أصحابي...أعطوني مناديلكم...لأمسح ما تبقى من دموع..... فقد تعبت....!
لاشيء، يشرق كما يشرق الحزن ، يشرق على رماد، يشرق على ليل فلا يراه أحد، يشرق في دمعة داخل حدقة العين،، يشرق على ألم، على الوداعات، على تلويحة الأيدي المتعبة.. ليس للحزن صوت كما للفرح، صوته في الداخل، في الأعماق، في الروح، الحزن له وهج مختلف، ضوء خفي، لا يراه إلا العاشق.
هنا تنمو شجرة الحزن، تنمو، ويا للعجب وهي يابسة، وقد هرّت عنها أوراقها الخضراء. هكذا يجد العاشق نفسه على شاطئ ألآمه مستغرقاً في حزنه الشفيف، ففقدْ الحبيب يشبه إلى حدٍ ما فقدان المرء جزءاً من كيانه، والحبيبة تشبه شجرة مخضّرة فإذا بها تلوّح له بأغصانها وتحتجب عنه كما تحتجب الشمس وراء الغيوم السوداء.
هنا يتجسد الحزن حكمة نكتسبها الآن ولكننا لن نتعلمها مدى الدهر. فقد تركتنا نسقط في أعماق الطريق التي نحاول مجدداً الصعود بها إلى الحب الآفل لعله سيعود، هو، الحزن، أبواب مغلقة نملك وحدنا مفاتيحها، هو المنحنى بنا في تأمل لشمس الغروب تعكس ظلالها على قبتين. تفصلهما هضبة وواد... في هذه أللآم يتحرك الحزن عمقاً وراء الدم والأعصاب..
والحزن يشجعنا على التجلي، لحظة نظن أنها تنجينا من هذا البكاء الداخلي الذي دموعه دماء. لحظة ربما تكمن فيها الحقيقة دون مواربة: لأن المال يا صاحبي هو صاحب القرار دائماً... والذي يجبر فتاة جميلة- مهما كانت - أن تستلقي على فرشة فوق الأرض باسم الحب، بينما هناك لها سرير من فضة وذهب وقصر منيف وثلة من الخدم يستقبلونها وهي داخلة بثوب عرسها الذي تجره وراءها فتيات صغيرات بعمر الورد.. لو أنّك تحب هذه الفتاة حتى الطفاف ... وحدك - من أجلها.. تضحي بحبك كي تنعم هذه الفتاة في حياة رغيدة لست قادراً على توفيرها لها. يا حزن... أيها الجوهرة المخبوءة تحت العصب ووراء العين هذه الحياة ليست لك .... ياأصحابي:
الحياة لهؤلاء من البشر الذين يعيشون على الانتصارات عبر التفوق في كل شيء بالمال والسلطة والمجد. أحداهنّ قالت : أمضيت من عمري سنوات طويلة أبحث فيها عن حب غير مرتبط بالمال أو الجاه أو القوة، فشلت باستمرار، و حبيباتي اللاتي يربو عددهن على الخمس عشرة. هجرنني تباعاً، لأن باب بيتنا قصير في حينها، نضطر أن نحني هاماتنا كي ندخل.. ولما سألت أبي عن سبب قصر هذا الباب نحو متر أو أقل، قال لي: نحن الفقراء هذه بيوتنا، وهذه الأبواب تعلمنا منذ الصغر على الانحناء أمام هذا القدر الذي لم نخلق له أو يخلق لنا... فلسفة لم تكن تخطر لي على بال .. وعندما شببت عن الطوق، هدمت هذا الباب الصغير وبنيت عوضاً عنه باباً بطول ثلاثة أمتار.. والعجيب الغريب كلما وضعت المفتاح بالباب لأدخل إلى المنزل أنحني تلقائياً كأنّ هذا الباب ما زال قصيراً كما عرفناه في طفولتنا.
