً ورثتها عن أبي وأمي.‏

فيصرخ بها المختار: أمك رحمها الله لو أنها معنا الآن لما رفضت مشروع عبود.‏

فترد عليه عجباً يا مختار ألم تكن أنت سبب رحيل عبود عن الضيعة؟‏

كان ذلك زمناً ورحل " الله لا يعيد تلك الأيام " نحن أولاد اليوم يا بدرية.‏

لكن تعاود القول: كما سمعتم جميعاً أرضي ليست للبيع لا اليوم ولا بعده.‏

عمار السّعيد الذي تقدم منذ عامٍ لخطبتها ولكنها وفاءً لعبود رفضته بحجة إنها بحاجة إلى فرصة للتفكير حاضراً، وقف إلى جانبها يدافع عن حقها. اقترب منها عمار، لمعلوماتك يا بدرية إن هناك سراً لا يعرفه أحد غيري وغير هذا " الأجرب " وأمك سعاد لها الرحمة.. إنَّ عبود هو قاتل والدك، وهو لم يقتله عن خطأ بالصيد بل كي يستفرد بك وبأمك ويأخذ الأرض والبيت، وكما كان يغريك بالزواج كان أيضاً يغري بنت المختار فضة.. لهذا اتهمه المختار بالسرقة يوم أجبره على الرحيل عن الضيعة، بعد أن شاهدوه معها في بيت " الحبوب " وتستراً على الفضيحة اتهمه بالسرقة.. وزوج ابنته فضة من ابن خالها سعيد لقاء قطعة أرض قرب البئر؟!. عضت بدرية على شفتها السفلى، حتى كاد الدم ينز منها.‏

تهمهم بدرية: إذاً هذه الأسباب كانت وراء رحيل عبود؟ ولم تكن السرقة كما يدعي المختار. والآن المختار نفسه يرحب بعبود " فعلاً هذا زمن عبود".‏

حاول الشيخ فاضل كثيراً معها، كما حاول المختار، لكن بدرية لم توافق على بيع الأرض أو تأجيرها.. ووافقت على قبول خطبتها فوراً وبلا مهر من عمار السعيد، لقد اشترى عبود الأرض والناس، وصار الدعاء لـه بعد كل صلاة. قال الشيخ فاضل: الله واسع الرحمة غافر الذنب قابل التوبة ".‏

فيؤمن المختار على كلامه: صدقت يا شيخ " آمين ".‏

يهتف عمار: لقد بعتم كل شيء لعبود.‏

يصرخ عبود: لكن أنت ربحت يا عمار.. بدرية تساوي كل هؤلاء الناس وأرضهم معهم، لكن أنا أنفذ ما يطلب مني، أي أنا بحاجة للأرض وليس للمشاعر.‏

من بين دموعها تقول بدرية: كما قالت أمي عنك الإنسان الذي لا أصل لـه لا يمكنه أن يكون رجلاً صاحب كرامة ولا يؤمن جانبه.. والله هذا زمنك يا عبود!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: المقهى   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالخميس يوليو 29, 2010 12:01 pm

المقهى


كان زائراً يومياً إلى مقهى الحي القديم، كل شيء لـه رائحة الماضي الحميم يشده، يجلس في الزاوية المطلة على تقاطع الشوارع الرئيسية الثلاثة، يدخل متأبطاً أوراقه وصحفه، ما إن يجلس إلى طاولته المعتادة حتى تسرقه الصفحات الثقافية إليها، لا يرفع رأسه عن الجريدة حتى يأتي إليه صديقه " النادل مجدي " يضع لـه قهوته اليومية والنارجيلة وكأس الماء، يترك الصحف ويبدأ كعادته يرقب حركة المارّة في كل الاتجاهات، خاصة في ساعات الذروة، كأن الأسئلة تتوالد تباعاً داخله من خلال ما يقرأه على وجوه الناس الذين يعبرون ذلك التقاطع يضع لكل واحد منهم عنواناً معبراً عن دواخله كما يتوقعها، ويرسم فواصل بين الاحتمالات منهم من يمشون على غير هدى، تجرهم أقدامهم إلى الأرصفة المزدحمة، تتناقلهم متاهات المدينة ينظرون إلى شارات المرور طويلاً، قبل أن يقطعوا ذلك التقاطع إلى رصيف آخر، ومنهم من يسرعون وراء عملٍ يريدون إنجازه قبل أن ينتهي الدوام في الدوائر الرسمية، كان يراهم متلهفين يتأبطون مصنفات بأشكال مختلفة، يحدثون أنفسهم كما يفعل " مرضى الحالات العصبية والنفسية ، ومنهم من ارتسمت على وجوههم الكآبة والقلق. يحدقون في ساعات أيديهم مرات عدة وقد تأخر من ينتظرون؟ كانت الطاولة التي يجلس إليها تقع في زاوية تبعد قليلاً عن باقي الطاولات شبه المتلاصقة " هو دائما يستهوي الأماكن الدافئة شيء ما يشده إليها، ربما ارتبط معها بذكريات حميمة. حول تلك الطاولات " الجماعية " تدور الأحاديث عن " لعبة طاولة الزهر وأصنافها المتعددة " كل صباح ينتظره النادل الأنيق مجدي، إذا ما تأخر عن موعده يقلب مجدي كرسي الخيزران فوق الطاولة علامة أنها محجوزة يستقبله باسماً، ثم يمسح الطاولة بقطعة قماش مبللة حتى تلمع. يضع فوق الطاولة كأس الماء، ويمدّ خطاه مسرعاً بالنارجيلة والقهوة. يفرش أوراقه وصحفه اليومية على الطاولة، وكلما قلّب عدداً من الصفحات ينظر إلى تقاطع الشوارع الثلاثة. يتمعن في ملامح الناس، هذا اليوم كانت الشمس قد سبقت علي إلى الطاولة.‏

قال مجدي: أستاذ علي ما رأيك في تبديل مكان الطاولة، الشمس حادة جداً. علي بدا غير مهتم.. اتركها مكانها أشعر أنني بحاجة للدفء، لاحظ مجدي عدم اكتراث علي بالحديث اليومي كعادته، عن زوار المقهى والحكايات التي تحدث أثناء غيابه، مجدي قلق على الأستاذ علي.. ها هو يقرأ الصحف بغير اهتمام، أخرج قلمه وراح يكتب بعض العبارات قبل أن ينساها. اقترب منه النادل متسائلاً عن سبب ذلك. نظر إلى عينيه برهة، وعندما لم يجد الكلمات التي يقولها تشاغل عن سؤال مجدي بمتابعة الكتابة. تركه مجدي حائراً، هازاً رأسه وهو يتمتم بكلمات لم يفهمها. تخيل علي أن مجدي يقول عنه " إن هذا الرجل غريب الأطوار، تارةً يشبه المجانين، يتكلم مع نفسه، وتارةً يتحدّث كعاقل متّزن " ضحك علي من تخيلاته عن صديقه مجدي، وعاد إلى أوراقه " كتب " في وسط الصفحة: كنت عائداً من بين يدي امرأة رفضت دعوتي إلى النارجيلة والقهوة، لم أشعر بلهفتها كعادتنا حين نلتقي، كانت كلماتها فاترة شبه غامضة أصابعنا المتشابكة ببرود انفلتت.. شيء بدأ ينمو يحرّك مشاعري المتأججة. كنت متلهفاً للموعد المسائي معها.. عندما تغيبين تظل كلماتي عارية وأوراقي تتقاذفها الريح، وقصائدي تتهادى على الطرقات الوعرة كأوراق الشجر في فصل الخريف، سنوات وأنا أزرع على راحتيك مواعيدي وارسم في الحلم وجهك البهي، منذ أورقت لقاءاتنا الأولى على ضفاف الزمن ونحن نركض إلى الغابات نلملم حكاياتنا عن الرحيل والغربة، نحفر على جذوع الأشجار أسماءنا. تتوغل أقدامنا في الغابات. نكتشف أشواقنا تمر الفصول فوقنا ونحن نمضي مع الزمن. أمسكت يدي وراحت تركض محنية الرأس بين الأغصان وهي تغني " عن الطيور والصباحات المغسولة بالندى " كنت وأنا أتكلّم أنظر إلى عينيها وأقرأ لغة جديدة، ودعتها وأنا مشتعل بشوقي إليها " كنت أعرف أن المرأة حين تعامل الرجل بفتور، وهو يشتعل فوق صقيع نظراتها المطلقة إلى المدى كأنها تهرب من عينيه وأسئلته الباردة، هي بحاجة لأن تبتعد عنه أو أن يلملم أشياءه من ذاكرتها " رحت أمشي في الشوارع التي مشيناها معاً يلفنا عبق الياسمين، كنت " كدليل السياحة " أقص عليها حكايات الأمكنة وأسماء الشوارع والمحلات التي لم تزل تحافظ على الحرف اليدوية القديمة، وهي تتألق فرحاً كأنها تطير وأصابعها تشد على أصابعي معجونة بالنشوة، قالت لي يومها: كأن الشّارع والنّاس والأمكنة تتحدث عني، كيف أرف إلى جانبك كطير حمام؟‏

تنهد علي قبل أن يتابع الكتابة: أن تقيم امرأة فيك، أن تبني عالمها بداخلك، أن تصير ذاكرتك، أن لا تستطيع تناول القهوة بدونها، أن تتعلق الأشياء والأمكنة برائحتها، أن تطرز عطرها على صباحاتك، هي امرأة عليك أن تحفظ تفاصيل حياتها وجسدها، وأن تحافظ على مشاعرها ". ضحكت من نفسي محاولاً الخروج من الحيرة ونقيق الذاكرة. قبل أن أترك القلم وأمد يدي إلى فنجان القهوة، اقترب مني رجل يرتدي الكوفية والعقال. قال: العفو يا أستاذ، أريد أسألك هل حضرتك محامي؟ في البدء استغرب علي لكنه ابتسم وطلب من الرجل أن يجلس على الكرسي ليتعرف عليه أولاً، ثم طلب لـه كأس شاي ، الرجل: محسوبك أبو شعلان من الشمال.‏

علي: أنا كاتب‏

أبو شعلان: " شنو كاتب "؟‏

علي: أكتب في الصحف.. وأكتب القصص.‏

أبو شعلان: يعني " حجي " حكايات "ما تتطعم خبز" مثل العجايز أيام زمان كانوا يحجون السّوالف للأولاد حتى ينامو؟‏

علي ضاحكاً وقد أخذته براءة الرجل: والله يا عم ما يطعم خبز.‏

أبو شعلان: " ظنيت أنك محامي كبير قلت لحالي يا باطل الغنيمة، أتاك الفرج يا أبا شعلان.. محامي ويحمل حقيبة سودا ويرتدي بدلة زينة وربطة عنق، وجميع من يعمل في المقهى يهتمون به.. لابد أنه يساعدني طلعت يا حسرة تالي بياع حجي"!‏

في البداية شعر علي بالإهانة، ثم تطورت رؤيته لما يمثله الرجل من براءة في كلامه، كانت طيبة الرجل وملامحه القريبة من القلب جعلت علي يتأثر بكلامه رغم القسوة.‏

علي يرد بلطف: لكن يا عم ماذا تريد من المحامي؟‏

أبو شعلان: عيون عمك أبو شعلان، عندي قضية في المحاكم صار لها سنوات طويلة وأنا أركض وراءها وما خلصنا منها، كل شهر شهرين اتصل بالمحامي يقول " تعال " على الشام " وحين أصل تتأجل القضية وأدفع أنا المصاريف.‏

وما هي القضية يا عم؟ حدق الرجل إلى وجه علي كأنه فوجئ بسؤاله قائلاً: هاه شنو تقول‏

علي: لا عليك إذا كان سؤالي محرجاً لا تجيبني.‏

انتفض أبو شعلان لشهامته ولا يهمك شيء ما يستاهل " القضية.. ثأر.. ثأر، يا بن أخي، لعنة الله على هذه العادات التي صارت مثل الجرب ما نعرف نتخلص منها " مع العلم صار في كل بيت تلفاز، وناس متعلمون لكن يا بن أخوي هذه العادات ما نقدر نتخلص منها؟ "‏

حاول علي أن يهدئ من غضبه، كان مجدي قدم كأس الشاي وانسحب بهدوء، التفت أبو شعلان نحوه شاكراً، الضيافة علينا يا بن أخي، ترك علي القلم والأوراق وراح يتحدث معه حتى لا يشعره أنه متضايق من وجوده، كان علي ينظر إلى عينيّ أبي شعلان تأخذه خيالاته إلى أولئك الذين يستغلون جهل الناس البسطاء لتحقيق ثروات طائلة " يظنون أنهم أذكياء " وهم يركضون وراء الوهم، ويتسترون خلف شهاداتهم، أعجبت علي الفكرة أن يكتب عن الوهم الذي يبنيه " المفسدون حولهم " كهالة يظنون أن لا أحد يعرفهم، لا، لا سأعود لبداية القصة. انتبه ابو شعلان ما زال موجوداً، يتابع شرب الشاي على مهل، وعلي يستنجد بذاكرته عن الحكايات كي تطمئنه.. ودّعه بحرارة بعد أن قال لـه " اسمع يا أستاذ علي هذه النصيحة من عمك أبو شعلان: اترك " هذا الكلام الفارغ وأشوف لك شي شغله تتطعمك خبز.. هذه الأيام لا مكان للطيبين فيها؟! كان لا يدري أن علي غارق في الكتابة كما أنه غارق في حب امرأة كانت تأتي تبحث عنه في المقاهي والشوارع التي تمتد على ضفاف نهر المدينة والصالات التي تعرض أنواع الفنون التشكيلية، ودور السينما، وحين صارت جزءاً من خياله وحكايته مع الورق والأحلام، راحت تبني أحلامها بعيداً عن مداراته اقترب مجدي من علي بعد أن ضغط على آلة التسجيل لينساب صوت فيروز مع ألحان الرحابنة التي تنعش الروح " يا شجرة الأيام غيرنا الهوى، فرفط لنا الورقات وعرينا سوى.. يا ناطرة وحدك على مهب الهوى، متلك أنا شجرة على مفرق طريق ". قال مجدي بهدوء: خليك رايق أستاذ " والله الحزن ما بيلبقلك " ضحك علي من كلمات مجدي شاكراً لـه جهوده المحببة كي يخرجه من كآبته. وعاد إلى قلمه وأوراقه وصورة المرأة التي كانت ملامحها مرسومة في خياله، تابع علي الكتابة، وعيناه بين الحين والحين ترقبان مفارق الطرقات الثلاثة ، وهو يتهرب من سؤال يلح عليه، هل هؤلاء الناس الذين يعبرون التقاطع هم من يشدونه.. أم كان ينتظر أن تظهر امرأة من بين الازدحام تحمل إليه الفرح؟‏

دمشق. 2004‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: أحلام بائسة   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالجمعة يوليو 30, 2010 8:08 pm

أحلام بائسة


يترجل " غازي المقص " من سيارته السوداء، مرتدياً بدلته الكحلية، وربطة عنق خمرية عريضة. قامته تغوص في أطرافه السفلية. كرشه يندلق أمامه. يحمل حقيبة دبلوماسية بنية اللون، قاصداً المحكمة العامة، يتراكض إليه العديد من الموظفين، والمراجعين، والباحثين عن حلول لقضاياهم المعقدة.. يستقبلهم بابتسامة صفراء على شفتيه.. يخترق بجسده الضخم ازدحام الناس، يلتف من حوله حملة الطوابع والأوراق، وبعض العاملين في أروقة المحكمة الشرعية. جميع من فيها يحفظ شعاره " على المحامي الناجح أن يملك شبكة من العلاقات العامة، مع الجهات العليا. لتمنحه مكانة مميزة عن زملائه. القضايا الصعبة التي يفشل الكثيرون في معالجتها، الأستاذ غازي المقص.. بكل بساطة يجد لها حلولاً لم تخطر على بال أحد قبله. لتأخذ القضية طريقها أمام القاضي على المنصة، يفتش في خبايا المحاكم والقوانين عن ثغرات ينفذ منها وما أكثرها، دائماً لديه الصيغة المناسبة للرد على خصومه، أو توجيه التهم الجاهزة لأي زميل ينازله في الحلبة. كان دائماً يسمي قاعة المحكمة بحلبة المصارعة، إما أن تفوز، أو تخسر بالضربة القاضية يبتسم حين ينتصر " هناك دائماً ما يمكن القيام به، قبل أن يستسلم للخسارة، يتسم بالجرأة لما تتسع لـه مفكرته من أسماء ممن لهم الباع الطويل في تحويل القرارات لصالح موكليه.‏

يمثلون للمقص " مفتاح القضايا " عندك السيد‏

أبو النجود، ما إن يرن هاتفه في قاعات المحاكم، حتى يرتجف الجميع خوفاً مطيعين وراغبين في تنفيذ المطلوب.. حفاظاً على المكتسبات. بينما " المقص " يبتسم بخبث متجاهلاً مصدر الهاتف وسببه. وعندك يا سيدي، الست رهام ذات الحسن والجمال، ما إن تظهر في قاعة المحكمة، حتى تملأ القاعة بضحكتها أنغام موسيقية ناعمة، و هي تشير بأصابعها باتجاه من تريد مساندته، ليتخذ القرار المناسب، باسم القانون، وحين تضيق الأحوال بالمقص، يسعى إليها محملاً بالهدايا وقوارير العطور المستوردة تضحك، ضحكتها المشهورة أهلاً بالمقص أفندي، يجاريها بالضحك، حتى أنت يا ست الحسن، والجمال، لكن ولا يهمك طالعة من ثغرك مثل العسل. تتمايل السيدة رهام بغنج وهي تتقبل الهدايا، لا تهتم لأحد، قل ما هو المطلوب. يُخرج من جيبه " مظروف المعلوم "، يشرح الموضوع القادم من أجله بتأن حتى تعرف الست رهام كيف تتصرف، أو مع من تتصل ما إن ينتهي، حتى ترفع السماعة تضرب الرقم المقصود، ألو تحياتي سيدنا.. وحياتك كانت سهرة الأسبوع الماضي رائعة بوجودك، نحن دائماً تحت أمرك متى تطلب مساء الاثنين.. ليكن ستكون الأمور جاهزة عند حضورك. تعلو ضحكتها حيناً. وترتسم الدهشة على ملامحها أحياناً " كلامك سيدنا يقطر عسل " تسرب من خلال دلعها على الهاتف طلبات المقص، تهدأ قليلاً، سيكون شكرك مضاعفاً هذه المرة يا سيدنا، تضع السماعة، تنظر إلى المقص. كن مطمئناً القضية صارت بحكم المنتهية لصالح موكلك، يهرع إلى مكتبه ليستعد للإجراءات المقبلة. الأستاذ غازي المقص قبل أن يكون محامياً كبيراً كان موظفاً في أرشيف المحاكم، تعب على نفسه.. وسهر الليالي، إلى أن تخرج، وأصبح محامياً " لن ينسى ذلك أبداً " بعد أن تدرب في مكتب محامٍ كبير. لمع اسمه في قاعات المحاكم، وأصبح ذلك الأستاذ واجهة للمكتب معتمداً على غازي المقص كي ينجز لـه قضاياه الكبيرة، كان صاحب المكتب يفتخر أمام زواره وزملائه، بأنه يملك مفتاحاً سحرياً لكسب قضاياه، لقد حاول الكثيرون معرفة ذلك المفتاح الخفي ولكن دون فائدة. والمقص، هذا لقب يطلقه عليه الجميع، كونه لا شيء يقف بطريقه تعلم كيف ينشر الدعاية لصالحه، أو ينشرها بوجه خصومه، شهوده حاضرون أمام الدوائر القضائية، أو في مكتبه المزدحم حيث لن تجد مكاناً تجلس فيه. عليك الانتظار حتى يطلبك / الأستاذ / يحيط به مجموعة من الرجال الأشداء ينتظرون منه إشارة كي يتخلص من أحد ما، أو يحضرون لـه أحداً ما بلا تردد. في صباح يوم ماطر والريح تعصف بشوارع المدينة، خرجت امرأة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، ترتدي جلباباً رمادياً وتضع فوق رأسها غطاء أسود، عيناها واسعتان، تميل بشرتها إلى اللون الأسمر، نهداها يكادان ينفران من تحت الجلباب، تجر خطواتها الثقيلة، كما تجر خيبتها، حمدت الله في سرها أن صاحبة البيت أم صبري التي وافقت على أن تأويها مع ولدها، في محنتها لتبقى مجهولة العنوان، أم صبري، عرفتها على أبي فهد وبعد أن كشف أبو فهد على مفاتنها ليتأكد من صلاحية البضاعة التي يتعامل معها، نالت إعجابه بجدارة. هي امرأة تدربت على يدي صباح، قبل أن تلتقي خالد وتمنحه حياتها " لكن سوء حظها كسر فرحتها.. لتواجه هذا المصير أبو فهد، بسهرة ليلية شرب آخر رشفة في قعر الكأس. يهمس لقد كلمت لك محامياً لا أحد يقف بوجهه في المحكمة. ناولها بطاقة باسمه وأرقام هواتفه، كان يرتدي ثيابه، وهو يحدثها عن الأستاذ غازي المقص، فقط أنت أعطيه البطاقة وهو يفهم الباقي.. بلهجة جادة قال لها أبو فهد نسيت أن أقول لك، لا تخفي عنه شيئاً، مهما كان صغيراً، أو كبيراً، احكي لـه قصتك كاملة بصدق، وهو يعرف كيف يخرجك منها. في المكتب كانت وردة، كأنها تجلس على جمر، بعد انتظار دام بضع ساعات جاء دورها.‏

