المعتز بالله مشرف على المنتدى السياسي
عدد المساهمات : 178 نقاط : 16431 تاريخ التسجيل : 14/03/2010
| موضوع: المؤلف والنص بين النقد والعودة ..!!! الخميس مارس 18, 2010 12:59 am | |
| المؤلف والنص !!!! بين النقد والعودة
الكتابة : عملية تكاثر مستمرة لنصوص يشرح بعضها بعضاً ، وينبني بعضها فوق بعض ، إلى أن قيل : ( كل نصٍّ مبيضّة للنصوص السابقة ومسودّة للنصوص اللاحقة ) ؛ فالكاتب صانع بارع ينتج نصه بالاستناد إلى مخزون هائل من النصوص السابقة التي كان قد اطلع عليها مباشرة ، أو من خلال سؤرها الموجود في النصوص التي أتيح له الاطلاع عليها .
وقد شغل هذا الأمر النقادَ العربَ القدماءِ ، الذين حاولوا تتبع بعض الصور والمعاني لمعرفة جذورها وأصولها الأولى ، وفتحوا باباً في النقد أطلقوا عليه اسم السرقات ، وهو ما يطلق النقد الحديث عليه مصطلحَ التناص . ومصطلح السرقة مصطلح فني محض لا علاقة له بالأخلاق ، وفي كثيرٍ من الحالات ، تم تفضيل المعنى اللاحق والصورة التالية على ما يُزْعَم أنه أصلها ومصدرها .وحين نظن بأن الكاتب قد أبدع نصوصه وصنعها على غير مثال سابق ، أو كأنه قد أتى بما لم يستطعه الأوائل ، فذلك يعود إلى قلّة خبرتنا وضآلة اطلاعنا ؛ وإلى مهارة الكاتب ، وحسن تأليفه لنصّه حسب رؤية واضحة وأهداف محددة ، وإلى إتقانه للعملية المعقّدة والمركبة التي يقتضيها التأليف ، ولاسيما ما يتعلق بالاصطفاء والعزل والتّبنّي ، وفق موقف محدّد من الوجود والأفكار فالنص ، أي نص ، سلسلة موجهة من الاختيارات ، دون أن ننكر وجود إضافات أصيلة في النصوص التي ينتجها كتابٌ مبدعون ، وإن كانت هذه الإضافات ضئيلة عادة .
فالإبداع عملية تراكمية يستفيد اللاحق فيها من السابق ( نحن نرى لمسافات أبعد لأننا نقف على أكتاف من سبقنا ) . والكاتب المبدع الذي أقصده هو الذي يستطيع أن يخفي مصادره العميقة ، ويفرض رؤيته وإرادته على عملية الاصطفاء والعزل والتبني التي سبقت الإشارة إليها ، ويمنح ما اختاره واصطفاه هوية موحدة ومتماسكة تنسب إليه شخصيّاً ، ويمارس وجوده الخاص ، وفهمه الخاص للوجود وللأشياء ، من خلال نصه ، الذي يمكن أن نعده الحضور الأقصى للذات في داخل اللغة ، حين يزيح عن النصوص السابقة غشاوة الاعتياد ، ويراها من وجهة نظره الخاصة ، ويبعث المكبوت واللامكتوب فيها . وسلسلة الاختيارات الموجّهة التي يقوم بها الكاتب ليست عملية تلفيق خبيثة ، ولا عملية تجميع عشوائية ، وإنما هي عملية إعادة إنتاج يقوم بها شخص مبدع ، ولا يستطيع ذلك إلا فرد يشعر بالحضور القوي لذاته المتفرّدة ، ويتمكن من الحدّ من تبعثر مصادره ومن عشوائيتها وتناقضها ... مما يعطيه حق نسبة النص الأخير إلى نفسه ، رغم أن بعض المدارس النقدية الغربية ، ولاسيما البنيوية وسلالاتها ، قد سلبته هذا الحق ، ورفعت شعار ( موت المؤلف ) ، على أساس أن النص الذي يكتبه الشاعر ( مثلاً ) يغدو ملكاً للقارئ ، يقرؤه كيف شاء ، ووفق المعطيات المتوفرة له لحظة القراءة ، ليحصّلَ المعنى الخاص به ، أو المغزى الشخصي ، وليس لمنتج النص ، بزعمهم ، أية سلطة على المتلقي منذ أن وقّع على نصّه ودفع به إلى النشر ، وفي أحسن الحالات تم إعطاء منتج النص الحقوقَ ذاتها التي يتمتع بها أي قارئ آخر ( لا أكثر ولا أقل ) .
