d]]شعريّة الوفاء[/b]
حين أعطاني الّناصر الرديسي نسخة من مخطوط ديوانه "قمري" وطلب مني أن أّطلع على نصوصه وأبدي ملاحظاتي حولها توجّست خيفة فأنا أعرف نصوصه الجيّدة بالّلغة الدارجة التونسية والتي استمعت لها في منابر مختلفة من تونس.
أما نصوصه العربية الفصحى فأنا أعرف عنها القليل ولأنّ الشعر التونسي الحديث كثيرا ما صدمني بنصوص هزيلة وصور متهالكة فإنّي شعرت بتلك الخشية التي سبق أن عبّرت عنها ولعلّ السؤال المركزي الذي ألحّ عليّ حينها ׃ ترى ما سأقول للشّاعر لو لم تعجبني مجموعته ؟؟
وحين بدأت القراءة زالت الخشية تدريجيا واستطاعت نصوص وسطور المجموعة أن تحملني إلى عالم الطمأنينة وفيها شبه الحلم أتممت قراءة كل نصوص المجموعة وسرعان ما عدت إليها لأعيد القراءة من جديد...
لقد حملتني نصوص "قمري" للنّاصر الرديسي إلى مدارات مختلفة,لقد وقفت بى في محطّات تاريخية معيّنة فيها الفرح والأمل فيها الحزن واليأس,وفيها صور أصدقاء فقدناهم بيولوجيّا وآخرين فقدناهم إيديولوجيّا...النصوص أعطتني أو بالأحرى أكدت لي معدن مبدعها,إنه رجل يعاني من انتفاخ قيمة الوفاء عنده...لقد بقي وفيّا للأسرة,وفيّا لأصدقاء الدراسة ورفاق السياسة وفيّا لمحطّات نضال وطنية وطلاّبية ونقابية عاشتها البلاد...بل أكاد أجزم أن وفاءه يصل حدّ الوفاء لأخطاء الماضي... لذلك إن كان من تقديم ممكن "لقمري" فلن يحمل إلا عنوانا واحدا هو "شعريّة الوفاء"
وفاء العتبات ׃ يفضح الناصر الرديسي نفسه منذ الصفحة الأولى للكتاب ذلك أنه يحمل جملة "وفاء لروح الشّاعر الوطني بلقاسم اليعقوبي" جملة يفسّرها فى المقطع الثالث من إهداء المجموعة "الذي تعلّمت عنه أبجديّة الشعر,شجّعني بصدق ووجّهني ثم غادر في صمت؟! دون أن أودّعه ويسمعني؟؟!!"
ولقد عرفت بلقاسم اليعقوبي مثلما عرفه جيل الثمانينات والتسعينات من طلبة تونس ومثقّفيها ولعل الكثيرين يذكرون أمسياته الشّعرية الطويلة شمال البلاد وجنوبها.
لقد سبق للنّاصر الرديسي أن كان وفيّا لهذا الشاعر المعلّم بأن أقام له أيّاما شعريّة خاصة تعقد كل سنة عند أواخر الربيع في مدينة قابس يدعّمها حزب الوحدة الشعبية...وها هو يعود من جديد لممارسة لعبة وفاء أهم وهي إهداء مجموعته الشّعرية البكر إلى روح ذلك الشّاعر الملتزم الاستثنائي.
دائما فى مجال الإهداء يكشف النّاصر الرديسي عن وفائه تجاه أمّه وزوجته ( رفيقة دربه كما يقول ) وأصدقائه ورفاقه بل وحتّى بعض أعدائه!!! فقد يعجب البعض من ذلك ولكنّ الشّاعر وفيّ لأعدائه بأن ظلّ وفيّا لمبادئه ولقيمه المثلى التي آمن بها,وفيّا حتى لنزقه وصعلكيّته وأخطائه الصغيرة.
فى العتبات كذلك وفاء لصديقه الرّوائي المبدع هشام عبد الكريم الذي أصدر روايته الأولى "صفد الخلود" فجعلها النّاصر الرديسي محورا رئيسيّا لأحد أهمّ نصوصه الشعرية الحامل لنفس العنوان.
وفاء المضامين׃النّاصر الرديسي شاعر لا يخجل من الإعلان صراحة عن انتمائه الفكري,يصوغ ذلك التعريف في قالب شعري بسيط وعميق بعيدا عن الإدّعاء أو المزايدة ׃ أنا...طائر نكرة مجهول الهوية
عنواني...سجن خلف حلم رفاق
خلف القلم والحرف...خلف الأقداح والأوتار
كتاباتي...بقلم مشدود إلي حلم رفاق رحلوا بصمت
ولم يكتبوا لنا وصية
ومن خلال تقديم نفسه للقراء يحاول أن يقدّم أفكاره التي آمن بها...إنها أفكار مثالية في زمن تعاظم فيه تكالب الناس ومنهم المثقفين على المادة...أفكاره تنشد العدالة والمساواة والاشتراكية والدّيمقراطية,أفكار تؤكد سمة الوفاء عند هذا الشّاعر,وفاء للانتماء لهذه الأرض وحضارتها وفاء لطموحات عاشها شابّا وآمن بها وظلّت راسخة عنده رغم التحوّلات التي شهدها العالم وشهدتها المجتمعات والنّخب ولعلّه أوّل الواعين بانحسار المبادئ... فيقول ׃
هذا زمان يا رفاقي
ليس زماننا
تسجن فيه العصافير
وتحلّق فيه الغربان؟!!
وعلامات الاستفهام والتعجّب هي من عند الشّاعر طبعا...ولا يكاد يخلو نصّ من نصوص المجموعة من إعلان صريح للانتماء ومن رغبة جامحة في تغيير الواقع المأزوم...شكل يصير معه الشّاعر بطلا إشكاليّا يطمح إلى القيم الأصيلة في مجتمع متدهور.
إن مقدّمة بسيطة من بضعة أسطر لا تفي هذه النصوص حقّها من الدّراسة والتأويل ولكن شئت أن أمهّد أمام القارئ السبيل لفهم عوالم النّاصر الرديسي الشعرية.إن "قمري" ديوان مشحون بالألم والأحزان يرشح بمعاناة المثقّف وغربته ولكنّه في نفس الوقت حامل لرؤية تفاؤلية كثيرا ما برزت في عدّة نصوص׃ سأبقى أنتظر في شوق
كل شهر وصول القمر
برغم البعاد وحكم القدر
سنظلّ على عهدنا للسّهر...
كلّ هذه المضامين صاغها الشاعر في لغة بسيطة قادرة على النفاذ إلى القلوب قبل العقول...لغة تأخذ الكثير من اليومي...يومي النّاس البسطاء والمهمّشين والمحرومين...
مجموعة "قمري" دعوة يشرك فيها النّاصر الرديسي القرّاء للحلم للعودة إلى الزّمن الجميل زمن القيم الأصيلة...
الأستاذ : لسعد بن حسين ربيع 2009