ابتسمت لها السكرتيرة قائلة تفضلي الأستاذ بانتظارك، شكرتها وتقدمت بخطوات مرتبكة، تفلت دموعها فوق خديها رغماً عنها، كان قد انتهى من مكالمة هاتفية. يميل المقص نحوَ صدرها الفاتن.. أنت يا مدام بشارة خير للمكتب، لقد زف لي مستشار القضاء فوز موكلي " جديع الماجد " بقضية كانت مستعصية الحل، ابتسم لها من جديد تفضلي بالجلوس، مسحت دموعها. قالت: الحقيقة أستاذ لقد أرسلني إلى جنابك موظف البوفيه في المحكمة " أبو فهد " وناولته البطاقة، آه عرفته بماذا تأمرين، أبو فهد طلباته علينا أوامر يا مدام، وأشار لها أن تجلس على الكرسي المريح، وراحت تقص عليه حكايتها منذ كانت تعمل في مؤسسة اجتماعية، في مدينة بعيدة عن العاصمة، كانت وردة زهرة متفتحة تنتظر من يقطف وريقاتها أو يشم رائحتها، تفور أنوثة، كانت الأحلام تراودها في اليقظة وأثناء النوم، تريد أن تخرج للدنيا، تخلع عنها ثوب الفقر والوصايا والممنوعات، منذ طفولتها، كانت تعشق الحياة، مبتعدة عن الفتيات اللواتي هن بعمرها، نضجت أنوثة وردة مبكراً، وكان الخوف من الوصايا لها بالمرصاد، أرادت أن تنسى بيئتها الفقيرة، بعد أن التحقت بمدرسة المدينة، كانت تحلم أن تكون بمستوى زميلاتها، ثم كبرت وردة وكبر الحلم معها. في الوظيفة تعرفت إلى صباح، التي تتزين بالحلي، وترتدي أفخر الملابس، وكل يوم تأتي إلى العمل بسيارة مختلفة، تسبقها ضحكاتها المرحة، تجعل كل من حولها يهتم بها، أو يتمنى أن يقيم معها علاقة. كانت صباح ذات حسٍ عال، من خلال نظراتها إلى عيون وردة، كشفت ما بداخلها، أخذت تغدق عليها الهدايا وتتكلم معها عن السهر والفرح " يلعن أبو الفقر يا وردة، هم ونكد على الفاضي.. وفي النهاية بيت وزوج ومسؤولية " علينا أن نواجه الدنيا لنعيش الحياة مثل الآخرين، استطاعت صباح أن تجرها إلى ما تقوم به، حيث السهر حتى مطلع الفجر في الشقق المفروشة، أفهمتها في البداية أنها مجرد سهرات كيف ومرح، نريد أن نقبر الفقر يا وردة، وهنا في المدينة ما حدا شايف حدا" المهم أن تملكي الجرأة والباقي سهل، استسلمت وردة للواقع بعد أن أخرجت نفسها من حريق الأسئلة، حين ينام الآخرون، تلجأ وردة، إلى نفسها، تطفئ أنوار الغرفة، تشعل شمعة وتعد القهوة تدخن بشراهة، وقفت يوماً أمام المرآة، مررت أصابعها فوق خديها، على عنقها، صارت أكثر نضجاً وجمالاً.. فجأةًً خرج صوت من داخلها، من الوصايا... يؤنبها لقد خسرت كل شيء.. خسرت كل شيء يا وردة؟ توالت الأيام والسهرات ورفيقات الليل.. ثم راح الصوت المؤنب بداخلها يلملم وصاياه يوماً، بعد يوم.. حتى نسيت وردة، من هي، ومن أين أتت؟ ونسيت أحلامها. في أحد الأيام طلبت منها صديقتها وعد أن ترافقها لزيارة شقيقها المريض في المشفى، أول ما تلاقت عيناها بعيني خالد، شعرت أنها مشدودة إليه، أخذت تهتم بحالته، وأبدى خالد اهتماماً ملحوظاً بوردة، حتى صارت تقوم بزيارته دون علم صديقتها وعد، بعد أن تماثل خالد للشفاء، تواعدا على اللقاءات، هناك شيء خفي بهذا الرجل جعلها تفك ارتباطها بصباح ولياليها الساهرة! حين تكون معه تنسى الدنيا بما فيها، لم تستطع أن تخفي وردة قصتها عن خالد، في يوم صيفي التقيا في المقهى على ضفاف العاصي، كان وجهها حزيناً، وملامحها تنم عن قلق.‏

همس لها خالد: وردة كأنك لم تنامي بالأمس؟ حدقت إلى عينيه طويلاً قبل أن تقول شيئاً.‏

خالد: إذا كان هناك ما يضايقك تكلمي.. أنا أسمع.‏

افهمني يا خالد.. بهدوء قالت وردة: وبلعت ريقها بصعوبة أنا لم أحب رجلاً في حياتي " كل الذين عرفتهم، كانوا مجرد وهم أركض خلفه، ولم أحصد إلا التوهان " أمعنت النّظر إلى وجهه، أنت دخلت إلى قلبي بلا إذن، ها أنا أفرش بين يديك قصتي، وأنت تحكم، في البداية تغيرت ملامح وجه خالد، بعد صمت دام بنظر وردة دهراً.‏

خالد بهدوء: بكل قسوة الماضي، يا وردة أجد نفسي مشدوداً إليك أشعر أن حباً حقيقياً نبت بداخلي.. لا أستطيع مخالفته، كادت تزغرد وردة من الفرح.. بل ربما شعرت أن لها جناحين، يمكنها أن تحلق في الفضاءات المطلقة، أخيراً وجدت من يتفهم حالتها بعد أن هدأت، طلب منها خالد، ويداه تمسكان بيديها أن تعاهده على الوفاء، وأن تكون لـه وحده , وتنسى ماضيها" احذفيه من حياتك ولا تعودي إليه حتى في الحديث العادي " وافقت وردة بلا تردد، صارت الدنيا بعينيها أجمل، وبدت لصديقاتها أكثر جمالاً، تهتم بزينتها وترتيب شعرها، ورفضت الخروج مع صباح ولم تعد تسهر إلا بوجود خالد!! اتفقت وردة مع خالد على أن يقوم بزيارة أهلها في القرية ليطلبها رسمياً للزواج، كان استقبال أهلها لخالد متحفظاً، لم يرتاحوا للزّائر كان اختلاف " المذهب والعادات والتقاليد " سداً منيعاً وقاتلاً بين وردة وسعادتها المحتملة، أمام أهلها، لم تجد ما تقوله، قررت أن تذهب معه، بلا موافقة أهلها، لكن خالد رفض ذلك بحجة أنه يكفي قبوله حالتها من غير أن يعلم أهلها، عاد خالد مع شقيقته وعد، وعادت وردة تجر خيبتها معها، أرادت أن تقول لأهلها كل شيء لكن خوفها من / سكين العار" الذي دائماً بيد الرجل " منعها / رحل خالد ورحلت معه أحلامها.. لم يبق لها إلا المرارة والخيبة، في تلك الفترة تعرفت إلى شاب أصغر منها، كان جميلاً عيناه تشتعلان رجولة. كانت وردة تتكلم.. والأستاذ مشغول تارة بالهاتف، وتارةً يشعل سيجاره الفاخر، تابعت وردة وحين شعرت أن شيئاً يتحرك في أحشائها طالبته بالزواج، توقف سامي عن العبث بصدرها ثم قال بلا تردد: لو كنت الرجل الوحيد في حياتك لما تأخرت يا وردة، شهقت بالبكاء وتابعت كلامها إلى المحامي المشغول بهواتفه الكثيرة، أنها أجرت عملية الولادة في مشفى خاص، وحين عرف أهلها طارت عقولهم ولمعت أنصال السكاكين " هربت هي وابنها إلى مدينة بعيدة لتختفي عن أعين أقاربها الذين تدافعوا لغسل العار. هم الذين رفضوا الرجل الذي كان حلم حياتها " هزت رأسها يا لـه من حلم تحطم سريعاً " كان الأستاذ مشغولاً لا يرد عليها، همس لها وهو يمسك الهاتف: اختصري أرجوك مدام، كما ترين أنا لدي عمل كثير، المهم ما هي العملية، عفوا أية عملية أستاذ: آه، أقصد، القضية، قالت: أريد أن أسجل الولد حتى أدخله المدرسة، أيقنت وردة أنها نجحت في كسب عطف الأستاذ، وبصراحة أقول لك، لأن أبا فهد قال، لا تخفي على الأستاذ شيئاً، لقد اخترت رجلاً كانت لـه علاقة قديمة بي، وحده يستطيع حماية الولد وتحمل تبعات مصروفه، وهذه صورة هويته، تناول صورة الهوية وبعض الأوراق التي تستلزم القضية.‏

همهم المقص ساخراً: هذه عملية سهلة، حدقت إلى وجهه، آه أقصد قضية سهلة مدام، رنّ جرس السكرتيرة، التي أسرعت إليه، أمر أستاذ، أحضري لي شاهدين آنسة ميمي، دخل شابان، كانا مستعدين، ابتسم لهما، المدام بحاجة لمن يساعدها عملية بسيطة، نبهته عفواً أستاذ قضية وليست عملية، قاطعها بحدة، قضية ولا عملية كلها بتمشي " أخذت تملي الاستمارة اسمها واسم عائلتها، واسم الولد ونسب الرجل، وقع الشاهدان على الأوراق، إنهما شهدا زواجاً خارج المحكمة في مكتب المحامي، وبحضور الزوج عبد الباسط درويش، تناول الأستاذ الأوراق ووضعها في الحقيبة، نظراً لانشغاله بأمور مهمة، هناك رجل من الخليج يوكله بقضية مشابهة لقضية "وردة" وهو زائر في فترة الصيف من خلال وسيط الشقة التي يستأجرها، تعرف على أهل خلود، فتاة صغيرة وجميلة استطاع بماله أن "يشتريها" عفواً أن يتزوجها، كانت الفتاة بحاجة إلى أن تخرج من سجنها بين أربعة جدران" بعد أن منعها والدها من الذهاب إلى المدرسة "بحجة سرعة نضجها وخوفه عليها، خلود، لا تعرف عن الدنيا شيئاً إلا من خلال شاشة التلفاز المهم أنه رجل، يحميها ويلبي نضوج أنوثتها، وكان العريس قد تجاوز السبعين من عمره، يسهر طوال الليل ثم يعريها من ملابسها، ويطلب منها أن ترقص، بعد أن يدير آلة التسجيل وتنساب أنغام الموجي ويصدح صوت " الست " يعمر نفس النارجيلة وعندما ينتشي ولا يعود يعرف حتى اسمه يدخل عالمها المراهق، مضى شهر على هذه الحالة وهو يغدق عليها وعلى أهلها الهدايا، إلا أن الفتاة قرفت منه، ومن هداياه، كان بعد أن ينتهي من النارجيلة وتلك البودرة اللعينة التي يحشوها في المعسل، يخلع ملابسه ويبدأ يمرغ شيخوخته فوق نضارة جسدها الشهي، وهي تبكي بصمت أنوثتها المجروحة.. تبلع ملوحة دمعها بينما يلملم خيبة رجولته من فوق شهوتها القتيلة! كانت خلود، تخطط كيف تتخلص منه يمر بخيالها شريط للوجوه التي عرفتها، ثم تفكر بحالة أبيها وإخوتها. ماذا سيحل بهم إذا تركته هي. عليها أن تجبره هو على القيام بطلب الطلاق، كما أراد هو أن يتخلص من زواجها من غير أن يخسر ما دفعه لأبيها "المهر الكبير" عليه أن يعود إلى بلده " مرفوع الرأس " صاحب مكتب العقارات عرفه على الأستاذ " المقص " في المحكمة كانت الأوراق المطلوبة بين يدي القاضي، متهماً أهلها بأنهم استغلوا الرجل وزوجوه ابنتهم، وهي لم تكن تتمتع بصفات البنات العذارى " كان شهود " غازي المقص " جاهزين.‏

الدليل الأول قال: إنه عرفها قبل زواجها بشهور، وراح يصف للقاضي بعض العلامات المميزة بجسدها، والتي عرفها من خلال قصتها مع زوجها، انهارت الفتاة أمام المحكمة، وأصيب والدها بذبحة صدرية، سحب الأهل الدّعوى من أمام القاضي، بحجة المصالحة مع الزوج، تنازلت الفتاة عن حقوقها، قالت خلود إلى أمها، بعينين تشتعلان، كانت صفقة وكنت الخاسرة الوحيدة بينكم يا أمي، اعتذر الأستاذ لوردة، وقدمت لها " ميمي " بطاقة المكتب والعنوان وأرقام الهواتف، قالت السكرتيرة: عليك إحضار المبلغ خلال أسبوع مدام، وألا نعتبرك تنازلت عن الدّعوى، أشار الأستاذ، إلى زياد، رافق المدام، فرحت وردة بعد اطمئنانها على قضيتها، لم يدم الوقت طويلاً، حتى وصل إنذار إلى قرية، عبد الباسط بوجوب حضوره جلسة المحكمة، كان هناك من يستلم أوراق التبليغ دون معرفته بها، إلى أن استطاع الأستاذ أن يأخذ لها الحكم بالنفقة واستخراج بطاقة تسجيل الولد، وعلى المدعو عبد الباسط أن يحضر إلى المحكمة بواسطة الشرطة، جن جنون الرجل هو المعروف من قبل أهل القرية، بل هو وجه من وجوه القرية، متزوج من امرأة يحبها، ورزقه الله منها أولاداً، في البداية نفر بعض الناس منه، لكن عاد الجميع ليقفوا معه. الرجل متزن وعلاقته وسمعته لا غبار عليهما، قصد المدينة لقد تعرف إلى محام كبير لـه سمعة حسنة، عن طريق أحد أقاربه المقيمين في المدينة ، بعد مطالعة الأوراق من قبل الأستاذ عبد الله وسماعه قصة عبد الباسط، عرف الأستاذ عبدالله بخبرته الطويلة كيف استطاع الأستاذ غازي المقص، خداع المحكمة تحت شعار العمل الإنساني.. وضرورة الوقوف إلى جانب الضلع القاصر، هكذا مرر الأمر على القاضي بوجود الشهود، وفعلاً تم توكيل الأستاذ عبد الله، كي يتمكن من متابعة الدّعوى، تعب كثيراً حتى حصل على عناوين الشاهدين اللذين لم يحسبا أنه في يوم من الأيام سيواجهان القضاء، لشهادتهما الزور، ولم يهتما حينها لذلك الأمر.‏

الشاهد الأول، عادل: يعمل كاتباً أمام دائرة العقارات، قامت دورية الشرطة بسوقه إلى المحكمة، وبحضور رئيس المخفر وقاضي التحقيق، أنكر في البداية عادل، تهمة شهادة الزور، أدخله رئيس المخفر إلى غرفة كبيرة فيها مجموعة من الرجال قائلاً: هيا يا عادل من منهم المدعو عبد الباسط؟ لم يعرفه عادل رغم وجوده بينهم بل أشار أن ملامح أحد أفراد الشرطة تشبه عبد الباسط، قال: كنت حينها في الخدمة العسكرية، لقد نسيت ملامح الرّجل، يا سيدي. رئيس المخفر: هل تعرف هذا الرجل، عادل: لم أره في حياتي، أعاد رئيس المخفر السؤال عليه، هذا الرجل ألا تعرفه من قبل، هز عادل برأسه، لا يا سيدي لم ألتق به أبداً من قبل، وعندما واجهه رئيس المخفر بالحقيقة أن هذا الرجل هو " الزوج " المقصود، انهار عادل أمام رئيس المخفر معترفاً أنه غرّر به " بحجة موقف إنساني" من قِبل المحامي الأستاذ غازي، وكذلك أقر الشاهد الثاني / زياد / والذي كان يقيم في قرية من الشمال بعد أن أنهى خدمة العلم، ترك المدينة ليعود إلى قريته ولم يحسب أن أحداً سيلاحقه بتهمة شهادة الزور أمام المحكمة في المدينة أقر زياد بأن " المقص " طلب منه أن يكون شاهداً على زواج وردة من عبد الباسط، خدمة للمرأة المسكينة كي تحمي ولدها من الضياع لكن المقص كان مدركاً سلفاً ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في مثل هذه الحالات " والتي تعرض لها كثيراً من خلال تخصصه في القضايا المعقدة " في " الاستئناف " وبعد انتظار سنوات، وقد أصبحت الدّعوى في مصنفات عديدة , لم يستطع المحامي " عبد الله " إبطال الدعوى بحق موكله لأنها حركت المشاعر الإنسانية عند القاضي، لهذا اعتبرها أيضاً حالة إنسانية يمكن أن تبطل " نسب الولد، فيضيع الولد " سحب الشرطي عبد الباسط من قاعة المحكمة إلى السجن، وخرجت وردة فرحة برفقة " المقص " وقد نالت ما لم تكن تحلم به، كانت وردة تقف أمام القاضي ودموعها تجري على خديها كنهر، وقد رسمت على وجهها ملامح الكآبة والبؤس، بكى المقص وهو يدافع عن الإنسانية ويناشد الضمير الإنساني، وجه سؤالاً مباشراً إلى القاضي، بعد أن قرأ في وجهه ما يطمئنه، سيدي القاضي: هذا الطفل البريء والذي لا يعرف عن الدنيا شيئاً، أي ذنب ارتكب حتى يبقى بلا هوية، ولا مدرسة ولا أب يرعاه " دار بنظراته على الوجوه في القاعة، وتوقف حيث كانت تجلس الست رهام تلف ساقاً على ساق أومأت لـه برأسها معجبة " تابع " مسرحيته " طالباً الرحمة لوردة وابنها " لم يكن أمام القاضي، وحتى الحاضرين إلا أن يمسحوا دموعهم الساخنة وهم يسمعون هذه المأساة قال القاضي: " المهم هو الطفل " دفع المقص وردة لأن تستغل الظرف المناسب وتطلب من عبد الباسط أن يعترف بالطفل ثم لا مانع لديها بعد ذلك أن يطلقها، وافق عبد الباسط على مضض، لم يكن أمامه حل غير هذا الحل، بعد أن دفع كل مستحقات الطفل والزوجة المدعية " كي تسقط حقها " ليخرج هو من السجن حاملاً خيبته وورقة الطلاق.. مقسماً أنه لن يغادر بعد اليوم حدود قريته " مهما كانت الظروف "؟!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: شموع    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالجمعة يوليو 30, 2010 8:11 pm