ويذهب الظن إلى أن حداثة مفهوم المؤلّف في الثقافة الغربية ( حسب فوكو ورولان بارت ) قد جعلت من الممكن ظهور صرعة موت المؤلف ، فالمؤلف في الثقافة الغربية صنيع اللغة ونتاج ألاعيبها ، واللغة ، بطبيعتها ، تميل إلى القضاء على كل صوت وكل أصل ؛ والكتابة حسب (موريس بلانشو ) تأليف وزوغان تضيع فيه الذاتية وتذوب الهويّات المحددة . في حين تختلف الثقافات الأخرى ، ومنها الثقافة العربية ، في الموقف من المؤلف ووجوده وأهميته ، فالسند لا يقل أهمية عن المتن في كثير من الحالات . وعندما نعرف المؤلف فإننا نفهم نصه بطريقة مختلفة وبصورة أعمق ، ونستطيع أن نضع اليد على كثير من المعاني المخبوءة بين الأسطر ، والتي لايمكن أن نعرفها لولا معرفتنا بالمؤلف وعصره وما مرّ به من أحداث . ولا عبرة لبعض الشذرات المنقولة عن الكتاب والشعراء التي أطلقوها كنوع من آليات الدفاع عن النفس ، ومن ذلك ما قاله ( آرنست همنغواي ) مرة : “ في أي شيء تهم العقد النفسية الموجودة لديّ ؟ إن عملي فقط هو الذي ينبغي أن يوضع في الاعتبار ، إنني كشخص غير هام “ . وما قاله من قبله ( جوته ) : “ إن قصائدي هي التي أنشأتني ولست أنا الذي أنشأتها “ . لأن الحقيقة غير ذلك ، وإنتاج المعنى يفترض وجود مؤلف ، لإلقاء مزيد من الضوء على النص ، حتى لا نحمّله فوق ما يحتمل . فمعرفة حياة أبي نواس تمنعنا من قراءة خمريّاته قراءة صوفية . ومعرفة حياة ( همنغواي ) وما كان يعانيه من مشكلات تلقي مزيداً من الضوء على نصوصه . ( وجوته ) هو الذي أنشأ قصائده وليست هي التي أنشأته كما زعم . وأعمال ( بودلير ) الشاعر من نتائج إخفاق ( بودلير ) الإنسان . وأعمال ( فان كوخ ) نتيجة من نتائج جنونه . وأعمال ( تشايكوفسكي ) من نتائج نقائصه الأخلاقية . صحيح أن المؤلف ليس إنساناً مريضاً يبوح في نصه بدل البوح على أريكة المعالج النفسي ، وأن عيادات التحليل النفسي ليست المكان المناسب لنقد النصوص وفهمها ، ولكن الصحيح أيضاً أن معطيات علم النفس التحليلي أحد الروافد المهمة لفهم النصوص ونقدها ؛ أقول ذلك وفي ذهني رأي من تطرّف فجعل المؤلف المرجع الأول والنهائي لنصه ، ومن تطرّف فأعلن موت المؤلف ، ومن تطرّف فسلب المؤلف ، والفنان عموماً ، أية إرادة حرة ، وحوّله إلى شخص يتيح للفن أن يحقق أغراضه من خلاله . بناءً على ما سبق ، وبعيداً عن تطرُّف من تطرَّف ، يمكن الحديث عن رجعة المؤلف بقوة ، لتهافت صرعة موت المؤلف ولا معقوليتها ورجعة المؤلف تستند إلى الحقيقة التي لابد منها التي تقول :
إن إنتاج النص يحتاج إلى كثير من الدهاء والذكاء والاطلاع والتخطيط وامتلاك الأدوات قد يفوق ما يحتاجه تدبير جريمة ( كما قال أحدهم ) . فلابد من وجود المؤلف ، إذن ، ليخرج النص من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ، ولابد من وجوده للحصول على بعض النقاط الهادية والمرشدة أثناء التعامل مع النص بعد ذلك .
| |
|