أصحابي : مناخ الحزن إحساسنا بالزمن. وإحساسنا بأيامنا التي تتطاير وتضمحل بسرعة جنونية مع أنّها بحكم الساعة وعقاربها كل يوم أربع وعشرون ساعة، لكن هذه الساعات تسير بسرعة جنونية مع أنّها ليست سوى حالة من الانتظار المتجدد .. الذي ننتظره أن يأتي فلا يأتي أبداً... هكذا العاشق يدرك بهلع أنّ زمانه انتهى وأنّ انتظاره لا طائل تحته وأنّ صفحات الكتاب انتهت فإذا كلها صفحات بلا كلمات أو فواصل أو خطوط. يجب أنْ تدرك . يا أصحابي :
إنّ البشر كائنات فانية، عليهم بالتالي أنْ يعوا معنى الزمن الذي يتآكل باستمرار. وأنّ عليهم أن يحرثوا حقل الحب بأمانةٍ مطلقة، وأنْ يمارسوا بالتالي في مجاله نشاطهم ومجهودهم من أجل تحسين ذواتهم وتقدم نحو إمكانياتهم القصوى، وأنْ يستخرجوا بفضله من حياتهم الفانية عنصراً يبقى، لأنّه بصفته فعّالاً ومنتجاً للتبدل، ويواصل عمله الصامت في داخلهم حتى لو فقدوا كل إحساس شخصي به. حتى ولو كانوا نياماً، إنّهم لا يستطيعون أن يكونوا معلبات محفوظة على الرف خارج دائرته ومفعوله المدمّر، إننا... ياأصحابي- نشيخ دون انقطاع. وهناك - بهذا الخصوص شهادة طبيب لا تُدحض: إنّ صبية في الثانية عشرة من عمرها نامت ثلاثة عشر عاماً متتالية فوجدت عندما استيقظت أنّها لم تعد فتاة صغيرة بل أصبحت امرأة شابة وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد سمعت نكتة أضحكتني كثيراً أنّ طفلاً سأل أمه قائلاً: أمي إذا كبروا رفاقي مع من ـ ألعب ـ
كأنّه بحدسه الطفولي لا يريد أن يغلبه الزمن ويكبر ثم يشيخ ويموت.
ياأصحابي: إننا مهما حاولنا حبس الزمن خارجنا فلن نستطيع ذلك أبداً هذا الوقت، هذه الدقائق التي تتكتك على الدوام لا نملك ذرة منها... إننا عليلون ولا ننفك ننمو ونشيخ.. نبدأ من لحظة الخروج إلى الحياة باكين. تنبت أسناننا بعد سن ويصبح لنا أظافر ثم ننمو ونكبر ونذهب إلى المدرسة ونتعلم القراءة والكتابة نذهب إلى الثانوية ثمّ الجامعة ونصبح أطبّاء ومحامين ومهندسين وصيادلة وتجاراً ورجال أعمال، نتزوج وننجب أولاداً الولد تلو الولد ونتمسك بالحياة حتى بأظافرنا، كلّ ذلك لن يفيدنا شيئاً، إننا نُتلف رويداً رويداً وأحياناً حتى إننا نتمنى الموت. فكلما دامت مواقف وظروف الحياة أكثر بدت لنا الحياة جديرة بالتعلق والاهتمام والجديـّـة لذلك ......!
- ياأصدقائي - يجدر بنا عندما نعيش بضع لحظات حافلة ومثيرة أنْ نقول لقد مَلأنا وقتنا بمادة نادرة وثمينة، لا أنْ نستعمل التعبير الخاطئ الشائع لقد أمضينا ساعات ممتعة للغاية الذي ينطبق بالأحرى على حالات تضييع الوقت لدى الشباب كسعداء لأنّهم أغنياء أي إهدار الزمن بدون طائل. كأننا في مصح ولكن نجد أنفسنا في بيوتنا ذات الأبواب القصيرة، إنّ التراخي والتساهل واستهتارنا بالوقت له علاقة بكسلنا واسترخائنا.. كأننا في حمام السوق والمدلك يسحب من جلدنا وسخه، فحيث يوجد مكان كثير يوجد زمان كثير، ألا يقال عنا نحن الشرقيين إننا قوم نملك متسعاً من الوقت ونستطيع الانتظار ما شاء الله؟ هذا الأمر عجز عنه الأوروبي فأقدم على المعجزات من اختراعات وانجازات.. لنأخذ مثلاً قريباً ها هو العدو الإسرائيلي أنجز في ستين سنة ما عجزنا على انجازه في قرون لتقوية نظامه وردعه وعلومه من أجل ديمومته واستمراره، سبقونا في كل شيء كنا ننام دون توقف بينما كانوا يعملون دون توقف. قولوا لي ياأصحابي: هل نحن، بدولنا الاثنتين والعشرين أقوى من إسرائيل؟؟ إنّكم لا تجدون جواباً.. وأنا مثلكم هكذا يتجذّر حزني من أشياء كثيرة.. وخيبة أمل متواصلة ودون توقف من الحب والصداقة والأهل والوطن.
أعطوني........ مناديلكم أصحابي...... لأمسح ما تبقى من دموع.. فقد تعبت.