شموع


الصحف في هذا اليوم كانت مُنفّرةً، شعرت بالضيق وأنا أقلب صفحاتها، لا هي ولا النارجيلة ولا القهوة المرة أخرجوني من ضيقي، شيء ما في داخلي يحترق " رائحة احتراق.. كل شيء يحترق، حاولت التحرر من هذه الحالة التي فرضتها أخبار الصحف على صباحاتي المغرقة بالكآبة. أنباء الصحف تجثم كابوساً ثقيلاً على صدري. تركتها على الطاولة دون أن أرتبها، كنت أشعر وأنا أقلبها، كأني أقلب جثثاً أعرف أصحابها، قلق وخوف من المجهول، تركت المقهى والصحف ورحت أسير في الشوارع تائهاً، وقد ضيعتني الاتجاهات، ملامح الجثث لا تغادر خيالي. أتحدث مع نفسي تارةً معاتباً " أكان من الضروري أن اقرأ صحف اليوم، كنت قد قطعت وعداً ألا أقرأ الصحف، حتى لا أشاهد أكوام الجثث، ودموع الأطفال، لا شيء تجدد فينا، بتنا نتخيل الشيء ثم نصدق أننا نقوم به أضواء الصباح تنوس، وعتم يمتد في داخلنا، ونجوم السماء غادرت ضياءها المعهود. حركت أوجاعي تلك الصحف التي تدعي " الحيادية " في طرح أفكار كتابها " حيادية وهذا الدم؟! كأن من يكتبون في هذه الصحف تحولوا إلى شهود بلا ضمائر. كلماتهم جامدة لا روح فيها. الضحية، في عرفهم، أصبحت هي المعتدي! رائحة احتراق؛ أصابعي تحترق، شموعي تحترق.. شموع تحترق في ساحة الأقصى، على ضفاف الرافدين، ومن حول كنائس بيت لحم، ضربات النواقيس تطن في أذني كئيبة، شموع تحترق، ترفعها أكف نساء الجولان في مسيرة رائعة تضامناً مع الأسرى في سجون الاحتلال، كنت أسير هائماً كمن أغلقت بوجهه كل نوافذ الدنيا، وتاهت به قدماه، وأخذت أدور في الأزقة والحارات الضيقة، الأمكنة تشدني إليها، ها أنا أخيراً في الحافلة.. جلست إلى جانب رجل يرسم على شفتيه ابتسامة باتساع وجهه، وعيناه تفيضان بالفرح، دهشت وقد رأيت رجلاً في هذا الزمن يرسم على وجهه علامات فرح! حدّق الرّجل إلى وجهي ملياً كأنه قرأ بعض أفكاري. رق لحالتي. ابتسم وقال: لا تحرق نفسك يا أخ " اتركها على الله وهو كفيلٌ بحلها " الدنيا لا تواجه بحدة.. فتحطم من يعاندها، دع الأمور تجري، وتطلع إلى ومضات الفرح، كنت كلما تحدث الرجل زدت دهشة لحيويته المتفائلة تابع الرجل الباسم: أنا اسمي محمد. متزوج، وعندي ثلاثة أطفال، أعيش من عملي الحر، تارة أعمل "دهاناً وأحياناً صانعاً بين يدي معلم بلاط، أو عاملاً في تنظيف مجاري الصرف الصحي، يوماً يفتحها الله علينا، وتتوفر النقود نعيش مثل بقية الناس نأكل ونشرب، وربما ذهبت أنا وزوجتي وأولادي إلى الحديقة، وأياماً لا تجد معي مئة ليرة. ضحك محمد كأنه يحرق شمعة من عمره، أسمع حين استيقظ صباحاً، وقبل أن يبدأ مسلسل الطّلبات "النّق" من قبل زوجتي، أبادرها: اسمعي يا ندى، معي مئة ليرة إذا فتحها الله علينا اليوم تكون طلباتك أوامر، و إلا ولا كلمة، تصمت ندى وهي تذوب كالشمعة، أترك البيت باحثاً عن عمل. نظر الرّجل إلى وجهي من جديد، يبدو أن الهموم هشمت داخلك وأنت تتفرج. فتح كفيه المتشققتين ورفع ساعديه إلى الأعلى " الله يفرجها عليك" لا أدري لماذا شعرت بالاطمئنان، وأنا أسمع لهذا الرجل. معك حق يا أخ على الإنسان أن يكن صبوراً.‏

ومال نحوي وقال: منذ ستة أيام توفيت أمي، نظرت إليه كانت دمعاتٌ محبوسة في عينيه تنساب على خديه كأنها تشتعل! كان خالي يقول إذا ماتت أمك قبلي يا محمد سيكون قبري من نصيبها، وإذا مت قبلها يكون القبر من نصيبي، ولسوء حظي، وحظ أمي.. مات خالي في عيد رمضان قبل أمي، وكان القبر من نصيبه، احترت ماذا أفعل، وأنا لا أملك ثمن قبرٍ لأمي، حاولت الاتصال مع أقاربنا، الأقرب منهم ثم الأقرب، وكان جواب الجميع إما بالرفض أو التهرب من الأمر، أخيراً قيل لي من قبل بعض الجيران أن أبا محمود صاحب واجب ويده للخير كما يتناقل الجميع. ذهبت إليه وشرحت لـه قصتي، وأن الشيخ يقرأ القرآن في البيت، وأنا وزوجتي لا نملك إلا رحمة الله " وجثمان والدتي ملفوفٌ بالكفن الذي كانت تخبئه لمثل هذا اليوم صمت الرجل برهة، كأنه غص بالدمع، ثم قال: اذهب أنت، وأنا سأتصل معك بعد نصف ساعة، كانت النصف ساعة كأنها بحر من الشموع التي تحترق تحت قدميِّ فعلاً بعد نصف ساعة اتصل أبو محمود قائلاً: أخ محمد، القبر جاهز، وسيارة الدفن ستصل إلى عندك بعد قليل، رحمة الله على والدتك، ذهبنا إلى القبر وكان مكتوبٌ فوق الشاهدة، هنا تحل الضيفة الحاجة أم محمد. وحين سألت الأخ أبو محمود عن السبب. أجابني هذا قبري يا أخ محمد، الأعمار بيد الله، أصبح الآن من نصيب والدتك، كان محمد يتكلم وأنا أنظر في عينيه، في تقاسيم وجهه الطافح بالتفاؤل، وأرقب حركات شفتيه ويديه، وتلك الإشارات التي تعبر عنها حركات أصابعه التي ظهر عليها آثار عمله اليومي، لم أدرِ ماذا أقول للرجل الذي تعرفت عليه منذ وقت قليل، أردت أن أشعل لفافة تبغ، ابتسم وأشار بيده إلى اللوحة التي وضعها سائق الحافلة في المقدمة " كل من يدخن في الحافلة يدفع غرامة مالية " أومأت برأسي معك حق، كنت أبحث عن عنوان لقصة قذفت بأوراقها إلى سلة المهملات. تذكرت كلام الرجل. في الحافلة، أشعلت بقية شموعي على ورقي، وأنا أتذكر ملامح محمد الذي ينتظر كل يوم من يأخذه إلى العمل ليؤمن لقمة عيش أولاده، وحاولت أن أرسم ملامح أمّه التي ماتت ولا يملك ثمن قبرها؟ أو ملامح الرّجل الذي تبرّع بقبره من أجل امرأة لا تربطه بها " إلا العلاقة الإنسانية "، ناسياً ما كنت فيه؟‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: رجل يتوهم العشق    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالجمعة يوليو 30, 2010 8:13 pm

رجل يتوهم العشق


الصّباح ربيعي دافئ. بضع غيمات تمشي مع الغروب، الأرض تتهيأ تفتح صدرها للمطر، خيوط الشّمس تسترق الظهور من خلف الغيوم، ترسل أشعتها على المدينة. ترقص بيوتها في البياض وتغتسل برذاذ المطر الرّبيعي. تتمايل أغصان النانرج على النّوافذ ذات الشّرفات الخشبية، كان يمشي وحيداّ شارد الذهن كأنّه يطارد خيالات تمرّ بذاكرته. تجتاحه الرغبة إليها. يركض خلف أحلامه. تتوه عناوينه. تتناقله الشّوارع العابقة برائحة التّوابل.. تمتد أمامه أسلاك شائكة من الأسئلة. تضيق عليه. ما هذه الليلة؟ كأن الدّنيا أقفلت بوجهه لم يعد يدري أي الدّروب تؤدي به إلى النهار، الهواء شديد.. والبرد قارصٌ، وهو يسير في الشّارع تحت الأضواء الشّحيحة. رذاذ مطر يغسل وجهه كما يغسل سواد الإسفلت. زقزقة عصفور وحيد. يظهر رأسه من فتحة في جدار قديم. ابتسمَ ونظر إلى الطائر دون أن يتوقف. وحيدان كانا تحت المطر. صوت من خيالاته. وحيد أنت والمطر وهذا العصفور، والليل، والأضواء الشحيحة، والإسفلت. أحسّ بقشعريرة تعتريه. لم يعد قادراً على تركيز أفكاره. يبدو أنّه بدأ مرحلة الخروج من الذاكرة. يباغته وجود الأشياء حولـه " كان يقف أمام بعض الأماكن.. و اللوحات الجدارية المعلّقة.. تساءل هل كانت هنا؟ هل رآها في المرّات الماضية... حاول استحضار الماضي خاف أن يكون قد فقد جزءاً من ذاكرته. ابتسامتها الحزينة انفلتت من لون الشّفق. تخيّل كيف كانا يسيران معاً. كان يوماً جميلاً أمضياه يركضان بين الأشجار في بساتين الغوطة. لم تزل تلك الأغصان تختزن وشوشاتهما، وهو مبحر في عينيها ويده تضم باقة من البنفسج. وجودكِ إلى جانبي يمنحني الدفء والأمان، وغيابكِ يشعرني بالمرارة والخيبة، كأن دنياي مسكونة بكِ؛ موحشة الأمكنة التي لا توجدين فيها، في اللحظات التي كنت أحتاجكِ، أخذتك رغباتك إلى عالم آخر، تهمشكِ الأحلام يبدو أنني تجاوزت الزّمن. توغلت المدينة فيكِ. أصبحتِ امرأة تظهر كما تتطلب المناسبات، أو اللقاءات. كنا نسير بين كلّ تلك الفوضى وحيدين تضج من حولنا أصوات الباعة الجوالين. كلّ ينادي على بضاعته. توقفنا أمام " محلّ لصنع الأدوات الخشبية القديمة ". رحنا نتبادل الهدايا الصّغيرة. تهنا في الدّروب المرصوفة بالحجارة والشّحاذين نحكي عن أحزاننا وأحلامنا، قرأت صحف اليوم؟ نظرَ إلى عينيها. صحف اليوم كالأمس. تشبهنا. لم تحمل جديداً. كل صباح تصدر. لا شيء جديد فيها إلا العناوين. باتت الصحف تخاف الزمن مثلنا وترقب الآتي، كلّ يوم تزحف على الأرصفة. قلة من المارة يتوقفون يقرؤون بعض أخبار " الحوادث المثيرة " وربما أكثر ما يشدّهم فيها الكلمات المتقاطعة. نظرت إليه كانت نظراتها مملوءة بالعتب. في الصّفحة الثّقافية قرأت قصة لك ثم عقبت، لأول مرة لم أجد نفسي فيها. هزّ برأسه.. معك حق وأنا أكتبها كنت أشعر بمرارة الدنيا والأسئلة، وأنت تغادرين مدارات حلمي. تنسحبين كما تنسل دودة الحرير من شرنقتها. أمشي حافي القدمين. ودروبي مفروشة ببقايا حطام الزجاج. الليل يجثم على صدري. أنتظر أشعة الشمسّ كأني منفيٌ إلى وحشة الصقيع. توحي لي الأمكنة القديمة بالأحلام. امرأة خارجة من الصباح المشتهى. تاهت عن ماضيها كأنها كانت تنتظر من تمنحه أنوثتها، تحلق مع أحلامها بعيداً عن فضاءاتي لتشعرني أنني لم أعد أعني لها أكثر من محطة عبرت بها، خلعت أحزانها على مصاطبها الحجرية. صرت مسكوناً بحزنها. " تقمصتُ حياتها، هي وهبتني كل أحزان الدنيا، ومضت تغتسل بنسائم الربيع.. أخذت فرحي وأشيائي الحميمة. تغوص بجسدها في الماء ثلاثاً ثم تغوص من جديد. تريد أن تخرجني منها. وزعت حزني على شموع ليلها. غادرتني. تبرأت من أحلامي، وراحت تلهو تحت المطر عارية مني. حين كنا نلتقي كانت عيوننا تكتب قصائد عشق، وموسيقى الموجي، وصوت "الست " يبدو أن كل ما كنت أقرؤه في عينيها مجرد وهم، حاولت أن توهمني بما يختلج داخلها لتشدني إلى عالمها ، ضغط زر آلة التسجيل " بخاف عليك وبخاف تنساني والشوق إليك على طول صحّاني. أعجبته الفكرة. أراد أن يتوسع فيها. سحب درج الطاولة. أخرج مجموعة من الأوراق. لم يزل عطرها مخزوناً فيها. أصابعها مرت هنا فوقها.. ياه.. مضى عليه زمن لم يكتب لها. اشتاق إليكِ كأنّك الحلم، وأنتِ تتحولين إلى غيوم تمطر فوق يباسي. تزهرين كالياسمين على ضفاف شوقي تمرّ اللحظات وأنا أنتظر طيفكِ البهي يرفّ كالطّائر بجناحيه، يصير الحلم بهياً. أراك تتوغلين كأغاني العشق. تنهمرين في داخلي أنغاماً. تورق كهولتي على راحتيك. " نسيت النوم وأحلامه.. نسيت لياليه وأيامه " أخرج من أحزاني إليكِ. تنكتب لكِ الأغاني، وعلى شفتيك يتوقف اللحن، كأني لا أسمع إلا صوتك، ولا أرى في هذا العالم الموحش أحداً، يكتب ويده ترتجف فنجان القهوة.. فناجين من القهوة ولفافات التبغ المشتعلة والأوراق الممزقة تحيط به، صورتها المعلقة على الجدار المقابل كأنها تترك وحشتها تتسلل إلى آلة التسجيل تشجيه بكلمات " الست ". حالة إبداعية تجتاحه. تشده إلى الطاولة والورق. عندما تحتويك أمكنتي تصيرين أشيائي. تفرشين صدري. أشعر أنني رجل مسكون بالحبّ والكتابة، أن تشعر أنك تعيش أحزانك وحيداً، تكتشف أنك ماض. سحب نفساً من لفافته. أطلق الدّخان في الفراغ. الحيرة تكاد تنال منه. أحسّ أنّ الكلمات تجلده تدمي جسده. شعر بالتّعب. حاول أن يتذكر آخر لقاء بينهما. تساءل كيف تمنحه جسداً بارداً وكلمات باردة " كان جسدها معه وقلبها مع غيره " ترك القلم. نهض من خلف الطاولة. تناول العود وراح يدندن مع الأوتار أغاني كانا يرددانها في اللقاءات الحميمة، انساك، ده كلام " الفاجعة أن تتخلى الأشياء عنك " خامره شيء من الفرح كأنها بين يديه، وهو يقرأ لها ما كتبه في غيابها. شعر أن هذه الأوراق تختزن ملامحها. كان حين يكتب يجتاحه طيفها. تشعله كلماتها تجعله يذوب بين السطور. يحس بأنفاسها. يبحر في عينيها. تغمره بعطفها. تسقيه خمر شفتيها. شرب آخر ما في الكأس. أحسّ بالمرارة. داهمه شعور بالغربة " ترك العود والأوراق ". أطفأ أنوار الغرفة. أشعل شمعتين. تركهما فوق الطاولة. عاد إلى أوراقه أرفع صوتي.. تتوه النوافذ عنكِ. أنتِ أيتها الساكنة فيّ؛ المتوغلة في قصصي ذراعيك تلفانني بالدفء و الحميمة، بعد أن رحلتِ أصبحتِ امرأة لا أعرفها. بدّلتِ لون عينيك، ألوان وجهك، رعشة شفتيك.. تلك المواعيد التي اتفقنا على أن نسمع فيها صوت الست.. أكتب إليكِ، وهذا الليل يداهمني صمته القلق ، هذه الحروف جافة بين يدي. ترفض ورقي. عاد إلى الكأس ولفافات التّبغ، راح يمجّ الدّخان، ويطلقه عبر النّافذة المفتوحة على الرّيح والمطر. لملم الأوراق من حولـه فرشها على الطّاولة. أشعل شمعة ثالثة. يغمرني فيضك. تتبرعم كلماتي. تصير قصائد، أخرج من قوافي الشعر مفتوناً بِكِ لأنني أحببت كل مافيكِ. أشعر أن الأمكنة، والقهوة، ولفافات التبغ، وهذه الصور التي تنسل من خيالي على الورق هي بعضكِ، أو منك، لا تمارسي هروبك مني بدم بارد؟ نسيت تجاربك الماضية التي أعادتك إليّ تبكين. عاد إلى الكتابة لماذا تمارسين القتل البطيء. تتمهلين على ضحاياك حتى يصبحوا كالعجينة بين يديك لتصنعي بهم ما تشائين. كم من الأسئلة الموجعة صفعته في تلك اللحظة. تخيل أنه ترك غرفته وتاه في الشوارع، والسماء تغسل الدنيا بمطر ناعم بلل ثيابه. راح يراقب الماء كيف يتغلغل في باطن الأرض. أنعشته رائحتها. تبرعم الورد على الضفاف.. أورقت الأغصان. زقزقت العصافير. هو وحده ليله طويل. أعاد ترتيب الأوراق وراح يكتب. يسافر الليل إليك. يلملم أطياف الحلم. يحملني الوجع على السهر بانتظار الفجر. تهب الريح عبر نافذتي الوحيدة. تعصف الريح بأحلامي، تصفعني صباحات مقفلة على الصّمت، أيها الرّحيل الموجع، تشتعل أوراقي و أشواقي تدفع الريح بلا اتجاه. أمشي بقدمين حافيتين فوق عشب الحديقة المبلل بالندّى. رائحة الهيل تشدني إلى امرأة كانت تعد قهوتي، وترتب أوراقي، تعيش لذاكرتي وأوجاعي، حملتها الريح " من دفء ربيعي " وأغلقت وراءها دروب العودة لأبقى وحيداً، حين أراد أن يكمل كتابته، بدت أوراقه نافرة، شعر بضيق المكان اندلقت بوجهه كلّ هذه المشاعر، رسم قوسين صغيرين " إنها أوهام الربيع " عليه أن يعترف أمام بياض الورق، أن الربيع غادره لقد تجاوزه الزمن. صار ماضياً. وقف أمام المرآة. غاصت أصابعه في بياض شعره أطفأ الشّمعة الأولى. تناول قلماً وراح يرسم ملامحها حين عرفها أول مرة. حاول أن يقول لها إنه أقرب إلى الرحيل " وهي كانت يومها كوردة تقطر من شفتيها قطرات النّدى. ثم أطفأ الشّمعة الثّانية، وأخذ يرسمها بعد أن عاشا زمناً من لهفة وعشق " يومها راحا يكتبان عن الأمكنة والدّفء " قبل أن يطفئ الشمعة الثالثة. حاول أن يرسم سهولاً مفروشة بالربيع، لطفلين يركضان و أصابعهما تشدّان على بعضهما. يطير الفرح فوقهما. ترك الشّمعة الثّالثة مشتعلة، وراح يكتب عن الرّحيل الموجع وأوهام الربيع.‏

دمشق: 3 / 2003م‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: الخوف   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالجمعة يوليو 30, 2010 9:17 pm

الخوف


كان يوماً دافئاً من أيام شهر آذار، كنت أمشي على ضفاف بردى، أستعيد من ذاكرته أيامي الماضية، يوم أتيته ولم أكن تجاوزت الخامسة عشرة من العمر، حين تركتني قافلة الترحال في هذه المدينة " عاشقة بردى " وكنت في كل يوم بعد أن أعود من عملي، أمضي ساعات، أطوف حول بردى، وأنا أرتدي قميصاً قديماً، وحذاءً مهترئاً، لم تكن المدينة عرفتني، ولم أكن قد عرفت تفاصيل حكايات ياسمينها، على ضفتي بردى، وحوره، وصفصافه، تركت حكاياتي الأولى، وقبل أن تودع الشمس المدينة، لتختفي وراء بعض الغيمات الصغيرة، التي تشكلت منذرةً بالمطر، تركت ذاكرتي، تغتسل بماء النهر، وأتيت إلى المقهى، الذي أجلس فيه يومياً، تبدأني الصحف، ثم تشدني الكتابة إليها، أمام المصعد، الذي يقل الزائرين إلى المقهى في الطابق الثاني، ثمة رجل يقف حائراً، يتلفت حوله ببرودة أعصاب، تجاهلت الأمر، الكثيرون ينتظرون أحداً، حيث يضم المقهى قسماً عائلياً، قائلاً لنفسي: ربما الرجل ينتظر أحداً. حركة ارتجاف من يديه أثارت فضولي، ولاحظت على ملامحه علائم خوف وترقب، قلت: أو أن المصعد معطلاً، مع كل تحذيرات أبي فارس مدير المقهى، وكتابته على لوحة كبيرة "المصعد لا يتسع إلا لثلاثة أشخاص " كان ينحشر فيه أربعة، وأحياناً خمسة " نحن دائماً لا نحب الالتزام بالقرارات " هممت أن أصعد الدرج الجانبي، تاركاً الرجل بحاله، لا أدري ما الذي دفعني لأن ألقي السلام على هذا الرجل، وأسأله " هل المصعد معطل يا أخ؟ أجاب الرجل مرتبكاً لا أبداً.. عدت وضغط على زر التشغيل، فتح الباب صعدنا إليه معاً، أثار فضولي أكثر، ضغط ثانية زر الطابق الثاني، المخصص للمقهى، وقلت للرجل: يبدو أنك كنت تنتظر أحداً ولم يأتِ، نظر إلى وجهي طويلاً، وظل صامتاً، وقبل أن ندخل إلى المقهى، قال: لم أكن أنتظر أحداً، ولكن بصراحة أنا أخاف أن أركب المصعد وحدي، عندي إحساس دائم، كلما صعدت به سوف يتعطل، أو ينقطع التيار الكهربائي، يا أخي بصراحة أكثر " أنا أخاف الوحدة " شعور مباغت داهمني، وأنا أحدق إلى عيني الرجل وتقاطيع وجهه، كانت عيناه تجولان بكل الجهات وأنا أبحث عن أسباب خوفه من المصعد، قبل أن نفترق كل إلى طاولة، أوقفني الرجل. عفواً لا أدري ما الذي شدني إليك، أرجوك أن يبقى ما قلته سراً بيننا. طمأنته.. لا عليك، رجوته أن نجلس على طاولة واحدة، لنشرب الشاي معاً ونتكلم. لم يمانع، بل أبدى رغبة لم أكن أتوقعها، قال الرجل: منذ صغري وأنا أشعر بالخوف من الأمكنة المنفردة، كما أخاف من الليل، تصور تجاوزت الأربعين من العمر، وعندما يغادر الأولاد وأمهم وأبقى في البيت وحيداً، أشعر بالغربة، وتبدأ حالة من الخوف تنمو في داخلي، بادرت أسأله عن السبب؟ نظر إلى عيني، وقال: كنت صغيراً حين مات أبي، وتزوجت أمي، من رجل طويل القامة، حاجباه غليظان، معقوفان حول عينيه بشكل عجيب، لم أعرف لون عينيه حتى الساعة، كنت لا أجرؤ على النظر إلى وجهه، كان مرعباً، متجهماً طوال الوقت، يتعامل معي كأني أجير في دكانه، لا يفك عقدة حاجبيه حتى أغادر الغرفة التي تضمه مع أمي، والغريب أنه كان حين أتركه معها، يتحول إلى طفل وديع بين يديها، يداعبها، ويغازلها، وأنا أستمع إليه عبر النافذة، التي تطل على الصالون الكبير، عرفت مبكراً أن الرّجل يكرهني، وجودي يذكره أن هذه المرأة التي بين يديه، كانت لرجل شاهدها عاريةً قبله. وكنت أسمع توسلات أمي، وهي تدافع عني، إنه صغير لا يفهم ما نقوم به، وحد الله يا رجل، حين ينفرد بها يعريها من ثيابها، وأنا خلف النافذة أرتعش، أتخيله كوحش، يريد أن يفترس أمي " أصرخ، يخرج غاضباً، بعد أن يرتدي سرواله ويترك كرشه المندلق عارياً، ويصفعني على وجهي صارخاً " أنت ولد أكبر من عمرك بحاجة إلى التأديب، يسحبني من يدي إلى غرفة صغيرة تحت الدرج، ويقفل بابها الأسود، ويتركني أصرخ حتى يهدني التعب وأنام، هز برأسه " كم كرهت الأبواب السوداء المقفلة ". بينما يتابع ذلك الوحش " افتراس جسد أمي بغريزة همجية. حين كبرت وكبر معي خوفي، كنت حرفياً مميزاً في ورشة للموبيليات " وأمي رحلت إلى العالم الآخر، تزوجت بعد رحيلها بعامين، وصرت رجلاً صاحب بيت، وأنا أخاف الوحدة، والأمكنة المنفردة. كان يتحدث ويداه ترتجفان، وشفتاه ترتعشان، وعيناه دامعتان، وأنا مصغٍ لـه لا أدري ماذا أقول في مثل هذه الحالات الإنسانية، بعد أن شرب الرجل الشاي، ودعني قائلاً: لا أدري لماذا فتحت لك الماضي كأني وجدت في عينيك صورة رجل أبحث عنه منذ طفولتي. قال: تصور يا أخ وتوقف هنيهة أجبته.. علي. قال: وأنا صالح. لم أشعر بحياتي كلها بهذه الراحة التي أنعم فيها الآن، الإنسان بحاجة لمن يكلمه.. وألا أصيب بالجنون. ياه أشعر كأني تخلصت من حمل ثقيل، شكرني الرجل بحرارة، ومضى إلى طاولة تطل على الشارع العام، لف ساقيه فوق بعضيهما وراح يسحب نفساً عميقاً من النارجيلة، وقد ارتسم الفرح على ملامحه. تركت القلم، والأوراق وأنا أفكر به، اقترب مني النادل هامساً، لا تشغل بالك كثيراً يا أستاذ، صالح لا يعي ما يقوله، مسكين لم يمض على خروجه من السجن سوى شهور، ارتجفت أصابعي على القلم، قلت بارتباك لماذا؟ ابتسم النادل، كان متهماً بقتل عمه زوج أمه، ثم أخرج من السجن بعد أن حصل محاميه على تقرير طبي حول مرضه النفسي. قلت: يبدو لي أن صالح، يروي حكايته على كل من يلتقي به أمام المصعد، ثم يطلب منه أن يظل الأمر سراً.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: شرفات عالية   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:47 am

شرفات عالية


زمن آخر يواجهني وأنا أتوغل في المدينة، لا يغادرني الشعور بأنني ريفي تسكنني " ريفيتي " كلما مر بي الزمن يزيد يقيني بأنني لن أستطيع أن أكون إلا ذلك الطفل الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره تركته الدنيا تائهاً على طرقاتها الوعرة. تمضي السنون تعبر بوابات الدنيا. تتشكل في المسار اللانهائي، هناك حيث شاطئ شبه مهجور ونوارس من البياض والملح تدور وترف من فوق رأسي ومن حولي. جسدي فوق الرمل. هل يرتاح الجسد بعد طول عناءِ الرحيل، أستعيد شريطاً من الذاكرة. أبحث عن أشيائي في صخب المدن، وجسدي لا يعرف الراحة حتى في النوم.. دماغي لا يتوقف عن التفتيش بين تلافيفه عن الأسئلة. عالمي غريب وأنا وحيد وأمنياتي تشبه أحلام من يبحث عن الماء وقدميه على الرمل.. سراب.. وأحلامي سراب، عذابي ينبت حيث الفرح يغادر محراب الصباح، يعمر الحزن فيِّ كأنه صار بعضي. كنت أسير على أرصفة الخوف، والمدينة تدفعني بين أحيائها كشيء نافر أنا القادم من حقول القمح، أتطلع إلى شرفات بيوتها كأنها صور فنية، تحدثك عن صبر أولئك الذين أبدعت أصابعهم تلك اللوحات الرائعة من الفن المعماري البالغ الدقة.. نوافذ وأبواب من الخشب. بدت لي تلك الشرفات على هذا الجمال الفني كلما توغلت في تفاصيل هذه المدينة شدني الشوق إليها، لقد انعقدت ألفة بيني وبين أحيائها ومقاهيها القديمة، لا أملُّ من انتظار تحقيق حلمي أن تخرج امرأة إلى الشرفات تلوح لي بزهر الياسمين. أرى في وجهها كل نساء المدينة. أمشي وقدمي تتوه في الطرقات القديمة.. لا شيء إلا مواء القطط وعمال التنظيفات وأنا أركض خلف أحلامي، عن المدن والنساء الغنوجات اللواتي يخرجن من ضيق الجدران والوصايا. يجلسن خلف النوافذ الخشبية المطرزة بالزهر والياسمين. يراقبن من خلالها مداخل الحارات الضيقة. ينتظرن عابراً من تحت شرفاتهن. تركض إحداهن إلى شجرة الياسمين تهزها فوقه.. يتلفت حوله يشم عطورهن يُلحنَّ لـه. يأخذنه إليهن. يصير حكايتهن وسمرهن الليلي، حكايات كتبت على صفحات الروايات التي قرأتها عن نساء المدن. ثلاثون عاماً وأنا أبحث عن امرأة تلوح لي ببياض ياسمينها ولم أزل ألف شوارع المدينة وأنظر إلى شرفاتها العالية كأنها ثريا معلقة على جدران البيوت القديمة " أو نجمة الصبح. لا تصل‏

إليها يدي.‏

قال صديقي جوزيف هازئاً: " وصلنا إلى تنور الخبز اتركني من أحلامك إن الروايات التي تقرأها ستجعل منك مجنوناً " اشترى جوزيف خبز التنور، أعطاني رغيف الخبز الساخن ورحنا نمشي باتجاه باب السلام ونحن نأكل الخبز بشهية. جوزيف يرتاح للسير في الليل " كنا خارجين من سينما الزهراء الساعة الثانية عشرة ليلاً " ربما كان الفيلم ذهب مع الريح؟ تابعنا سيرنا في الشوارع المؤدية إلى حي " الدويلعة " عابرين البزورية وابن عساكر، نلف في تلك الطرقات الموغلة بالقدم من حول الجامع الأموي إلى باب شرقي نتبادل الأحاديث. جوزيف عمله النهاري في ورشة الميكانيك جعله نافراً من رائحة البنزين ومن السيارات، عندما يتكلم يبدو كطفل لا يعرف الحسد أو الغش قال لي يوماً ونحن خارجين من السينما " في منتصف الليل.. لماذا لا يحب الناس بعضهم بعضاً يا صديقي؟ لماذا نضمر الشر، ونحن نعلم أنه شر؟ لِمَ لا نعامل الآخرين كما علمتنا الكتب السماوية؟ كان جوزيف يتكلم وأنا مصغٍ اليه يلفني الصمت، نظرت إلى عينيه أريد أن أعتذر لعدم انتباهي لما يقول ، لكنه ظل يتكلم عن التسامح والمحبة وأنا أرقب تلك الشرفات العالية. كان ثمَّة ضوء ينطفئ ثم يشتعل من جديد. بعد أن تركني جوزيف وحيداً في الغرفة، لم أعرف طعم النوم، وأنا أركض خلف أحلامي عن ذلك الضوء الذي كان يشتعل ثم ينطفئ، والياسمين، وامرأة ترتدي فستاناً من البياض تفتح نافذتها الخشبية وتلوح لي من خلف خمارها، حاولت أن أكون وحيداً في طريقي إلى الحي. عبرت من فوق الجسر المؤدي إلى باب السلام، مررت تحت النافذة. رأيت يداً نسائية تفتح النافذة بهدوء، وتلقي حفنة من الياسمين تتساقط فوقي كقطرات ندى.. كنت كمن فاز بالجائزة. لملمت البياض عن سواد الإسفلت، وقبل أن أمضي في طريقي فتحت النافذة مرة ثانية. ورقة تسقط على رأسي، أخذتها، وأنا مندهش كأنني في حلم، انتظرني بعد نصف ساعة أمام محل العصير تحت قوس باب توما " كنت أركض فرحاً.. يحيط بي عطر الياسمين. أحدق إلى الساعة كأن عقاربها تعاندني. مرَّ الوقت ثقيلاً. بعد قليل وقفت إلى جانبي امرأة ملفوفةٌ بالسواد. أخرجت بياض يدها. ثم فتحت كفها ففاح عطرها في المكان. عرفتها، مشت إلى جانبي. لم أجد ما أقوله. تيبست الكلمات في حلقي حين خرجنا من الحي إلى جانب النهر. أزاحت السواد عن طول شعرها عيناها واسعتان سوداوان مشقوقتان كحبة اللوز. ترك الياسمين بياضه على عنقها، وخديها، ومررت دم الكرز على شفتيها.. دون مقدمات اسمي ياسمين، قلت غير مصدق ما أسمعه، هل أنا في حلم! ضحكت، لا أدري إذا كنت ممن يحلمون وهم يمشون. يدي تزحف على كتفها. وعيناي تطوقانها بلهفة. إلى أين نذهب؟ يدها تعصر أصابعي. لا عليك في الشارع الثاني يوجد مقهى قريب من هنا، يمكننا أن نجلس فيه، و نتعرف على بعضنا أكثر. ياسمين كأنها مغسولة بالعطر، تلف جسدها بسواد العباءة، مما زاد في تألق بياضها. تخيلها ترتدي فستان فرحها تركض حافية القدمين في أرض البيت الدمشقي الواسع. حكينا عن المصادفة التي جمعتنا.. عن تعلقي بتلك الشرفات العالية.‏

قالت: هيا لنذهب معاً إلى بيتنا لتراه من الداخل. لم أصدق ما سمعت. تلك الطرقات كم مشيتها من قبل، سألتها قبل أن ندخل، ماذا أقول لأهلك حين يسألونني من أنت؟. نظرت في عيني طويلاً قبل أن تفتر شفتاها قالت: قل إنك صحفي تعشق البيوت القديمة، وتبحث عن بيت يشبه هذا البيت لتكتب عنه، والمصادفة وحدها جمعتنا في الشارع. فتحت الباب. مشينا تحت الياسمينة التي تظلل المدخل. البحرة ومن حولها أحواض الزريعة. الحبق و الورد بأنواعه الشامية. شجرة النارنج. كراسي الخيزران. النارجيلة. منقل الفحم. أشارت بيدها تلك الغرفة الكبيرة. مشغل التريكو الذي يعمل فيه والدي، وتلك الغرفة الواسعة صالون الضيوف، وفوق غرف للنوم ابتسمت.. والملحقات. جلسنا حول البحرة. ذهبت ياسمين تعدّ النارجيلة. غسلت التنباك جيداً. ثم وضعته فوق النارجيلة. كأنها يمامة بيضاء ترف من حول البحرة. أريد رأيك بالنارجيلة بينما أعد الشاي لك، عيناي تلاحقان تفاصيل البيت بدءاً من باب الدار الخشبي إلى بلاط أرض الديار والبحرة، أحواض الزريعة وشجرة النارنج، الياسمينة التي تفرش عطرها على جدران البيت ونوافذه الخشبية. استغربت. لم يأت أي فرد من أهل ياسمين ليسلم علينا أو يسألني عن سبب زيارتي إلى بيتهم؟ ولم أسمع صوت تشغيل آلات المعمل. كنت أصغي مترقباً محتاراً. هذه ياسمين تحضر الشاي بالنعناع. تجلس قبالتي. سكبت الشاي. نظرت إلى وجهي ملياً. أعرف إنك تستغرب ما يدور حولك. كل شيء في البيت صامت إلا من هديل اليمام وصوت ياسمين، وهي تضحك أنا وحدي في البيت. مس كهربائي جعلني ارتعش على الكرسي. سقطت كأس الشاي من يدي.. انكسر شيء ما بداخلي تحطمت الكأس. تهشمت ذاكرتي. تاهت الكلمات في فمي، يا إلهي هل الأحلام تتحقق؟! حاولت أن أجد جملة مفيدة لأقولها لها بينما تضحك ياسمين بدلال وعذوبة، وهي تنثر فوقي بياض الياسمين لا تستغرب. مددت يدي. أريد أن آخذ بيدها إلى الدرج المؤدي إلى الشرفات العالية شعرت بألم كبير وأنا ممدد على بلاط الغرفة المظلمة.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: ذاكرة الوجع   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:49 am

ذاكرة الوجع


تناول كتاباً مرمياً على رفٍ خشبيٍ يعلوه الغبار، قرأ متمعناً بعض العبارات المشار إليها بأقواسٍ مرسومةٍ بخط باهت، تنتشر الكلمات من حولك دامية، وأنت تبحث في قواميس الذاكرة عن معانيها، لا أنت تعرف الراحة، ولا تدع غيرك يستريح. فتح علي النافذة جال بنظراته في الاتجاهات كلها، تنهد بقهر، كأن القمر خجلٌ مما يجري فوق الأرض، توارى في عالم أكثر صفاء، وناس أكثر استعداداً لتلقي ضياءه. جمر الكلمات يحرق أنامله. ها أنت، والقلم، والورق، ندى.. ماذا تكتب وأنت محاصر بذاكرة الوجع؟! تبحر في ظلام ليل لا نهاية لـه. وقف أمام النافذة. دار بنظراته على الجهات الأربع، يا إلهي حتى النجوم توارت، ما هذه الليلة؟ عاد إلى الطاولة. قرأ ما كتبه. تغيرت ملامحه.. راح يمزق الأوراق. ضغط زر التشغيل في آلة التسجيل.. موسيقى صاخبة تمزق صمت المكان. هز برأسه. قامات تنوء مثقلة بما تجود به الدنيا من مآسٍ. أغلق آلة التسجيل. إلى متى والحياة ترفض أن تفتح لنا أبوابها السرية. بأقدامنا الحافية نمشي على جمر الانتظار. مملٌ هذا الصمت، وهذه الغربة نافرة. لا شيء يشعرني بالدفء. الزمن يمر من بين أصابعه أخذ القلم وأخرج أوراقاً جديدة. سحب نفساً من النارجيلة. يريد أن يكتب. دخلت ندى. تسبقها رائحة القهوة. كم من الأسئلة تواجهنا كل مطلع شمس، وكم منها يدق نوافذنا كل مغرب شمس.. يتوه على شفتيه الكلام، وهو يفتش ملفاته القديمة، كأن دماغه تاه عن مجريات الأحداث، لا شيء باق في تلك الملفات المتعبة. حد فاصل بين الحاضر وما اختزنته الذاكرة، مجرد حلم توارى كما توارى القمر خجلاً مما يجري من حوله، وما يدور فوق الأرض، مجرد حلم أوقفوه.. تساءل كيف يوقفون الحلم؟ حواجز التفتيش تنتشر على النافذة، فوق الورق، في دماغه. قبل أن ينتشر ضوء الحلم فتورق الدنيا، ويزهر الربيع، تتألق الحرية غزالة تمشي بأمان لا تخاف عيون البصاصين، عفو الصيادين، هناك حيث حواجز الأسئلة، وملفات أكلتها عفونة الأقبية، أدراجٌ خشبية تنبعث منها رائحة عفنة. كتم أنفاسه هاهم قادمون، حاولوا أن يجردوه من كل شيء، من اسمه، من عنوانه، من انتمائه الضارب بالأرض كالسنديان. سؤال يلح عليه. كيف يتأقلم مع هذه الأيام؟! أخرج مظروفاً ورقيا قديماً. ذاكرته المخبوءة بين الورق والحكايات.. والصور. ندى تهمس بعفوية: علي هل أنت تنام وعيناك مفتوحتان! ما بك يا رجل.. أحلام اليقظة تقلق، تتحول إلى كوابيس. انهض. اغسل وجهك بالماء الفاتر. نظراته تريد أن تحتويها مرر أصابعه على وجهها، ثم ضغط زر آلة التسجيل، كلمات تترك لونها على صمت الليل " كالبياض " عليٌ يقرأ شعر محمود درويش. يفتح نافذة ضوء في هذا العتم. تنهمر على شفتيه كباقة من لحنٍ يجري على الورق، نابعة من داخله تحلق روحه بالمكان.. ندى معك حق.. يكتب علي في أول الصفحة باقون على صدوركم؟ كلما ضاقت الدنيا علينا، يجب أن نتمسك بأسمائنا وترابنا وأغانينا، تحتويه الحيرة.. تحتويه ندى.. تشعل ذاكرته المتوجعة. تدلف إلى داخله الممدد فوق جمر الانتظار، كلمات محمود درويش تدفعه، للبوح وأي بوح! شفتاه تشتعلان بالأسئلة، ماذا يريدون منا؟ أن نلغي أحلامنا، أيامنا، أسماءنا، وننتظر ما تعرضه الفضائيات المبرمجة لتشرح لنا فضائل " الآخر" ندى.. ومن هذا الآخر، الذي يريدون أن نهرول خلف معرفته، والنظر في ما يطلبه وجوده المنبوذ بيننا. من أين يأتون بمن يخدم نظرياتهم! فتح علي كفيه. رفع ساعديه إلى الأعلى.. رحمتك اللهم كأنهم يطلبون إلغاء تاريخنا، بحجة سبقهم الصحفي لكن ثمَّة سؤالاً يدق أبوابنا كل صباح، لماذا لا ينعكس السؤال كيف نجعل هذا " الآخر " يفكر في أننا ملايين من البشر نسكن هذه الأرض والأرض تسكن فينا.. من المحيط إلى الخليج. نتكلم لغة واحدة، ولنا تاريخ واحد، وأرض واحدة، ومستقبل واحد، وأنَّ أرضنا أرض الرسالات السماوية والسلام " تذكر عليٌ أن معلم التاريخ، الأستاذ خالد قال لـه: إنَّ بدء الأبجدية التي توزعت على العالم انتشرت من هذه الأرض، من هنا يا علي.. ولا ينقصنا إلا الإرادة. ندى تهزه من جديد: القهوة باردة يا علي، يذكر علي جيداً وهو يحاول الكتابة، ثمَّة أناس يحاولون تفريغ كلماتنا من مضمونها الحقيقي، يدقون طبول الهزيمة لتدوي في داخلنا لنصير صحارى يمتلكنا الخوف، والفقر، والجهل، إنه مجرد صوت طبل، كثيرة هي الطبول التي تقرع من حولنا، أغلقنا نوافذنا، هجرتنا ذاكرتنا صار صوت الطبل يسري فينا، كصوت الرعد بلا مطر لا ينبت زرعاً، ولا يغذي ضرعاً " يعود علي إلى نارجيلته. رائحة القهوة الشهية وعطر ندى.. كان عليه أن يكمل مقالته الأسبوعية التي يقدمها إلى الصحيفة اليومية، هي الكلمات تدق صباحات المطر. تأتي مع الشمس إلى فجرنا القادم. تزهر الأرض، وينبثق الأمل، نشعل الشموع.. نحكي أحلامنا، نكتب حكاياتنا، مطر يتساقط على النافذة المفتوحة، يُغرق أرض الغرفة. شعر علي بالبرد.. ندى، بردان يا علي؟ قدماه تبللتا بالماء. تبللت ثيابه. تبللت أوراقه صار لون الماء بلون الحبر. تاهت أحلامه. راح يرتجف من البرد، ضمته ندى إلى صدرها. اختبأ بين ذراعيها حاول أن يبكي، أن يصرخ. سرقت الريح صوته. غادرته الكلمات. يحاصره الضيق. الريح تكاد تقلع أساس البيت، لا شيء يقف في وجه الريح. تأخذنا معها يا ندى.. لا تخف يا علي لن تقلعنا الريح.. يقف عليٌ بوجه الريح يصد عن ندى تيار الهواء.. أخاف أن يجرفك التيار يا ندى. تمر بجانبه تمسك بيد رجل ملامحه غريبة.. وابتسامته غريبة، اهتزت الصور المعلقة على الجدار الرطب يمامتان تفران من لوحة تحطمت على أرض الغرفة، نايٌ كسرت بحته بين يدي طفلة تمسح دموعها عن خديها النّضرين. صورة ترتدي جسد امرأة.. ندى كانت ترتب لـه الوقت، وغطاء سريره، تغسل صباحاته بقبلاتها الشّهية. مشت حافية القدمين.. تبللت بقطرات المطر، حاول أن يوقف تفكيره، أن يرى الدنيا أكثر جمالاً، على الرغم من شعوره بالبرد. يده ترتجف وهي تمسك بالقلم، علي يواصل الكتابة، خلف السواد فجر قادم.. فجر يشبهنا، وإن القمر لا بد من إنه عائد إلينا بضيائه البهي اختلطت دموعه مع قطرات المطر. لم يعد يعي ما يفعل. أغلق النافذة، جلس خلف الطاولة. وراح يعيد صياغة ما كتبه في مقالته الأسبوعية. تمشي ندى على رؤوس أصابع قدميها. تخاف عليه من أي صوت.. حتى من نفسها.. يمر طيفها لا يراه.. علي يسترجع ما تركه الزمن في ملفات ذاكرة الوجع؟!‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: دعوة غير متوقعة   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:50 am

دعوة غير متوقعة


تلك الليلة الماطرة من ليالي فصل الشتاء، لم يكن فيها قمر ولا نجوم.. مطر وريح شديدة، والليل يظلل بسواده المدينة، بضع غيمات تعبر إلى جهة الشرق لتشكل غطاءً فاحماً فوق المدينة. دققت النظر في بطاقة الدعوة تحت الضوء الشحيح التي أحضرها إلى المكتب عامل البريد في الشّركة، أجل إنه اسمي المكتوب عليها بخطّ أنيق، لم يكن في نيتي الحضور، لكن صاحب الدعوة كان المدير، وهل يجرؤ موظف مثلي على رفض دعوة "المدير" فكرت بالموضوع.. من جهة أتعرف إلى العالم الآخر، وكيف يعيشون، ومن جهة ثانية، أنا لا أملك شيئاً كي أخسره، ارتديت معطفي القديم، رتبت بياض شعري، دعكت كفي ببقايا عطر هو في الحقيقة ليس عطراً، لكن بعض قطرات من الماء تحمل رائحة عطر الزجاجة الفارغة " ياه.. زمن لم تذكرني سليمة بزجاجة عطر، كانت في المناسبات الحميمة تأتيني إلى المقهى قبيل الغروب تحمل كتاباً نتبادل فيه الأسئلة والرأي، وقبيل مغادرتها تمطرني بكلماتها العذبة، أو بزجاجة عطر تشبه رائحة جسدها، وهي تبتسم لتبقى لقاءاتنا معلقة عليك،‏

يا للأيام تمر بنا، ثم ما تلبث تتركنا نواجه أقدارنا " كلٌّ في طريقه ". في ذلك الحي المختلف عن الحي الذي أسكنه، وجدت نفسي بين مجموعة من الناس " الذين لا أعرف عن حياتهم شيئاً " هاأنذا أدخل الصالون بلا عطر ولا سليمة قرأت العنوان جيداً، ثم حدقت إلى البطاقة التي تحمل حروف اسمي نظرت إلى الوجوه، شيء ما جعلني أعود بضع خطوات إلى الخلف حذائي المهترئ، ومعطفي القديم. اقترب مني شاب أنيق يرتدي طقماً وربطة عنق، ظننت أنه أحد أبناء صاحب الدعوة، أخذ البطاقة من يدي ونظر إلى وجهي، ثم إلى معطفي، افترت شفتاه عن ابتسامة باهتة، تشكلت على وجهه ملامح جديدة، بلطف وحيرة، من هنا تفضل سيدي، كانت البطاقة تؤكد الحضور إلى حفلة يقيمها السيد المدير الذي " رقاني بالوظيفة منذ أقل من شهر لأصبح بدلاً من المحاسب العام في الشركة الكبيرة، بعد أن كنت مجرد مدقق حسابات لا أقل ولا أكثر! بمناسبة عيد ميلاد ابنته، وبما أن المدراء يظنون أن المؤسسات التي يديرونها ملكاً لهم، بما فيها من عمال وأثاث، كانت المرة الأولى التي أحضر فيها حفلة خاصة بهذا المستوى، فأنا أعمل طوال النهار، وعندما أعود إلى البيت، لا أصدق كيف أصل، حتى أغير ملابسي، وألقي بجسدي على السرير لأغط بنوم عميق. أستيقظ في الليل، أفرد أحزاني. أفتش بين أكوامها الجاثمة على صدري عن بقايا سليمة ورائحة عطرها، عن ابتسامتها، عن لمساتها التي كانت ترتب فيها غرفتي حين تزورني. تعثرت قدمي وأنا أدخل الصالون، كل هذا الاتساع ضحكت من نفسي بسخرية.. أحتاج إلى تكسي كي أصل إلى قاعة الاحتفال، بدا لي أن المدعوين من المجتمع المخملي في المدينة، يا إلهي تبدو سحنهم غريبة عنا كأنهم من عوالم أخرى " أجهلها " حدقت إلى الوجوه التي استغربت وجودي، أنا لا أرتدي مثلهم " بدلة رسمية سوداء تليق بالمناسبة. مظهري يدل على أني موظف تعبان تراهن مع الزمن فخسر الرهان ، الحاضرون التفوا حول طاولة كبيرة فرش فوقها جميع أصناف الطعام" كان الطعام يكفي أهل الحي الذي أسكن فيه بكل سكانه " يتقدم الطعام قالب كبير من الكاتو وأطباق الحلوى بأنواعها المختلفة، استقبلني السيد المدير مبتسماً.‏

أهلا أستاذ جهاد، تفضل، اقتربت على مهل شعرت أن خطواتي تمضي إلى الفراغ، تغوص في الرمل، أنا دائماً أحلم بأنني أبني بيوتاً من الرمل" هذا حلم يسكنني، ثم ما تلبث أن تتوه خطواتي عن تلك البيوت الرملية، في تلك اللحظة، كانت ابنة المدير تنزل من برجها العالي " في هذا البيت الواسع... عبرت الدرجات الرخامية المفروشة بالسجاد وهي تمشي على مهلها، كأنها في ليلة عرسها ترتدي فستاناً بلون البنفسج مما زاد في تألقها، يمشي أمامها حملة باقات الورد والشموع ، يحيط بها نفرٌ من أصحابها... فتيات وفتيان، ملامحهم متشابهة، وقد ترك الشباب نصف أرباع اللحى.. والسوالف على شكل ذيل فأر، يغنون لها ويرقصون، توقفت أمامي ويكاد يُغشى عليها من الضحك، أنت عليك أن تشعل شموع ميلادي التفت حولي ظننت أنها تقصد غيري، وبحركة ضاحكة وجهت إصبعها نحوي: ألم تسمع؟ أنت، استغرب الحاضرون وبدا عليهم التذمر، تبين لي أنها اختارتني من بينهم كوني اختلف بمظهري عن الجميع ، لم أكن أعلم أنها أغاظت بتصرفها المفاجئ الكثير من المهمين الذين كانوا ينتظرون إشارة من أصابعها كي يثبتوا ولاءهم لوالدها، ولأني لم أحضر حفلة عيد ميلاد سابقاً، ولم يكن لي شرف الدخول إلى منزل كبار القوم من قبل، استغربت تلك الدّعوة. اقتربت مرتبكاً. ناولني أحد الخدم علبة كبريت كبيرة الحجم، التف الجميع من حولي على شكل نصف دائرة، وراحوا يتبادلون النكات البذيئة، تارةً عن لون قميصي أو عن بقايا البياض الذي تركه الزّمن على شعري، تأففت فتاة تقص شعرها. وهي تضع راحة كفها فوق أنفها وفمها.. يا لرائحة عطرك المنعشة. تعالت قهقهاتهم من حولي مما زاد في ارتباك أصابعي خاصة حين انهالت الهدايا على الآنسة صاحبة العيد " تلك العلب الملونة، والتي تحوي " الذهب " وقفت أرقب الضّيوف وهم يحنون هاماتهم قليلاً. يقدمون الهدية ويغادرون المنصة المعدة لذلك مبدين أشدّ الإعجاب بالآنسة، كانت الحفلة تشبه حفلات القصور في حكايات / ألف ليلة وليلة/ أو أنها خارجة من المسلسلات التاريخية. حائراً أنا وأحلامي، ما الذي أفعله بهذا الموقف، كانت يدي ترتجف وأنا أحاول إشعال الشّموع، ينطفئ عود الثقاب وعيناي تحدقان إلى الآنسة المحتفى بها / الحقيقة كانت رائعة الجمال/ نضارة وجهها وبريق عينيها أضفيا عليها جمالاً أخّاذاً شدّ الأنظار إليها.... التف الجمع الراقص من حولي وراحوا يطلقون الزغاريد ويرددون الأغاني ويتمايلون، كنت كالأصم لا أعرف ما يقال من حولي، كلمات الأغاني غريبة عني يرددونها بلهجة غربية. احترت أين أجلس. نظرت إلى المدير. كان مشغولاً مع سيدة ممشوقة القدّ تركت شعرها يموج على كتفيها.. قدم لها من علبة أنيقة " سيجاراً " ابتسمت بعذوبة اقترب شخص آخر. أشعل السيجار ثم انحنى بأدب وغادر. اقترب النّادل. ناولني كأساً من الشراب. كانت رائحته مقززة. دفعته إليه عفواً أنا لا أشرب. أشار لي أن أنظر باتجاه المدير " كان حضرته يراقب حركاتي " أومأ لي أن أشرب نخب الآنسة. دفعت ما في الكأس في حلقي، انتابتني حالة مغص في أمعائي وشعرت أنّ رأسي بدأ يدور، أكاد أسقط تحت أقدام الرّاقصين، أحد يخرجني. يأخذ بيدي.. أحد ما يخرجني من هذا الضيق" أين أنت يا سليمة؟ يبحر خيالي يبحث عن سليمة كأنني في حلم، وحده عطرها ينعشني يخرجني من تحت ثقل هذا الكابوس " من بين السيقان " أولّ مرة أرى النساء بهذه الألوان " ولم أكن أحلم، النساء من لحم ودم.. من تحت الطاولة " لم أصدق أن ابنة المدير نفسها سحبتني من يدي.. هيا اخرج تلاقت عيناي بعينيها.. كانتا تختزنان بعداً وألواناً حارقة، لم ألحظ ذلك الوميض الدافئ في عيون بقية فتيات الحفلة " يفتر ثغرها عن ابتسامة حزينة كانت لحظتئذٍ / تشبه الجوكندا / كانت يدها لم تزل بيدي.‏

قالت: من أنت؟‏

قلت وأنا أترنح: أأ نا.. جهاد.‏

جهاد ، مين؟.‏

قلت وأنا أرتعش: أنا أعمل محاسباً في المكتب القانوني للمؤسسة التي يديرها السّيد الوالد، لاحظت على وجهها علامات الدهشة، كما لاحظت هي على وجهي علامات الاستغراب.‏

الحقيقة يا آنسة تلقيت دعوة من السّيد الوالد لحضور عيد ميلادك يا سيدتي وأنا بحيرة لا أدري لمَ دعاني، بدا على وجهها أثار الخجل أشكر لك قبول دعوة والدي، تركتني وراحت تشرب نخبها مع أصحابها. لكن عينيها ظلتا تتابعان حركاتي كان العالم الراقص يدور من حولي وأنا أبحث في عالم من خيال، اقترب منها شابٌ ترك بعض لحيته، وشد شعره الطويل برباط للخلف، كنت أمعن النّظر إليهما قدم لي النادل كأساً أخرى من الشّراب، استسلمت للأمر من جديد وتناولته دفعة واحدة، شعرت بحرقة حتى أسفل أمعائي. تقدم مني المدير. همس في أذني، بعد قليل اتبعني وأنا أغادر الصالة. تبعته إلى مكتب في الطابق العلوي. كان المكتب كبيراً فرشت أرضه بالسجاد. تتوسطه طاولة ضخمة، ومن حولها مجموعة من الكراسي المطعمة بالصدف، كان يجلس ومن حوله بعض الرجال وعلى يمينه سيدة غاية في الأناقة تدخن السيجار بدت كأنها " سليلة عائلات المال ". عطرها المنعش عبق في الصالون الواسع تعلقت أنظار المجتمعين بها، يفرشون أمامهم أوراقاً وأقلاماً وبعض المصنفات، ألقيت التحية، بعضهم رد على تحيتي والآخرون تشاغلوا بما بين أيديهم، أشار المدير إلي أن أجلس على كرسي بجانبه وهمس: هنا يا جهاد. حدق نحوي الجميع بدهشة، بعد أن رحّب بي قدمني لهم الأستاذ جهاد، لديه خبرة كبيرة في أمور القوانين، والحسابات ومتابعتها بجدية " مع الجهات المالية " تابع بعد أن وضع يده على كتفي. " لو لم يكن جهاد معنا في الشركة لكانت الشركة تغرق في الضرائب، وبعض نثريات المتعاملين معها صفق الجميع مبدين فرحتهم بي وتابع موجهاً كلامه نحوي، يا أخ جهاد نحن قرّرنا أن نسند إليك عملاً أساسياً في الشركة كمدير للمكتب القانوني بدلاً من أبي سعيد، حدقوا بي جميعاً بنظرات اخترقت جسدي وتابع: أبو سعيد تعيش أنت، أعطاك عمره ، عليك أن تثبت للجميع أن ثقتي فيك لم تكن عن عبث، لكن قبل ذلك " يا أستاذ جهاد " هناك بعض الأوراق بحاجة للتوقيع " لم يوقعها المرحوم، ونحن بحاجة ماسة إليها لتتم المعاملات بشكلها القانوني.‏

السيد عبد المجيد: ساخراً وهو على ما يبدو أكبرهم، كان يشعل سيجاراً كوبياً " كرشه يندلق أمامه، ومن حوله فتاتان رائعتا الجمال، ترك الزّمن لمسة حزن على وجهيهما تقدمان لـه كلَّ ما لذّ وطاب، وبين يديه مصنف محشو بالأوراق، بما أنك أصبحت مديرنا القانوني بدأ عملك منذ اللحظة يا أستاذ، التفت إلى المدير يسأله.. ماذا كان اسم الأخ.‏

ابتسم المدير بوجهي جهاد.. جهاد " اقترب الخادم وناول كل واحد منا كأساً، ثم قال المدير: لنشرب نخب الأستاذ جهاد وبعدها ندرس موضوع تأمين البيت، والسيارة لمدير الشركة القانوني الجديد، الكأس الثالثة شعرت أن رأسي صار يكبر وأنّه شبه فارغ، وأنني أريد أن أضحك أو أتبول " في تلك اللحظة تخيّلت سليمة تتمايل بين يدي يرف شعرها على كتفي، وأنا أمسح خديها براحة يدي وأكتب على فمها زمني. " هزني المدير من كتفي.. أين أنت نظرت إلى الوجوه ذات السحنة الغريبة، عرفت إن في الأمر فخّاً يراد مني أن أرتدي قميصا قذراً " بسبب ما تحتويه هذه الكؤوس " كي أظل طوال حياتي أختفي خلف رائحتها العفنة، حاولت أن أبقى متماسكاً، قرأت الأوراق بدقة، وكلما انتهيت من ورقة أمعنت النظر إلى تلك الملامح الجامدة. حاولت أن أقف. شعرت أنَّ قدمي تغوصان برمال متحركة، بينما يشتعل داخلي ألماً، لا أدري لماذا أحسست بحاجتي للضحك أو للتقيؤ. رحت أضحك، تارة من نفسي، وتارة أضحك مما وقعت فيه. نظر الجميع إلى بعضهم بعضاً، وراحوا يضحكون بصوت عالٍ كأنهم يجاملونني، رميت الأوراق على الطّاولة بهدوء ووجهت كلامي للسّيد المدير، طبعاً كان على واحد مثلي أن يعرف مسبقاّ أنّه كي يدخل إلى هذه الأمكنة عليه أن يدفع ثمناً غالياً.. غالياً جداً. وأنا لم اعتد دفع ثمن شيء لا أؤمن به ارتفع صوتي قليلاً.. وأنا أرقب دهشة الجميع مرسومة على بقايا إنسانيتهم المعجونة بالخبث، أنا يا سيادة المدير أعشق الحرية، أعشق الهواء النظيف، أمقت الأقبية الرطبة ورائحة العفونة تقهرني طبعاً هذه الأوراق صاحبها إما في السجن أو في مشفى المجانين، وربما فعلاً صار مرحوماً بفضل جهودكم، يبدو أن الخمر لعبت برأسي، راحت الكلمات تخرج من فمي كما تشاء، أنا أعشق سليمة آه أين أنتِ يا سليمة... خذيني من هذه الأمكنة " التي رغم اتساعها ضاقت على رجل مثلي " حاول الجميع أن يهدئوا من غضبي قائلين: أنت لا يهمك نحن سنوقع الأوراق بعد أن توقعها، تابع السيد عبد المجيد ساخراً، طبعا بما أنك مديرنا القانوني يا أستاذ ابتسمت السيدة ميسا بلطف.. سامحك الله ظننا أننا نقدم لك خدمة كي تدخل المجتمع الراقي من بابه الواسع، نظرت إليَّ وقالت بغنج فاضح، لو انتظرت قليلاً لكنتُ طلبت منهم أن يكون مكتبك إلى جانب مكتبي في الشركة، السيدة ميسا، رغم أن ثيابك قديمة تبدو لي رجلاً وسيماً، اسمع فعلا أنت تستحق أن يكون مكتبك إلى جانب مكتبي، أنت بحاجة لبعض التعديلات " قاطعتها أنا لا أحب مجتمعكم يا سيدتي " يشعرني بالاختناق " أنا أحب الناس البسطاء " الذين ولدوا على الفطرة " أشكر لكم كرمكم وأرجو لكم التوفيق.‏

تنحنح المدير، كنت أعتقد بك خيراً، وأنت تملك دماغاً جاهزاً للعمل معنا، ولن يمضي الوقت حتى تصبح كواحد منا وألقى بوجهي دفتر شيكات، اكتب ما تريده بيدك ونحن موافقون، قاطعته بحدة أسف يا سيدي.. لقد خيبت لك أملك، انتابتني حالة هسترية من الضحك من جديد، يبدو أنني لم أعد أسيطر على أعصابي، قد تكونون تملكون المال والجاه.. وأيضاً تملكون يا سيدي سلطة القانون الذي تحكمون به على من تشاؤون وتعفون عن من تشاؤون. وقبل أن أتم كلماتي، أطلت الآنسة المحتفى بها، ومعها أحد الخدم يحمل طبقاً، قدم لكل واحدٍ قطعة حلوى وفنجان شاي، تلاقت نظراتنا شعرت بقشعريرة تجتاحني، لا أدري لماذا يذكرني وجهها بسليمة حين كانت تصير بين يدي، أنثى تفيض دفئاً. لكن ليس أنا بالضّرورة واحد منهم أيها السّادة. عليكم في المرة القادمة أن تحسنوا الاختيار، أسرعت باتجاه الباب لحقت بي الآنسة عفواً أرجو أن تفسر لي ما قلته، كان وجهها نقياً، قلت في نفسي: لم يكن عبثاً أن يطلق الشّعراء صفة البدر على هذا الجمال عيناها تشعان إنسانية وبهاء، وقفت أمامها حائراً ماذا أقول لهذه الفتاة التي وجدت نفسها بين هؤلاء! قد لا أستطيع أن أشرح لكِ موقفي يا آنستي، لكن على ما يبدو أنني لست الرجل المناسب إلى مثل هذه الحفلات التي يمرر تحت ضجيج صخبها " مواكب من الضحايا " غادرت المكان مسرعاً تاركاً الجميع في حيرة من أمرهم يتبادلون النظرات المستغربة، وأنا أعاتب نفسي الأمّارة بالسوء بحزم لقبولي دعوة غير متوقعة في مكان غير متوقع؟!‏

دمشق 2003.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: أوراق في مهب الريح   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:52 am

أوراق في مهب الريح


فوق جرف صخري يطل على سفحٍ يزيد انحناؤه كلما اقتربت من جهة البحر، تركته الطبيعة شاهداً على تحولاتها، يمتد باتجاه غابة من السنديان ينفرش الريحان الكثيف على حواف الطرقات الوعرة، وقف حسن يراقب أشعة الشمس الصباحية، وهي تنهض كل يوم بآية جديدة، يا إلهي هذه الزهور الذابلة أخذت تتفتح على مهلها بعد أن شعرت بالدفء، كأنها تخرج من سباتها الليلي، حسن يبدي دهشته من الأشكال واللوحات الرائعة التي تركتها أشعة الشمس المتسللة بين الأغصان، في تلك اللحظة تشابكت الأسئلة في دماغه، وراحت تصفر كبدء العاصفة، سنوات مرت وهو يعيش وحيداً مع ذكرياته بعد أن ترك الوظيفة، تمتم ساخراً: تركنا الوظيفة، وتركنا الآخرون " أصبح يشعر أن العالم مجرد أرقام ومشاعر بلاستيكية تنتفخ وتصغر بحسب الحاجة، حتى الذين كانوا يظهرون لـه مشاعر الود، لم يكونوا إلا عابري سبيل إلى محطات جعلته مصالحهم أحد السبل إليها. فكر كثيراً وهو يمد خطواته المتثاقلة بين الأشجار، يتوقف مرة تحت ظل شجرة تُركت عليها الأسماء والعبارات التي يفوح منها عطر العشاق، هز برأسه يبدو أن الكثير منهم جاء قبله إلى هذه الغابة، لم تزل تلك الأشجار تحتفظ بأسمائهم.. كأنه يسمع أغانيهم ووقع خطاهم. أخرج أوراقه، كان عليه في هذا اليوم أن يرسم لوحة، ويكتب تحتها عبارات جميلة، يهديها إلى عليا، غداً عيد الحب، وعليه أن يعترف لها أن نظرته إلى الحياة والناس لم تكن تستند إلى الواقع الحلم بتحقيق مجتمع مثالي غاية صعبة " أن يحب للآخرين كما يحب لنفسه" مقولة قريبة من نفسه رددها كثيراً. لكنه لم يحصد غير الخيبة والأسى. ثبّتَ اللوحة بوساطة دبابيس على جذع الشجرة، ثم عاد ليجلس فوق الجرف الصخري المشرف على السهول التي يغسلها البحر كل صباح ومساء، راح حسن، مرة يكتب، ومرة يعود إلى لوحة الرسم ، آه للسنوات الطويلة التي مرت بسرعة، لكنها لم تستطع أن تأخذ لمسة الجمال عن خدي عليا، ولا تطفئ بريق الأمل من عينيها العسليتين، ظلت بسمتها الندية تتغلل إلى شغاف قلبه، لم تجردها الغربة من مشاعر الطيبة أبداً، ولا من لهفتها إلى الناس. كل ما في هذا المكان خصب.. ينبض بالحياة، ابتسم كأنه يبوح بسر" هذه الطبيعة تشبه إلى حد كبير عليا " هما يدفعانه إلى الكتابة، فليؤجل الرسم قليلاً، أخرج القلم والورق أشعل لفافة تبغ. روحه كانت تهيم في المكان، تطوف حوله.. تسبح في بحر الذاكرة، تنشر فيضها على الوجود، مد يده يتلمس أغصان الشجرة، داهمه شعور كأنها مرت هنا وربما عبرت من هناك، حيث هو العشق يظل نبض الحياة، توقف عن الكتابة وحدق إلى الفضاء، تمتم: هذه الطبيعة تخرج الإنسان من صمته، ليبحث عن المسميات الجديدة " عيد الحب " وهل هناك يوم معين للحب، تابع الحديث مع نفسه، الحب كما الحياة شريان يتدفق ولا ينتهي. يبدو أنه فقد الكثير من معانيه بهذه الأيام. لم يعد الحب ممكناً ليدفع بعجلة الحياة إلى الأمام. صارت مقومات الحب مختلفة، كما أصبح للحب مواصفاته الجديدة. كم من الأسئلة تندلق بوجه حسن، بينما يأخذه خياله إلى الأيام الأولى التي التقى فيها عليا " ربع قرن " مر على يوم الزفاف، ضحك من كل قلبه، سمع صدى ضحكاته تتناقلها أشجار الغابة عبر السفوح تتردد صداها في الوادي الكبير، تغرد كرف عصافير فوق الشجر، تمر على السهول والشاطئ الرملي، يومها لم يكن يعرف أن يوم زواجه من عليا يصادف عيد الحب. بل لم يكن يعلم أن للحب عيداً. شعوره بالجفاء من الدنيا والناس كان يدفعه إلى كتابة مشاعره على الورق ، حيث لا يجد من يبوح لـه بما يعانيه، ولا أحد يهتم به، الخيال شيء والحقيقة شيء آخر، يمضي قطار العمر يعبر خلف المنحنى، حيث كان الشباب والطموح إلى تحقيق الأحلام، توقف عن الكتابة أخرج صورة قديمة مسح بأصابعه فوقها يا إلهي، في عينيها صفاء ومحبة نادرين، هكذا هي دوما تترك على شفتيها ابتسامة تنبض بالحياة، وتتفتح مثل وردة الصباح لم تكن أحلامها تأخذها أبعد من أن تعيش إلى جانبه، تتعاون معه وتعينه على مصاعب الدنيا، لقد كبرت عليا، ولم تكبر أحلامها، ظلت تردد على مسامعه، أنت والأولاد سعادتكم وصحتكم.. كل ما أتمناه من الله " المال والجاه " كله يزول يا حسن، المهم الإنسان. ثبت الصورة فوق زاوية اللوحة، وراح يرسم. تداخلت ألوانه تشكلت سفوحاً وتلالاً وشمساً تخرج من رحم الفجر بهية. أحس أن يده الممسكة بريشة الألوان ترتعش. ترك الريشة، أشعل لفافة تبغ ووقف فوق الجرف الصخري تأمل الغابة، فكر لو أن الناس هنا يعتنون بهذه الغابة يمنحونها الحب.. لكانت الآن مزاراً للسياحة والوافدين إلى الاصطياف، ألقى السيجارة على الأرض. داسها بحذائه، وعاد إلى الكتابة، كل شيء فيه تغير. لم يعد ينفع الندم. تابع الكتابة.. أنتِ وهذا الصباح المورق بالأمل وهذه الطبيعة المليئة بالجمال المفروشة بالأحلام، وهذا البحر هنا سأنتظر غروب الشمس لعلني أستعير من شفقها ألوان لوحتي، لتكون بمستوى ما تملكيه من حب، تأمل الكتابة، ثم تأمل اللوحة، الطبيعة علمتني الرسم، كما تعلمت من الحياة الكتابة، ربما أدخل الفرح إلى قلب عليا في هذه اللوحة، بعد هذه السنين من المرارة والعذاب التي قضتها في مصارعة الحياة، سفر ورحيل وغربة، توقف عن الكتابة، وراح يتذكر حكاياته القديمة ملامح طفولته الأولى حيث كان ينتظر إطلالة الشمس على مشارف حقول القمح ومواسم الحصاد، كانت عليا حلماً.. إيه الأحلام دائماً تشدنا إليها نركض.. نشقى ثم ما نلبث أن ننساها، الواقع مختلف تماماً، لكنه اليوم قرر أن يكتب لها عن تلك الأيام، عن الجمال والطبيعة عن الأمل، صوت من داخله، انتبه إلى الألوان الممزوجة التي صارت تشكل خطوطاً ودوائر ووجوهاً، هناك تحت عينيها العسليتين ترك دمعة تسبح على مهلها فوق تجاعيد حفرتها الأيام. شعر حسن أن عليا خرجت من الصورة، وهي ترتدي ثوبها النيلي.. كأن الزمن يعود به إلى الذاكرة، افترت شفتاها عن ابتسامة يشهق فوقيهما الفجر.. وتتراقص الأحلام حولها. راحت تكلمه. أنت ترسم الماضي ، وتكتبني من الذاكرة.. الواقع مختلف، ما عرفتك ترسم، كأني أراك تبحر في عالم الخيال. عتبت عليه.. أين أنا في كل هذه الألوان؟ تكتب تفرش ذاكرتك للقص عن الآخرين باسم المحبة تكتب للعشق للأرض، ودون أن تنتظر من الآخرين حتى كلمة شكر، عيناهُ تتابعان حركة شفتيها.. حسن أنت تشبه الندى حين يجيء في صباح الربيع، تتلهفه الأرض وسنابل القمح. يبلل ندى صباحك ربيع عمري أتذكر نحن التقينا في شهر شباط " عيد الحب " انهض. أسند قامتي، علينا أن نساير ما تفرضه الحياة من تطورات، ونتعلم كيف نمسك بالتفاصيل؛ كي لا تتركنا الدنيا خلفها. يمر الخريف فوقنا بارداً. نتلملم حول الموقد. نلقي إليها الجمرات الكبيرة. نبحث في خبايا خريف العمر عن الدفء. نتعب من الحيرة ودوران الأسئلة، كأننا نمشي إلى هلاك الأماني وموت الأحلام، ينوس ضوء الفجر. تتوه أقدامنا.. تجثم فوق صدورنا الأسئلة لا نجد لها جواباً. أصابعك القابضة على القلم والريح. تيبست. تاهت عن جدائلي. يطلع عليك الفجر وأنت ساهر ومن حولك نتف الأوراق. فناجين القهوة، وبقايا السجائر، بعضها يظل مشتعلاً فوق البلاط. توقف عن الكتابة. عاد إلى ذاكرته. أشعل لفافة تبغ. تخيل أنه يأخذ بيد عليا راحا يمشيان على أطراف الغابة. نظر إليها. ما رأيك أن ننتظر الفجر هنا على هذا الجرف. نظرت إلى عينيه، في هذا الزمن الموغل في الوجع والوحشة، صارت الأحلام كوابيس تؤدي إلى دوائر مفرغة، لا تظن أنك وحيد في مشاعرك، لكن الواقع مختلف. لم يزل يذكر كيف كانت تدخل إلى الحديقة الصغيرة أمام بيتهم الواسع ، وقد جعلته عبارة عن حوض من الزهور المختلفة الألوان، يشعر القادم أنه في روض من العطر، كتب في أول الصفحة، عليا لقد أثبتت الأيام صدق مشاعرك وتوقعاتك. أما أنا لقد خذلتني مشاعري ولم أحصد إلا الانكسار والندم. كانت يداه ترتجفان وهو ممسك بالقلم وريشة الألوان. تحرق الجمرات لهفته إلى الكتابة. شيء ما في داخله تحطم. ورحلت من حوله أطياف الذاكرة، كما ترحل العصافير. حاول أن ينهض من عزيمته. كان عليه أن يتابع الكتابة عن الأحلام وعن الحب. داهمه شعور بالمرارة والوحدة. صحيح أن الطبيعة جميلة، والعصافير ترف على الأغصان لتغرد أجمل ألحانها، والشمس تشعل الغابة دفئاً، الآن وقد اكتملت اللوحة، عليه أن يترك الغابة. لملم أدوات الرسم والكتابة. مد خطواته باتجاه البحر.. تمتم: الإنسان لا يعيش وحيداً.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: بوح الذاكرة   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:53 am

بوح الذاكرة


دائماً يقطع المسافة الفاصلة بين الحي الذي يسكنه، والمقهى كل يوم بخطواته المتثاقلة، عابراً الشوارع القديمة، والدكاكين التي لم تزل تحافظ على طابعها التراثي تعرض بعض الصناعات اليدوية، كثيراً ما تأمل متجر الحاج أبي عزيز يستمع إلى رنين الأواني النحاسية تحت ضربات مطرقته الصغيرة، الحاج أبو عزيز صانع ماهر لكل أنواع دلاء القهوة المرة الجميلة، التي تلمع بألوانها الذهبية، تشد الناظر إليها، إذا كان سائحاً أو من أبناء المحافظات الأخرى ، كانت الأواني، كأنها ترقص في الصواني النحاسية الموزعة بشكل أنيق فوق الرفوف الخشبية، أبو عزيز أمضى عمره في هذا المتجر الصغير، لا يجد راحة، ولا متعة إلا ضمن هذه الجدران الرطبة، وعند المساء، قبل أن يخلد إلى النوم، يذهب إلى مقهى النوفرة يستمع إلى قصص " الحكواتي " ويشرب النارجيلة، أبو عزيز لا جديد في حياته الرتيبة، حتى طريقة نومه في السرير، أو جلسته الصباحية حول البحرة الصغيرة في داره الواسعة، الكلمات التي يقولها لزوجته يرددها كل يوم، حتى دون أن ينتظر جوابها ، كان يعرف الكلمات التي تقولها. بعد أن أخذ رشفة من كأس الشاي، حدق إلى وجه صالح، اسمع يا بني يعلم الله أنني أحترم فيك محبتك للناس، وسؤالك الدائم عني، لهذا أنا أتكلم معك دون خجل، صمت قليلاً، ثم تابع وبيني وبينك.. عندما أتكلم أشعر براحة. احترامه الكبير لصالح، جعله يحكي لـه كل شيء عن ماضيه عن مهنته عن أيام ذهابه إلى الغوطة لمقابلة والده الذي كان مع الثوار. زمن يا صالح لا يشبه هذه الأيام. صالح.. لكن الزمن لم يتغير يا عم. ابتسم وهو يقدم لـه فنجان القهوة المرة، متابعاً سرد أحلامه كنت لم أزل طفلاً صغيراً، حين جلست على ركبتي.. بين يدي والدي حتى أتعلم أصول المهنة الصعبة، مد يده إلى رقبته تحسسها، لم تزل آثار أصابعه. أبو عزيز: صحيح كان رحمه الله قاسياً، لكن على يديه تعلمت فنون هذه الصناعة، كما تعلمت كيف أحافظ على زبائن المحل. لم يترك أي مكان في الدكان، إلا ووظفه في ترتيب " مصبات القهوة، والدلاء، والنراجيل، بأحجامها المختلفة" والفناجين الملونة الصغيرة، والكبيرة، تلك الرفوف الخشبية التي تزهو بما تحمله من جمال، وذكريات غالية على قلبه. حين يمر صالح من أمام تلك المحلات، يشكل في مخيلته خطاً بيانياً عن أبي عزيز، وتاريخه في هذا السوق، " كل من أبي عزيز وهذه الأمكنة يخبرك عن الآخر " تاريخ يمضي، ويدون ذكريات لا يمحوها مرور الزمن، يفكر في تلك الصناعة ماذا سيحل بها بعد رحيل الرجل، وأمثاله.. سخر من أفكاره.. هذه الصناعة لم تعد تغري " الجيل الجديد " الآن يريدون كل شيء جاهزاً. ترك صالح أبا عزيز ليتابع عمله، ثم انتقل إلى محل أبي شادي.. الذي يبيع جلود الأغنام، كان معجباً بطريقة توزيعها على جدران المحل المحشور ضمن زاوية صغيرة تبرز واجهته قليلاً عن المحلات الباقية وقد علق أبو شادي أمام الدكان بحركة استعراضية بعض الفراء المختلفة والتي يرغب فيها أبناء الريف " أبو شادي لا يختلف عن أبي عزيز.. إلا في معاملة زبائنه كان ضيق الأفق، طبعه حاد، لا يحب كثرة الكلام، والناس في هذا السوق قد تعودت على السمسرة، والمجادلة في ثمن حاجيات أبي عزيز حين يطلب ثمن " أي حاجة من محله " هذا يعني أنه لن يتراجع. كان يحدث صالح.. يا بني لقد تركت هامشاً بسيطاً للربح حتى لا أخسر.. لا أريد أن أطلب سعراً عالياً ثم أوهم الشاري بتنازلي عنه، على الرغم من حدة طباعه، صالح شديد التعلق في حديثه عن الماضي، كما كان معجباً بلوحة تركها أبو شادي في صدر الدكان تظهر صورة " لرجل يقف أمام الميزان، و كلمات لها معاني البيع الحلال " كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة قبل أن ينهي جولته الصباحية على صديقيه، ثمة شيء يجعله فرحاً حين يغادر غرفته ذات الجدران المزينة بصورٍ شتى لكتاب، وسياسيين، وفنانين، قرأ لهم أو سمع لمحاضراتهم، وتركوا في فكره أشياء لا تنسى، هز برأسه، كلها صارت من الماضي.. من الماضي، حين يأتي إلى هذا الشارع القديم يشعر بالراحة. أخذته أفكاره من نفسه لقد تجاوز الأربعين من عمره، يشعر دائماً أنه بحاجة إلى امرأة يعود إليها بعد شقائه اليومي في العمل، يفرحها بما يكتب، الحيرة تكاد تنال منه، بعد أن كان طوال حياته رجلاً منطقياً يحكم الأمور بعقلانية، صارت الوحدة تشعره أنه غريب، لا أحد يأنس إليه أو يسمعه، يحزن معه، ولا يفرح، كم اشتهى فنجان القهوة مع امرأة يملأ عطرها المكان، التفت حوله كأنه يبحث عن ملامحها، هي وحدها.. هدى كانت تخرجه مما هو فيه، هنا في هذا المقهى، والذي كان من قبل حماماً لولاة الشام، جلسا معاً، وراحت هدى، تحكي لـه عن حياتها، منذ أن تركت أحلام الطفولة في قريتها البعيدة ، كان يستمع إليها، بينما صوت فيروز يشكل غيمة من عشق ولهفة "حبيتك تنسيت النوم يا خوفي تنساني" يمر على الوجوه المتقابلة يحرك الشفاه بلا إذن، يعبر نوافذ المقهى، يمشي صوت فيروز في الشوارع القديمة يغتسل بعطر ماضيها ورائحة التوابل، يعبر إلى التفاصيل اليومية لحياة الجالسين في المقهى، كل من في المقهى كان صامتاً يسمع، وإذا تحدث أحد ما كان يتحدث هامساً كي لا يخدش بصوته روعة ألحان الرحابنة وغناء فيروز " بشتاقك لا بقدر شوفك.. وما بقدر أحكي " بهمس سألها عن سر هذا الحزن على وجهها، دموعك غالية يا هدى.. تتلألأ الدموع في عينيها، تفتر شفتاها عن ابتسامة حزينة... ألا تسمع فيروز.. آه.. أسمع " يا خوفي ابقى حبك بالأيام اللي جاي... " أنت وحدك تشعر بما في داخلي تقرأني قبل أن أفتح صفحات كتابي، تعرف ما أشعر به، تسعى إلى تلبية حاجتي قبل أن أطلبها. نظرت إلى وجهه بعينين مغسولتين بالدمع واللهفة كأنها كانت تريد أن تحتويه فلا يراه أحدٌ غيرها، تركت يدها بين يديه.. يا إلهي كأنك أنت من يكتب ذاكرتي. صارت شفتاها تردد كلمات الأغنية، سلملي عليه.. بوّسلي عينيه. ذاكرته دائماً تشده إلى الماضي، مد يده إلى صدره ضغط بقوة في الجهة اليسارية، هنا كلما مر الوقت يزداد الألم. حشرجة في حلقه طعمها مر، سعل بشدة قبل أن يدخل إلى مصعد المقهى، لم يكن اليوم مزدحماً، جلس إلى الطاولة، قدم إليه النادل قهوته ونارجيلته جال بنظراته على المكان، كل الأمكنة دونها موحشة باردة كانت ليلته الماضية أيضاً موحشة باردة، كاد القلق يقضي عليه وهو ينتظر الفجر، تطول فيه سنوات الانتظار تراءى لـه رجل آخر يجثو على ركبتيه، بين يدي امرأة تضحك من ضعفه وقلة حيلته " أنت لا تجيد شيئاً إلا القراءة والكتابة " لم يرفع نظره إليها، خوفاً من شيء تقوله في وجهه، يظهر عجز رجولته، أحس كأنها عرفت ما يفكر به، ضحكت لا تخف تلك الأمور أحتفظ فيها لنفسي، حتى أنت لا أبوح لك فيها اتق الله، ماذا تفعل يا رجل بنفسك؟ الناس تقرأ الصحف.... ضحكت ساخرة.. وأنت تأكلها، نظر إلى وجه المرأة، لم يقل أي شيء مجرد نظرات عابرة، العيشة معك لم تعد تطاق، أنت لا تمشي مع الدنيا، وحدك تظل تهزي، كان النادل يبدل قطع الفحم الصغيرة، وهو ينظر في عينيِّ صالح حائراً، تمتم النادل يا إلهي الرجل يحلم والنارجيلة تحترق، أصبحت أخاف عليه من هذه الأحلام ، حرك يده من غير انتباه دفعت بكأس الماء، صوت تحطم الكأس أخرجه من دنياه الحالمة، نهض متثاقلاً شعر كأن جسده تحطم مثل هذه الكأس، كان لا يستطيع الحراك، جمع بقايا قوته، ومد خطواته دون أن يعير النادل أي اهتمام ، تمتم، كان لقهوة هدى نكهتها الخاصة.. حين يريد الكتابة تأتيه مع القهوة، ورائحة الهيل، أخرج أوراقاً وصوراً قديمة، طالعته صورتها، وحدها كانت تعرف كيف تأخذه إلى الدنيا يقوى بها على ما يواجهه من مصاعب في الحياة، تساءل ما الذي غيرها؟ كانت تأتي إليه كلما اشتد البرد، أو فرش الربيع ألوانه على المدينة، وكلما هز الخريف أوراق الشجر، كانا يركضان في الشوارع يلملمان الأوراق الصفر بفرح، وهو ينظر إلى الصورة بشغف، كتب في أعلى الصفحة "بوح الذاكرة" تذكر حديث الحاج أبي عزيز، ومصبات القهوة المرة، ثم محل الفراء، السوق القديم، قلب أوراقاً وكتباً قديمة، لم يعد لـه إلا الذاكرة والصور، والأحلام، وصوت ناي حزين يطن في أذنيه، هنا جلسا، هنا كتبا، هناك تبادلا القبلات، والهمسات، وشربا نخب عشقيهما، الدنيا غواية تشد من يتوه عن طريق أحبته. مرت السنون، أخذت منه الكثير، ولم يزل يعيش وحيداً على الذاكرة، والصور، تتوالى عليه، مواسم البرد، وتطويه ذاكرة الفصول. صارت حياته كلها خريفاً. سمع صوت انغلاق الباب بقوة. عادت زوجته من السوق أخيراً تحمل أكياس الخضر والفواكه، قالت دون أن تنظر إليه حضرتك تجلس براحتك، وتفرش هذه الأوراق اللعينة على الطاولة كالعادة، أخذ صوتها يعلو، والله عال تشرب القهوة من دوني، وأنا أحمل لك كل هذه الأشياء من السوق كي أوفر عليك " فرق الأسعار". ابتسم بمرارة، وتابع تناول قهوته الباردة. أخرج أوراقاً جديدة عاد إلى الكتابة. خيالات تمر أمامه. صور من الماضي المقهى والنادل. المحلات القديمة. شدته أحلامه إليها وراح يكتب من جديد ما يبوح به طيف الذاكرة.‏

دمشق: 1 /2005‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: الفاجعة    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:54 am

الفاجعة


الدموع تحرق خديها تستبيح كبرياءها، وهي تحدث ابنها يونس، تمرر كفيها على رأسه.. وخديه ، تداعبه بحنان الأم المفجوعة برحيل زوجها مبكراً، كانت تحدثه عن والده، كأنه حاضر، تتخيله أمام عينيها بقامته ووجهه الفرح متنهدة والدك رحمه الله " رجل لا يقبل الخطأ، مهما كان صغيراً أو كبيراً، لا يتأخر عن مساعدة الناس، ولا يترك " فرض من أوقات الصلاة" يومها لم يكن يونس تجاوز الرابعة من عمره " تابعت الأم تقص حكايتها على ابنها، اسمع يا بني الآن أنت في الجامعة، ووالدك انتقل إلى رحمة الله و أيام العزاء مرت.. فتحت كفيها، الله يعين كل من تفقد رجل بيتها ". ناديت على أخيك الكبير مصطفى، أسرع يحبس في عينيه دمعات حارقة أجلسته إلى جانبي وقلت لـه: بعد والدك لم يبق لإخوتك غيرك، أريد أن تعاهدني " أمام الله " وأمامهم على أن لا تتخلى عنهم، وأن تعمل على دخولهم إلى المدارس لتحقق أمنية والدك. مصطفى يتكلم مطأطأ الرأس بين يدي أمه، سأكون خير خلف لخير سلف إن شاء الله يا أمي. ضمته إلى صدرها مع إخوته الصغار، يونس وفادي. والبنتين خديجة، وهدى. أشاحت الأم بوجهها بعيداً، كونوا كباراً، الحياة مريرة قاسية لا ترحم الضعفاء يا أولادي " تعاونوا لتكونوا أقوياء " لقد خبرت الأم الحياة من خلال ترحالها الدائم بين المدن، والقرى، التي تنقّل إليها زوجها أثناء عمله في شرطة الحدود، أم مصطفى لم ترث عن زوجها إلا قطعة الأرض وسجادة تغطي تراب أرض الغرفة، اشتراها من تاجر صديق، دفع ثمنها على مراحل من راتبه المحدود. رحمة الله واسعة يا أولاد. لم يكن أمام مصطفى من حل، إلا أن يبحث عن عمل يستطيع من خلاله تأمين لقمة العيش لوالدته وإخوته، قطعة الأرض التي ورثها عن والده لا تكفي، والعمل فيها شاق ولا يفي بالحاجة المادية، كان يعمل جاهداً لتأمين ما يضمن العيش اليومي للأسرة، في تلك الفترة جاءَ إليه صديقه خالد ليعرض عليه تجارةً راح يزينها لـه بحنكة الخبير في الأمور كي يقنعه ببيع قطعة الأرض الوحيدة التي ورثها عن والده، والعمل في التجارة. إذا كنت تريد تحسين وضعك المادي، فعليك أن تسمع ما أقوله لك. يبدو إنك أنت آخر العالم، كل الناس تسافر بهذه الأيام إلى "روسيا" السوفيات.. صار روسيا، وما عليك إلا أن تبيع قطعة الأرض، وتشتري أي نوع من البضائع، توقف خالد عن الكلام قليلاً ثم تابع، يقولون إن تجارة الأحذية التي يسافرون بها إلى هناك أرباحها مضمونة عشرات الأضعاف " كما يقولون إن تلك البلاد فتحت أسواقها من جديد لكل وافد، بعد أن صارت تجارتها متحررة من قيود الجمارك ومراعاة السوق الداخلي " وأي بضاعة تدخل بهذه الظروف تحقق أرباحاً خيالية " يعني فوضى ". كما أن هناك في البلد بعض المعامل التي تبيع الأحذية " صناعة محلية " بأسعار مغرية، مصطفى الحائر بين إخوته وأمه، وبين ما يطرحه عليه خالد الذي يفتح لـه طريقاً، مفروشاً بالأحلام، لم ينم هذه الليلة، عرض الفكرة على والدته فلم تعارضه، أخذت تردد الدعاء لله سبحانه وتعالى أن يوفقه ويرده سالماً. لم يطل الأمر به، باع مصطفى قطعة الأرض واشترى بثمنها كمية كبيرة من الأحذية استعداداً للسفر، كان من المفترض أن يصل إلى روسيا ليجد هناك من يستقبله، ويأخذ البضاعة منه ليعود بالربح، وحتى يفرح والدته وإخوته، مصطفى هائم الفكر، وهو يسترجع تلك اللحظات المريرة حين جثا بين يدي أمه لتمنحه بركتها، هي التي اعتبرته رجل البيت بعد رحيل الوالد، كان قلقاً مشغول البال، لقد كبر الأولاد وهم بحاجة لمصروف كبير. يونس طالب جامعة يدرس الأدب، وفادي سافر للعمل في دولة خليجية، وخديجة وهدى، تزوجتا وصار لكل منهما بيت وأولاد، وأمه التي ضحت بشبابها من أجل تربية الأولاد، والحفاظ عليهم تنتظره ليعود من تجارته الرابحة، تمر الساعات ثقيلة مملة، ومصطفى ينتظر أولئك الذين أخذوا البضاعة، حتى يعودوا بالمال، مضى يوم، يومان، ثلاثة، أسبوع أسبوعان، ومصطفى ينتظر على لهيب الجمر، وكلما اتصل مع خالد كان يتهرب منه تارةً ثم تجيبه السكرتيرة أن خالداً مسافر، أو هو في اجتماع مهم. " ودارت الأيام " ربما يعقد الآن صفقة جديدة مع رجل آخر يهدم بيته كما هدم بيتي، كان مصطفى يتعرض للمضايقات اليومية من قبل بعض الرجال التابعين لخالد " خليط من العرب والروس " بحجج واهية، حتى يشعر بالخوف، تارةً يدفع لهم " رشوات بالعملة الصعبة " وتارة يتشاور مع بعض معارفه هناك، جميعاً نصحوه بالعودة حكيم خبير بما يجري بهذه الزمن من تحولات على الناس وأفكارهم.. يا أخ مصطفى.. خالد معروف في موسكو كلها أنه " نصاب وصاحب سوابق ويده طايله؟‏

لم يكن أمام مصطفى بد من العودة إلى البلد. في البيت قرأ الجميع في عيني مصطفى أثار الحزن العميق الذي ترك ظلاله على ملامحه وعينيه الدامعتين، مصطفى قليل الكلام، كثيراً ما يختلي بنفسه لفترات طويلة، إلى أن " مات مقهوراً " لقد خسر الأرض، ولم يسترجع المال. خالد وحده الذي أصبح تاجراً يملك الملايين من أرباح تجارته بالأحذية والأقمشة والناس، وكذلك " الممنوعات " كما يقال إنه صار لـه معارف هناك في روسيا نفسها. وحتى مع " التجار الكبار " تلك الطبقة التي تشكلت على غرار " تعميم ثقافة العالم الجديد" تدير لـه تجارته، وتغطي عمليات النصب والاحتيال التي يقوم فيها. حين عاد خالد إلى البلد محملاً بأرباحه الخيالية وجد تجارةً من نوع آخر، كان يبحث عن تلك المعامل التي لا يهمها سمعة إنتاجها من البضاعة الوطنية، ولا ما ينشر في الصحف اليومية في تلك البلاد التي تخلت عن أنظمتها " الأيديولوجية " لتسبح في ركب العولمة الجديدة.‏

يونس: كان من الممكن أن تكون صناعتنا هي الأولى، لكن هؤلاء الذين تركوا بعض أعمالهم الحرة، وصاروا تجار هذا الزمن، لا هم لهم إلا الكسب السريع لينتقلوا بعدها إلى بلد آخر، وتجارة ثانية توفر لهم غطاءً جديداً لأعمالهم الشريرة.‏

كان يونس يحدثني وعيناه الحائرتان تحبسان دمعاً على شقيقه الراحل ودمعات على عذاب أمه التي أصرت على أن ينهي تحصيله الجامعي، يونس: ليس غريباً أن يقوم خالد بذلك " الابن سر أبيه " كان والده الحاج جاسم رجلاً لا يعرف من الدنيا إلا جمع المال والتجارة بالممنوعات، المهم ما يجمعه من مال " حتى لو كان عن طريق الحرام ".‏

تابع يونس: تقول والدتي إن أبا خالد جاسم الحمد، كل عام يقصد قبر الرسول "ص " يا بني ويحج ويعتمر، كان يونس يتنهد بحرقة. آه يا أمي هذا الرجل يرتدي دشداشته البيضاء ليغطي سواد نفسه. فهو يظهر عكس ما يضمر، كثيرون من الناس يظنون أنهم بذهابهم إلى الحج يغسلون ذنوبهم " مهما فعلوا من آثام بحق الآخرين " وهذا الرأي غير صحيح يا أمي. تابع يونس: نعم إن الله يغفر الذنوب، ولكنه سبحانه شديد العقاب أنت تعلمين ما حل بخالد وأهله، لقد احترق بيته وأصيب هو بالشلل، وأولاده لم يكمل احد منهم تحصيله العلمي، أحنى يونس هامته ليقبل يد أمه، والحمد لله نحن الآن بألف خير. ها أنا قد تخرجت في الجامعة وعملي في مجال التدقيق اللغوي والكتابة جيد، وشقيقتاي تزوجتا وأخي فادي تزوج أيضاً وأصبح عنده أولاد، وأنت تقيمين معي ومع أم محمد والأولاد.. ضمته والدته إلى صدرها. الله يحميك ويعطيك يا بني قلبي راضٍ عنك وعن زوجتك وأولادك. وأولئك الذين لا يحسبون حساباً للآخرة اتركهم لله.‏

قال يونس: أشعر وأنا أحدثك عن بعض أموري الشخصية براحة البال , كما يقال ربما الدمعة أحياناً تغسل ما نعانيه من فواجع , لكن يا صديقي الفاجعة ألا يشعر الإنسان بمآسي أخيه الإنسان؟!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: الملهوف    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:56 am

الملهوف


صعدنا إلى الحافلة الصغيرة، ونحن نتدافع من شدة الازدحام، الوقت مساءً، والمطر شديد الغزارة، كل واحد يريد مقعداً ليريح تعبه، دون أن يهتم بالآخرين، لفت انتباهي رجلٌ يجلس في المقعد المقابل، وقد بدا عليه الارتباك، يداه ترتعشان، وعيناه مملوءتان بالحزن ، كان ينظر كمن يفتش عن ضائع، نظرت إليه، في عينيه دمع حبيس يتلألأ، فجأة سمعته ينده على امرأة تجلس في المقعد الأخير، كأنه وجد فيها ضالته، بادرته المرأة، أبو محمد.. الحمد لله على سلامة ريما، والله حين سمعنا الخبر قلقنا كثيراً عليها، لم تنهِ المرأة كلامها، حتى انهمرت دموع الرجل، وأصبح جسده يرتجف، ولم يعد قادراً على متابعة الحديث، بدت عيناه الغائرتان في تجويف عظمي، تسبحان في بحر من الدموع، وبصوت مخنوق، حاول أن يرد عليها لكنه فشل. قلت في نفسي يا إلهي الرجل يبكي بحرقة، إن في الأمر سراً، ودون أن يسأله أحد عن سبب ارتباكه، ولماذا يبكي، راح يتكلم كمن يرزح تحت ثقل كابوس يضغط على صدره، ولم يعد قادراً على التنفس، تنهد أبو محمد ودموعه تسبق كلامه، أنا أعمل في عيادة الدكتور حسان، الشهادة لله " الدكتور ابن حلال " لا يترك مناسبة إلا ويمنحني أجراً إضافياً، أو يقدم لي ولعائلتي الهدايا، وكذلك ابنتي هيفاء، تعمل عنده في المستوصف، كل يوم نعود معاً إلى بلدتنا المتكئة على حواف جبل الشيخ، ترك أبو محمد حديثه عن نفسه وأخذ يقص علينا سيرة الدكتور حسان، سبحان الله، الدكتور حسان، يحب عمل الخير كثيراً، فضائله على الناس كثيرة، كم منح الدواء من عيادته لمن يحتاج دون ثمن، وكم مرة أسعف المرضى من البلدة إلى المدينة دون أجر، حدق الرجل إلى وجوهنا وتابع: عندما ينزل من البلدة إلى المدينة في الصباح تمتلئ سيارته بالذاهبين إلى المدينة، وفي العودة أيضاً، ومنذ يومين، اعتذرت منه قبل انتهاء دوام العيادة، كنت أريد الذهاب إلى السوق، لشراء بعض الحاجيات، التي تلزم البيت، على أن أعود قبل موعد الذهاب إلى البلدة، لكنني لسوء الحظ تأخرت، وعندما أراد الدكتور العودة إلى البلدة، اعتذر من ابنتي هيفاء.. أرجو أن تذهبي في سيارات البلدة يا هيفاء، كان خجلاً أن يصحبها معه بالسيارة، الوقت تأخر وكلام الناس في البلدة لا يرحم، وبلا طول سيرة، ذهبت هيفاء وحدها، كما ذهب الدكتور في سيارته. يعود أبو محمد إلى حديثه المؤثر، بعد أن أنهى شراء ما يلزمه، توجه إلى مركز الحافلات التي تقله إلى بلدته، وفي الطريق بينما يفكر في أمور العائلة، لمح من خلال النافذة سيارة الدكتور حسان، مركونة على جانب الطريق، باتجاه الوادي، وقد تحطم زجاجها وواجهتها.. حادث كبير، ودون تردد صرخ أبو محمد على السائق، هيفاء راحت هيفاء، وشده من ثيابه، كاد يتسبب بحادث مفجع، سمع صوت الفرامل، نزل من الحافلة مسرعاً، ضرب كفاً بكف، يا إلهي كيف يعرف الخبر اليقين، وما حصل للدكتور وهيفاء، وقف إلى جانب السيارة، وما هي إلا دقائق شاهد الحافلة القادمة من البلدة وفيها زوجته وأولاده وبعض الجيران، أصابه شيء من الهذيان.. ولم يعد قادراً على النطق السليم، ظناً منه إن هيفاء والدكتور أصابهم مكروه ، ضرب كفاً بكف وأخذ يلوح للحافلة بقوة، نظر إلينا.. والله يا جماعة ظننت أن هيفاء والدكتور " ماتا في الحادثة " نزل الجميع من السيارة كانت هيفاء معهم أخذها إلى صدره وراح يبكي، بعد دقائق ومحاولات التهدئة، قال لها: الحمد لله على السلامة ثم سألها عن حالة الدكتور، احتارت ما ذا تقول لأبيها، من بين الجميع تقدمت ابنته الصغيرة مريم، بابا الدكتور حسان الحمد لله بخير، لكن ريما.. يا بابا ريما ، ريما ما بها، ريما ضاعت ولا ندري عنها شيئاً، شعر أبو محمد أن قدميه لم تعد تحملانه وأن الدنيا تدور به.. أصيب بدوار وسقط مغشياً عليه، أسرعت زوجته إلى زجاجة الماء وسكبتها على وجهه، أين ريما؟ يقول جارنا أبو خالد أنه شاهدها أمام كلية الفنون، أبو محمد فهموني كيف حضرة أبو خالد شاهدها ولم يسألها ماذا تفعل وحدها، بعد أن ركب الجميع في الحافلة، قالت أم محمد: ظن الرجل أنها تنتظرك، وحين علم أننا نبحث عنها أخبرنا بذلك، تابع أبو محمد نزلنا إلى المدينة وبدأنا نبحث كل مجموعة في اتجاه، بينما يتحدث، كان جميع من في الحافلة صامتاً كأننا فوجئنا بما يقوله، لم نترك مستشفى ولا مركز إسعاف، ولا مركز شرطة، إلا وسألنا عن البنت، لكن دون فائدة، لا أدري ما دفعني كي أسائله عن عمر البنت، قال: والله لا أدري، هي في الصف الثاني الإعدادي، قلت مستغرباً: يا عم ابنتك ليست صغيرة ومن المفروض تعرف طريق العودة على الأقل، أو تتصل بالهاتف معكم. تجاهلني أبو محمد وتابع حديثه: بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً اتصل بنا رئيس قسم البرامكة، وأخبرنا عن وجود البنت في القسم، لم نصدق كيف وصلنا تداخلت الأمور في بعضها ورحنا نتحدث في الطريق، ونحلل كيف ذهبت ريما، كان لقاؤنا بها مليئاً بالدموع والمعاتبات والأسئلة، وفي البيت جلسنا حولها بعد أن غسلت وجهها وارتاحت قالت ريما: إنها كانت تسير على جانب الطريق الزراعي حول البيت، وهي تحضر دروسها استعداداً للامتحان، فاجأها شادي، ابن جارنا وقال لها إن والدها ينتظرها إلى جانب موقف كلية الفنون بالشام، ترددت ريما في البدء، ثم حسمت أمرها بالذهاب، فتشت جيبها وجدت إنها تملك أجرة الطريق، وهناك تلتقي مع والدها، وهو يتكفل بالعودة، المهم تعرف السبب في حاجته إليها! فكرت أن تذهب وتخبر أمها، لكنها خافت أن تتأخر على والدها، في المدينة لم تجد أحداً ينتظرها، كما أنها المرة الأولى التي تنزل إلى المدينة وحيدة، راحت ريما تنتظر، وكلما مر الوقت تشعر بالخوف، تارة على نفسها، وتارة على والدها، وأخذت تسأل نفسها، هل ذهب إلى البلدة، هل حدث لـه شيء؟ أسئلة خافت أن ترددها على نفسها، حتى مضى الوقت سريعاً، وهي تنتظر، ومن خوفها لم تعد تتكلم مع من يسألها عن سبب وقوفها هنا مدة طويلة، أو لماذا تبكي، وفي النهاية وجدت امرأة ومعها طفلة بعمرها تقريباً، حدثتها بأمرها، طمأنتها المرأة وأخذتها إلى قسم الشرطة، وشرحت قصتها، بعد أن هدأ من روعها، سألها رئيس القسم، ألا يوجد عندكم هاتف؟ تذكرت رقم الهاتف وأعطته للضابط، وفعلا اتصل بنا الضابط، تابع الرجل حديثه، حامداً الله أنها عادت إلى البيت سالمة، ولم يمسها أحد بالسوء، وهذا أهم ما في الأمر بالنسبة إليه، هنأناه جميعاً بعودتها، حين نزل من الحافلة كان هائماً، حتى لم يدفع الأجرة، ملامح الرجل وهو يبكي لا تغادرني كلما أركب الحافلة، أتذكره، أذكر حركات يديه، وارتجاف شفتيه، دموعه الغزيرة، عيناه كيف كانتا تجولان على ملامحنا وهو يتحدث كالملهوف.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: أبو الريح   مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 1:58 am

أبو الريح


أبو الريح رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، يعمل سائقاً في منظمة الهلال الأحمر الفلسطيني، حين يكون في مهمة نقل الجرحى، يقود سيارة الإسعاف " الشفرولية " بجنون، يطلق لزمور الخطر العنان يصفه مهدي وهو مقاتل من تونس، جاء إلى لبنان كي ينضم إلى المنظمة، مهدي يظن أنه لن يطول فيه الأمر، حتى يكون مع الزحف الكبير العائد إلى " فلسطين". لكن الزمن تركه يعيش سنوات طويلة بانتظار الحلم " أصيب مهدي بشظية شبه قاتلة في أثناء غارة ليلية على الجنوب اللبناني، قام بها الطيران " الصهيوني" كانت كاس الشاي في يده، وهو ينظر إلى الفضاء، ويصف أبو الريح، يا رجل كأن سيارة الإسعاف تحولت إلى أفعى تتلوى على طريق الجنوب باتجاه بيروت، ثم طريق الشام. تلف وتفتل بين السيارات العابرة، والسائقين ينظرون إلى أبي الريح بدهشة وإعجاب، أبو الريح رجل، لا يعرف النوم إلا في آخر الليل بعد أن يهدأ القصف، كان يردد وهو نائم هؤلاء الأوغاد لا يوفرون صغيراً أو شيخاً، أو امرأة، عيناه ضيقتان تشبهان عيون الصينيين، عندما كنت أداعبه راغباً في إخراجه من حالة الشرود الدائمة، ربما حضرتك يا " أبو الريح " من أصل صيني؟ يضحك أبو الريح قائلاً: كلنا إلى آدم، وآدم عليه السلام من تراب، حتى الزمن لم يتركه، لقد حفرت السنون منحدرات في وجهه، بدا كأنه تجاوز الخمسين من عمره حين يبتسم تلمع أسنانه البيض، وتكبر فتحتا أنفه، وتتنبه أذناه، يقسم يمينه المعهودة كلما ضاق به الحال " وروح الشهداء" يا " أبو خالد "، لا شيء في السيارة. أساساً هم لا يعطونني الشفر إلا إذا كان هناك شهيدٌ، أو جريح ٌ " مالكم يا عمي دائماً تفتشون السيارة , أنا خيا، لا أحمل معي تهريباً يلعن (أبو الفلوس)، ودم الشهداء، وحياة الغالية، يسأله محمد، ومن الغالية يا أبا الريح؟ ينظر إلى وجوهنا بتمعن قبل أن يتكلم. في تلك اللحظة تتشكل نظرات حادة في عينيه، لا مقدرة لي على تصورها أو رسمها، ولا حتى كتابتها على بياض ورقي. يتابع: إي هو في غير الغالية " فلسطين " ولك يا عمي أنا لا أحمل، إلا علبة الدخان وربطة الخبز، وها هم، شوفهن، من مخيم اليرموك، وهذه شوفها حمراء طويلة، وخبز سوري، يتابع: خيا لا تصدقوا كلام الناس، ما في أرخص من أسعار " الشام " في لبنان الأسعار نار، يضحك أبو خالد من ارتباكه، ويداعبه حذراً، ثم يأمر بفتح الحاجز كي ينطلق أبو الريح مسرعاً، أبو الريح يقول الحقيقة، يدعس بقدمه المتسخة فوق دعسة البنزين، يسمعُ ضجيج محرك الشفرولية، وهي تنطلق مسرعة باتجاه دمشق، وعندما يعود آخر الليل ينادي على يا سين أبي وسيم، ما في حواليك كاسة شاي، فيأتيه الجواب: تفضل الشاي جاهز على المدفأة، يترك السيارة ويترجل على عجل، (ها تلك كم شفه كرمال النبي)، يشير بيده إلى عنقه " جوزة " حلقي يبست من الصباح دخان، وبلا أكل‏

ولا شرب.‏

قال محمد: ألا تتعب يا أبو الريح؟‏

أبو الريح: آه.. أتعب، أنا أتعب إن وجد جريح، ولم أستطع إنقاذه، دمي يغلي ويصير مثل النار، التفت إلى محمد، شوف عمي هؤلاء الشهداء، شباب بعمر الورد، يقدمون دمهم فداءنا، وفداء الغالية، على القليلة نحن نقدم لهم المساعدة الممكنة.‏

محمد يهز برأسه، معك حق.. معك حق. الواحد منا يجد نفسه صغيراً أمام تضحياتهم الكبيرة.‏

يشرب أبو الريح الشاي، ويركب " الشفر " منطلقاً باتجاه الجنوب.‏

في يوم شديد البرودة امتزج فيه المطر بالثلج، والريح تصفر خارج البراكية التي نجلس فيها، وبعض الغيوم البيض راحت تتشكل فوق بعضها تهيئاً للهطل، الحدود معرضة لهطول الثلج في كل يوم.‏

قال أبو خالد: أغلقوا النوافذ، والباب جيداً فهذا الصقيع لا يرحم، وأنت يا غسان زدْ كمية المازوت، لا أعتقد أن أحداً يأتي من لبنان، أو من سوريا في هذا الجو العاصف، الطرقات كلها بعد قليل ستنقطع، وخاصة في ضهر البيدر، ووادي القرن. تابع كلامه، وهو يستلقي على السرير "غير المجنون ما يخاطر بهذه العاصفة " بعد برهة سمعنا ضجيج محرك سيارة، وصوت زمور الخطر، نهض أبو خالد من السرير مستغرباً، ألم أقل لكم " غير المجنون " وقبل أن يكمل كلماته، دفع الباب بقوة ودخل أبو الريح مقطب الجبين، وقد تاهت ملامحه السمراء في حزنه، عيناه كجمرتين تلمعان، ويداه ترتجفان، حافي القدمين وثيابه ملطخة بالدم.‏

قال أبو خالد: الله يعطينا خيرك، شو أبو الريح كنت تتصارع مع الوحوش؟ لم يستطع أن يقول شيئاً، دمعت عيناه، حدق إلى وجوهنا وقال: كل حياتي، وأنا أنقل الشهداء والجرحى، وأنا مرفوع الرأس لا يهمني الموت، ولا طيران العدو أثناء القصف، لكن اليوم الحالة مختلفة، فتح أبو خالد باب السيارة، يا إلهي ما هذا يا أبو الريح، لمن هذه الجثث المكومة فوق بعضها؟ لم نسمع أن غارة هاجمت الجنوب، ولا أي مكان في المواقع. كان دمعه ساخناً وسخياً، أشعل لفافة تبغ سحب نفساً عميقاً ثم أطلقه في الهواء، وبصوت مخنوق قال: هذه المرة أهلي يقتلون بعضهم يا أبا خالد. أهل الغالية الذين تتناقلهم السفن، والموانئ، وتلونوا بألوان جوازات السفر الممنوحة لهم الذين عايشوا البندقية حتى صارت جزءاً منهم، من حياتهم، وحاوروا المدافع، والريح، والثلج، واعتادوا أن يقهروا الجبال، والصخر، والغابات، ويتسللون عبر الممرات الضيقة والمخيفة في الليالي الحالكة السواد، ويجتازون الأسلاك المكهربة، ويعبرون إلى " الغالية "، ليقوموا بعملية تهز كيان العدو وترعب الوافدين إليها من " أنحاء العالم " ليغتصبوا حقاً ليس لهم، وتجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يأتوا للإقامة في أرضنا فيفكرون جدياً بالرحيل عنها، أو التعايش مع قرارات " الأمم المتحدة ". هم اليوم يذبحون بأيديهم الألفة، والمحبة، والأخوة، ورابطة الدم والتاريخ، يقدمون الشباب ضحية على مذبح الكراسي الملعونة، والبهرجة الكاذبة، كأن النار لا تحرق إلا الناس الغلابة! أبو خالد، ماذا تقول يا أبا الريح؟ شو حضرتك تركت سيارة الإسعاف، وصرت تدرس الفلسفة؟ الحقيقة كنا جميعاً مبهورين بما يقوله، ومن الرواية التي قصها علينا، لم نكن نتوقع رجلاً مثل أبي الريح يحمل شهادة جامعية، هذا آخر ما كنا نتوقعه، تابع أبو الريح نحن نتقاتل فوق أرض ليست أرض المعركة، تفتر شفتاه عن ابتسامة صفراء، ودمعه يجري على سواد خديه، والخيبة تسكن داخله التعب.‏

قال: كما سمعت اختلفوا الشباب في التنظيم، وتحول الخلاف إلى مشادة تابع بتهكم: وأنت تعرف أن وراء الإحداث من يختلق الأسباب، والمشادة احتكمت إلى السلاح، ولعت النار يا خيا، وما بتعرف مين بدك تنقل في السيارة، شيء يجعل الإنسان يفقد عقله، تصور بعض الشباب من عائله واحدة، وفي تنظيمات مختلفة، كل واحد حمل السلاح على أخيه، معركة الكل فيها خاسر، كما قلت لك شيء يحط العقل بالكف " جنون " يا رجل ما في عاقل يوقف الناس، والسلاح لا يرحم، نحن نحمله لنقاتل به عدونا، لكن يا للأسف الإخوان في هذا اليوم جربوه بحالهم المهم الله يستر، ويسامحنا جميعاً فتح كفيه، وقرأ الفاتحة للجميع، وأغلق باب السيارة.‏

قال محمد: شوف حالتك يا أبو الريح حافي القدمين، وثيابك كلها دم، وأنت لا تدري بذلك.‏

أبو الريح: حفيان، عريان، أرجو أن تسرعوا بالموافقة على الدخول، قبل أن تطلع عليكم رائحة الجثث. فعلاً قام أبو خالد بالإجراءات القانونية، وانطلق أبو الريح، وصوت زمور الخطر يخترق الفضاء، والمطر، والأسئلة الحائرة على الشفاه.‏

حين عاد أبو الريح قبيل الفجر، كان منهكاً، وقد هده التعب. جلس على حافة السرير صامتاً. قال أبو خالد: هات حدثنا عن الأهالي في المخيم، كيف استقبلوا الأخبار، وكيف تلقوا الخبر؟ لم يستطع أن يتحمل، بكى بألم، لم أشاهد رجلاً من قبل يبكي بهذا الحزن والألم، وبكاء الرجال قاسٍ، خليها على الله يا أبو خالد " ودم الشهداء، وتراب الغالية، تمنيت الموت، ولا أشوف هذا اليوم، مظاهر حزن باردة، كل يفقد غالياً، ولا أحد يعرف من يشتم، أو مع من يقف، وتحرقه الأسئلة إن وقف على الحياد. النساء هجمن على بعضهن كل واحدة تتهم زوج الأخرى، وتعتبره المسبب، قل يا رب، الدم واحد، والمصيبة مشتركة، والقاتل واحد، ولا تستطيع أن تقول ما بداخلك " نار تكويني يا أبو خالد نار ". لم يشرب الشاي كعادته عندما يعود من المخيم، ركب السيارة، وانطلق بهدوء كأنه لا يريد أن يتركنا، أو لا يريد أن يصل إلى مركز الإسعاف في بيروت.‏

في الصباح هدأت العاصفة، وتوقف المطر، والشمس أخذت تظهر من خلف الغيوم خجلة بأشعتها الذهبية الدافئة,‏

قال محمد: الوقت ظهراً نريد أن نذهب إلى بيوتنا، همهم أبو خالد معك حق، هيا يا شباب عندما يصل البديل جهزوا أنفسكم، كنا نستعد إلى الذهاب، شاهدنا سيارة أبي الريح قادمة بهدوء، وبلا زمور الخطر، وخلفها سيارة لا ندروفر لونها زيتي، تلفتنا مستغربين، معقول أبو الريح يقود سيارة الشفر على مهل، وينتظر خلفه سيارة جيب ترافقه مستحيل، هذا شيء لا يصدق، أخيراً وصلت الشفرولية إلى الحاجز، ترجل السائق، لم يكن أبا الريح، كان شاباً في مقتبل العمر، شعره طويل وقامته كرمح، يرتدي بدلته الخاكي المموهة.‏

قال أبو خالد: يمكن أبو الريح تعب، لهذا أرسلوا سائقاً غيره، ألقى السائق السلام، وقدم الأوراق إلى أبي خالد، قرأ الأوراق، لا حظنا تغير ملامحه، جلس على الكرسي، ودفع الأوراق إلينا، إلى الإخوة في الحاجز السوري. تكرموا بالسماح لجثمان الشهيد أبي الريح مع سائق الإسعاف جيفارا بالمرور إلى المخيم، كي يدفن في مقبرة الشهداء، بناءً على وصية إخوتكم في المنظمة، شاكرين تعاونكم.‏

قلنا جميعاً: لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون " أبو الريح في الشفر ولا يقودها! وهي تمشي ببطء كأنها لا تريد الوصول إلى تربة الشهداء، كأن الدنيا صمتت ولفتنا أنغام جنائزية، دمعت عيوننا، لم يكن أحد يدري، هل مات أبو الريح قهراً؟ أو مات برصاصة طائشة في المخيم سارت الجنازة عبر الشارع المؤدي إلى مقبرة الشهداء، كانت امرأة حافية القدمين تضم إلى صدرها طفلا رضيعاً، تبكي قهراً، وهي تسير خلف نعش أبي الريح، تغني بحرقة مواويل تخرج من فمها كأنها لهيب نار حارقة، " مع السلامة، يا ولف درب الجابك يوديك " تقف عن الغناء وتشد الرضيع إلى صدرها، وعيناها تراقبان الأكف التي تتناقل النعش الملفوف بعلم " الغالية " ثم تتابع: من حد باب البيت وصيت الله فيك.. وصيت الله فيك ".‏

إنه زمن الدم المستباح يا أبو الريح.‏

دمشق: 1985‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
الهادي الزغيدي
مدير الموقع
الهادي الزغيدي


عدد المساهمات : 4023
نقاط : 23435
تاريخ التسجيل : 08/11/2009
العمر : 49
الموقع : تونس

مدينة بلا سور : قصة Empty
مُساهمةموضوع: رحيل    مدينة بلا سور : قصة I_icon_minitimeالسبت يوليو 31, 2010 2:00 am

رحيل


إلى روح الشهيد: هاشم سلامه‏

شعور بالقلق انتابني، وأنا أتناول طعام العشاء مع زوجتي وابني، غصةٌ جرحت حلقي. صدري بدأ يضيق. زينب تسألني ممَ أعاني؟ شيء في صدري يا زينب يقف كقبضة اليد، وأشرت لها " هنا تحت الضلوع اليسارية، كما أشعر بدوار، ما هي إلا لحظات حتى سمعت طرقات على الباب، كان القادم رجلاً من القرية، قرأت في عينيه خبراً غير سارٍّ، بعد أن قدمت زينب القهوة، أتذكر هاشم، قلت: كيف لا، وقد أمضينا طفولة معاً نركض و نلهو في الشوارع الترابية بأقدام حافية، وسهراتنا الليلية، وحكايات كنا نؤلفها من خيالاتنا، وأحلام طفولتنا الشقية، ومراعي الغنم، وبيادر القمح، ودكان أبي حيدر، وأطباق الحلوى، ومرافقة العاملين في حقول القمح، كي نلملم السنابل، ونحملها إلى البيت، وفي المساء، نجمعها تحت غطاء سميك، وننهال عليها بضربات قوية بقطعة خشبية غليظة، ثم نغربل الحبوب لنخلصها من التبن، ونسرع بها فرحين بما حصلنا عليه على الرغم من أن الشمس كانت تحرق أجسادنا شبه العارية، والأشواك تنغرز بأقدامنا، كنا سعداء بطفولة شقية مليئة بالمرارة، و الفقر، و بزمن لا يرحم، نذهب إلى دكان أبي حيدر، نشتري كل ما نرغب به، يرقص الفرح على وجوهنا، إيه لقد تركنا ملاعبنا هناك، وطفولتنا و ذهب كل واحد منّا باتجاه، كان هاشم يتابع دراسته في مدينة حمص، وسافرت أنا إلى دمشق من أجل الوظيفة، باعدت بيننا المسافات، وظلت لنا الذكرى، ولقاءاتنا في القرية بمناسبات الأعياد، أو مواسم الحصاد، كنا حين نلتقي نعيد تقليب أوراق الطفولة هاشم كان شاباً قوي البنية، أسمر اللون، البسمة لا تفارق شفتيه، يسعى إليك قبل أن تبحث عنه، كل هذا أعادته ذاكرتي، والرجل يخبرني إن هاشم حين التحق بخدمة العلم، ونظراً لقوة جسده اختاروه في قوات الإنزال المظلي، وفي أثناء تأديته مهمة جرح جرحاً بليغاً، وهو الآن في مشفى حمص. كان يوماً بارداً لم أدرِ كيف طلع الفجر حتى تركت العاصمة، وسافرت إلى حمص. سألت عنه في المشفى. فقيل لي: لقد تخرج من المشفى، وسافر إلى القرية مع نقاهة مرضية. سافرت إلى القرية، وحين سألت عنه قالوا لي أن هاشماً لم يستطع الانتظار فالتحق بالخدمة، قائلاً: من غير المعقول أن أبقى هنا، ورفاقي يؤدون مهامهم، الحمد لله كان الجرح خفيفاً، تماثل للشفاء بسرعة " عدت إلى العاصمة، وشوقي يدفعني إلى العودة من جديد إلى القرية بمناسبة ثانية كي أراه. لم تمض ثلاثة أيام حتى جاءني من يخبرني أن هاشم سلامة قد استشهد في مهمته تلك بعد رفضه فترة استراحة مرضية في القرية " كان أميناً في أداء واجبه. كان الدمع يفضح رجولتي، وأنا أعيد ذكريات الطفولة، وملاعب كرة القدم، والبيادر وسهرات الضيعة، تذكرت أنه في أحد أيام الصيف ولم يكن في قريتنا أشجار مثمرة " سهول واسعة من القمح والشعير " كانت قرية " كراح " مليئة بالبساتين من اللوزيات، قررنا أن نذهب إليها بأقدامنا الحافية. نركض على تلك الطرقات الترابية، كان علينا أن نصل ظهراً كي ننتظر الناطور أبا إبراهيم ليذهب إلى طعام الغداء، وقيلولته قبل أن يعود إلى التجول بين البساتين، نتسلق نحن السور الشائك لنأكل اللوز والمشمش، يبدو أن الناطور أبا إبراهيم كان متيقظاً حين رآنا عرفنا " هو من قريتنا ويعمل عند أصحاب البساتين ناطوراً موسمياً، وأهل البساتين يقيمون في المدينة، ولا يزورون البساتين إلا في الربيع، أو في فصل الصيف يتركون المدينة، ويسكنون ذلك البيت الكبير المقام بين البساتين، راح الناطور يطاردنا حتى مشارف القرية لنتفرق باتجاهات مختلفة حتى لا يمسك بنا، بذلك اليوم عدنا خائبين، ولم نأكل المشمش، واللوز وحين وصل إلى القرية شكانا إلى أهلنا وكان من نصيبنا ألا نأكل اللوز بل الضرب، والتأديب من قبل أهلنا " كما أذكر أنه في يوم من أيام الصيف، كنا نجتمع على البيدر ننظف ساحته من الحجارة الصغيرة " لأننا نلعب بأقدامنا الحافية فوق العشب " كان الحذاء الرياضي في تلك الأيام حلماً لأطفال مثلنا، بعد أن قسم هاشم اللاعبين إلى فريقين، تدافع من حولنا مجموعة من الأطفال يريدون أن يلعبوا معنا، كان بينهم شقيق هاشم " لا أدري اليوم ربما يكون ضابطاً كبيراً. قال لي يومذاك وأنا أكبره عمراً، وطولاً: اذهب من أمامي قبل أن أضربك كفاً أجعلك تطير حتى بيتكم. ضحكت من كل قلبي وضحك هاشم وهو يأمر أخاه بالابتعاد عن ساحة الملعب، كنت في الفريق الذي يلعب ضد الفريق الذي يلعب فيه هاشم، تفوقنا عليهم بهدفين، وكان الشرط أن نذهب سيراً إلى أرض أبي عبد الله لنأكل " البطيخ " احتفالاً بالفوز، وكان حقل البطيخ على مشارف القرية، وحتى نصل إليه دون أن يشاهدنا أحد علينا أن نزحف مسافة طويلة، شكلنا مجموعتين واحدة تراقب، والأخرى تزحف، حتى وصلنا بسلام. زمن يرتسم في الذاكرة، كان يمر كشريط سينمائي، وأنا أمشي خلف جنازة صديقي. رحل هاشم، والرحيل موجع مرير، لكن هكذا هي الحياة رحيل، ووجع ومآس وفواجع، كانت الذاكرة تأخذني إلى ملاعب الطفولة الأولى، وأنا ألملم أشيائي القديمة مستعداَ للعودة إلى فضاءات " معان " بعد مشوار طويل من العمر قضيته في ازدحام المدن والغربة. جمالية الحياة أننا نتناسى أوجاعنا كي نستمر... وتستمر الحياة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elkalima-elhorra.ahlamontada.com
 
مدينة بلا سور : قصة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مدينة صفد- فلسطين
» مدينة فاس - المغرب
» مدينة عكا الفلسطينية
» مدينة مُعْدمةٌ
» مدينة الناصرة - فلسطين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الكلمـــــة الحـــــرّة :: منتدى الكتب و المخطوطات-
انتقل الى: