| خَدَرُ الرُوْح : قصص | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: خَدَرُ الرُوْح : قصص السبت يوليو 31, 2010 3:10 pm | |
| خَدَرُ الرُوْح ـــ عدنان كنفاني - قصص ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ـ 2006 تداعِياتُ روحٍ مُخدّرَة..!
انكسار حلم..!
امرأة الوقت الحزين.!
الملفّ "س ر ي"..!
قطط..
الفصول الخمسة
البحث عن..
اغتصاب
لؤلؤةٌ تُغادرُ محارتَها
نخيلة
نرجس
نَهارٌ هارِب
هلوســة ذات ليلة
عدل سابقا من قبل الهادي الزغيدي في السبت يوليو 31, 2010 8:30 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: تداعِياتُ روحٍ مُخدّرَة..! السبت يوليو 31, 2010 3:17 pm | |
| تداعِياتُ روحٍ مُخدّرَة..! قليل من الألم يجعلني أتماهى مع تلك الوجوه المعفّرة بخضابات كثيرة وألوان تبدأ مثل لون التراب، وتصل متدرّجة تارة، ومفارقة تارة أخرى إلى لونٍ يقارب إطلالة شمس في صباح صيف.
ـ إنه الألم.. ألا تدركين كم هو لذيذ عندما نحس به يأتينا عبر شيء نسعى إليه..!
تتبرم..
ـ مجنون..
أحبكِ.. لم أجرؤ على النطق بها لكن كل نبضة كانت تقولها في اللحظة ألف مرّة.
* * *
جذرٌ يحمل ألوان حصيّات عَبَرت الزمن، واقتحمتني ذات فجأة ولذَ لها المقام، وطاب لي مقامها.. صَمَدت أمام غزوات الطبيعة وجنونها، عبر تاريخ ما عاد أحد يذكر عمقه، وَحَمَلت من كل ريح أثرا، ومن كل قوم أثرا، ولحظة أوشكت تفقد بريقها في مقامها بين أحشائي، زرعت في لحم بلاط الغرفة النظيف جذراً صغيراً جداً أطلق من قمّة هرمه اليابس ثريا.. وراحت تنبت سخيّة.!!!
كانت أمي تقول:
ـ الثريات الحقيقية الأصيلة تنبت من الأرض..!
كلما قَطَفت ورقة ملوخية، تنتزعها برقّة من الساق الطويلة الذي نمت عليه، تكتسحها حرقة مؤلمة، تمسك ثديها بتوجع وتبكي.
ـ ليمونة يمّا.. تبكين على ليمونة يمّا..!
تنظر إليّ بكبرياء، فأشاهد بين عينيها شجرة الليمون الباسقة الآتية إلى ساحة مشاهدتي من ذاكرتها التي ما بهت توهّجها. شجرة ليمون وارفة تظلّل فناء دارنا القريبة من الشاطئ.
* * *
تنتصب ثريا بمصابيحها الصغيرة، وبريقها، تمتشق قامتها من جرابٍ خفيّ ينام تحت بياض سريري، لا.. ليس سريراً بل طاولة خشبية عليها بعض ملاءات كلّها خضراء، وتصعد.. تصعد.. تصعد.. وكلما ارتقت صعوداً تعلّقت على جنباتها مصابيح أكثر، وألف قطعة من الكريستال. ينكشف السقف فتشق لها طريقاً إلى أعمق الفضاء، بيضاء هي الأخرى، أنوارها خافتة لكنها تتسلل نزولاً بطيئاً يغافلني ويدسّ رائق زيته في ارتجاج سائل صافٍ لا لون لـه في كيس يتعلّق مهزوماً مستسلماً هو الآخر طرفها.
انشقّ الجدار وخرجت منه، سمراء ممشوقة القد، تسبقها رائحة عطرٍ يتحلل ثقيلاً تحت رائحة مخدّر قوي يتنفس من بين شفتيها المكتنزتين، وعينيها المشبعتين بألوان صارخة، ومن ثوبها الأخضر القصير يكشف عن ركبتين كأنهما فلقتا صابونة غار. شعرها الأسود الفاحم الهارب متوحّشاً من رقعة قناع ملقى بإهمال تحت ذقنها.
كانت فتحة قميصها الأخضر تكشف عن نهدين سمراوين معصورين حطّا فوق وجهي.. ربما ضيق المكان جاء بها سابحةً من فوق رأسي، تمدّ جسدها إلى انتصاب الثريا، وليس من فسحة غير رأسي يحمل ما تدلى منهما، أخذت نفساً عميقاً بينهما، فأحسست بالخدر قبل أن تغرز نصلاً حاداً خرج من بين أصابعها واستقر في الكيس الأبيض.
تتراجع ببطء شديد، فتسحب أنفاسي مع مغادرة جنّة نهديها وجهي، آخذ نفساً آخر عميقاً أحسبه الأخير، وأراقب باستسلام سائلاً زيتياً بنيّ اللون يقتحم صفاء الماء الرائق، ولا يتحلل بل يغرق للقاع، تنساب منه قطرة تواصل ببطء شديد عبور الأنبوب الواصل إلى ساعدي..
ـ واحد.. اثنان..
تكوّم علكة بين شفتيها وتنفخها ثم تمتصّها..
ـ ثلاثة.. أربعة....... ما اسمك...!؟
ـ نور.. س... س.......
* * *
الحافلة تغّص بالناس.. هذا رجل وقور أصلع يداري بعينيه قطيع أسرته، أولاده الكثر، وزوجته البدينة تقضم شيئاً مخفياً في ورقة ملفوفة بعناية وحرص.. صبيّة وحيدة على طرف المقعد ترشق نظراتها بين زحمة الوجوه، وتسابق نظراتي، تلتقي نظراتنا، تتسلل من بين شفتي ابتسامة، تغضّ طرفها.
في أول استراحة، أدعوها إلى فنجان قهوة، فتقاسمني قبل أن تواصل الحافلة رحلتها شطيرة جبنة، وأزيدها كأس كوكتيل فواكه.
الستائر البرتقالية تعطي المكان رغبة في إطباق الجفون بينما الشاشة المحشورة في الركن تومض بارتعاش صوراً باهتة تافهة كما اهتزازات الحافلة وهدير إطاراتها على إسفلت الطريق.
ينظر إلي بدهشة.. ما الذي شد انتباهه إليّ.؟ هل أحسَّ هو الآخر بتلك المخارز التي تطعنني..؟ كم هي مؤلمة، لكنها باتت مع طول العشرة أليفة، حتى عندما تسكن أفتقدها، كما الفرح يصبح الألم شيئاً من الحركة اليومية، عندما يبدأ الألم أشعر بأنني موجود.. من يصدق إحساسي الغريب هذا.!!
ـ جنون أن تفسر الألم بهذه الطريقة .!
تتبرم كلما قلت لها الألم رفيقي.
أعرف أنها تحبني، لكنها لم تنطق بها أبداً.
ـ سآتيكِ يا عمري.!
ـ رحلة طويلة أخاف عليكَ من تعب الألم، ونزق الحصيّات.!
ثم ساد صمت طويل، بعدها جاءتني أربع كلمات:
ـ نعم.. رتّب أمورك.. وتعالَ..!
* * *
ـ ماء يا أستاذ
انتبهت متأخراً فتناولت من يده الكأس. يستطيع أن يتوازن وتتقاطع حركته، يصب من الصفيحة البلاستيكية في الكؤوس الورقية دون أن يفقد قطرة واحدة.
تناولت الكأس من يده القصيرة كان عليّ أن أمد جذعي إلى أقصى مدى، فأفلتت الحصيات من سيطرة ضغط أحشائي وبدأت تخرشني. ربما تعاقبني وكنت أسكنتها هدوءاً، سجنتها بين طيات أحشائي وحين شعرتُ أنها استسلمت لحصاري ضغطت عليها.
هذا الكأس أفلتها. من قال لـه إنني عطشان.؟
ـ ماذا بكَ.؟
ـ لا شيء.. لا شيء البتة أنا أستمع، أستمع فقط.
لم تتوقف عن الحديث حتى لحظة فارقت قدمها آخر درجة من الحافلة، قفزت إلى سيارة صغيرة يقودها رجل أشيب ينتظرها، لوّحت بيدها خفية عنه ومضت، فتنفستُ الصعداء.
منذ أبكر الصبح شربت كأس ماء كبيرة جرفت إلى جوفي كبسولات كثيرة وأتبعتها بكأس حليب.
ـ لن تحتاج إلى عمل جراحي، هو أنبوب رفيع يدخل إلى الحصيات يفتتها.
لماذا إذن يحمل كل هذه النصول..؟ سكاكين ومباضع أعرفها.
كان يتحدث إلي وأمي تعصر ألمها ويعتصرها، أحسّه يمزّق صمت ثديها الموشك على البتر.
قطعة فولاذية تلمع في يده ينقلها بخفّة بين أصابعه.
مدّها وأردف بخيلاء
ـ ضربة مشرط هكذا -وحز بالقطعة الفولاذية هواء الفضاء- وينتهي كل شيء.!
استغرقني التفكير طويلاً. كيف يمكن أن تصل أدوات تنظيرية إلى أحشائي.؟ إلى تلك الحصيات ثم تصعقها ولا تصعقني، بل تنجيني من آلامي المبرحة..؟
أمي لم تنجُ.؟ ماتت على مثل هذا اللوح الذي أستلقي عارياً عليه وثديها بقي ينبض ساعات قبل أن يلفظ أنفاسه.
النهر الذي يخترق مجراه المدينة عادت إليه الروح بعد يباس سنوات.. كنت أتحاشى المرور قربه، وأبتعد قدر ما تسمح لي الشوارع الالتفافية.
ليس مهماً كثيراً لو طالت المسافة ما دمت سأنجو من رائحة العفن والموت.
تجرّ طفلين، وتعلق ثالثاً على كتفها.
تبحث شفتاه المتشققتان عن قطرة ماء يجدها تنبع من جبهتها فيلعقها.
لو سمحوا لها عبور مسافة المتر فقط لما اضطرت أن تدور دورة واسعة لتصل إلى نقطة لا تبعد كثيراً عن نهاية ذلك المتر.!
كانت تتعثر بالحجارة، يفلت أحد الصغيرين من يدها فيتسمّر ينتظر اليد الدافئة تقوده إلى أمان لا يدركه بل يستسلم لـه. منديلها الأبيض ينحسر عن رأسها فتبدو ضفيرتان وحاجبان يعتصران ألماً أيضاً، لكنه بنكهة أخرى.
كنت أستطيع أن أتباهي بقدرتي على احتمال الألم وهي تكاد تبكي.
ـ لماذا يا نورس.؟
وأعاقب نفسي أكثر
وتسألينني لماذا.؟ وها أنا ذا أخوض المسافات إليكِ.. تقول لك عيناي.. أحبكِ.
فاض النهر.
كانت المياه الآسنة تطفو فائرة ثقيلة سوداء وتطفح من ضفتي مجراه، تكتسح الشوارع العريضة، ثم تمرّ عبر الحارات فلا يُسقِطُ هدير اندفاعها غير بيوت الطين، وترسو طبقات العفن بين طيات الجدران المتهالكة
أصنام تنزل عن أبراجها.
لماذا تتوالد الأصنام كما يتوالد الجراد.؟
منذ هبل ويغوث وسواع ونحن نحطم الأصنام، لم تنقص بل تكاثرت، وألف امرأة ينثرن ضفائرهن السوداء فوق نعوش ليست كالنعوش، بل هي رقائق من صفيح منتزعة من بقايا أشياء تحمل الأجساد المتفحّمة.
الشاشة تصفعني كلما حاولت أن أتوارى خلف هشاشة حصيّاتي الملساء. شيء حاد أحس به يلج لحمي ولا أشعر بألم.!
كيف تستطيع حصيّات ملساء ليس لها نصال ولا زوايا.. طعني.؟
ها هي أحسّها تتزاحم كتوأمين يتسابقان خروجاً من رحم متعبة.
ـ لم يكتمل نمّوه.!
يقذف به إلى الحضّانة، وقبل أن يغلق عليه الباب الزجاجي يكتشف أن لا وقود يشغّل مضخات دفع الأوكسجين.
حتى أجهزة التدفئة لم تجد لها سبيلاً لولوج صرخة حياة توأم صارع طويلاً قبل أن يتفقا أيهما يسبق الآخر. بعد لحظات يُحمل من ذيله كفأر اختبار، ويلقى به في علبة قذرة.
سائل أسود ثخين يزحف فوق رمال صحراء ساخنة.
لماذا لا تبتلّ الرمال.؟ ولا السائل يصير سائلاً.؟
مددت يدي أزحت شيئاً من ذلك الأسود فأذهلني بياض الرمل.
يطوف النهر.
والثريا تصعد.. وتصعد.!
لم أعد أذكر غير كلمة واحدة تتردد عشر مرات في اللحظة.
ـ ما اسمك
جاهدت كي أتذكّر.
كانت الثريا ترتفع والسقف يغادر صحوتي، والقطعة الفولاذية تسكن في أحشائي، ورائحة عطر مقبور تحت رائحة مخدّر نفّاذ ينثر بين عينيّ من بين نهديها ما أنساني حتى اسمي.
الحافلة تتوقف.. صمت متحفّز ينتظر المترقبين، كلّ يلاقي أحداً يستقبله.. إلا أنا..؟
ـ ما اسمك.؟ ـ اسمي .. اسمي.!!
كل ما أذكره حافلة ونهر يفيض وامرأة تتنكب طفلاً، وتبدأ في اعتصار زغرودة، ورحلة متعبة ليس لها آفاق إلى حبيبة لم تقل يوماً أحبكَ..!
ـ قولي أحبك.
يسبح فيروز عينيها على متاهات روحي فتمسكني رعشة خيبة.
ـ ثم ماذا..؟
ـ ماذا تعنين بـ ثم ماذا.؟
المساء يأتيني بها.
ـ هل نحفر عذاباتنا بأيدينا..؟
ـ أحبكِ
ينكسر بريق الفيروز فأدرك أنها الحقيقة.
كنت أتلوى، هذه الحصيّات المفزعات صديقاتي، ألوانها ليست كأي ألوان أعرف، جميلة ملساء، مركّبة بيد صانع ماهر سكن هو الآخر بين تلافيف أحشائي، صار بعضي ولم يخرج يوماً مني
وساعة تلقفتنا المباضع والسكاكين وطاولة التشريح.. افترقنا.!
في مكان آخر أكثر ظلمة، كانت الشاشة تمسك بتلابيبي.
نهر آخر يعاني ذبحة الطوفان..
امرأة أخرى تتشبث بجذع زيتونة تنتشل أعضاءها من تربة حمراء
فأنتشل عودتي إلى الحياة من تحت مبضع شق أحشائي.
ـ تبكين من أجل ليمونة يمّا.؟
تفاجؤني ألوان مجموعة من الحصيّات تعلن حزنها وهي ترفرف سجينة في علبة زجاجية، وتذرف دمعات حسرة تعاتب وفائي.
هل افترقنا.؟
كم أفتقد ذلك الألم.
ـ ثم ماذا.؟
* * *
ـ ما اسمك..!
اسمي.. اسمي.!!
أمي تحتل قبراً وثديها ينازع قبراً آخر.. النهر يواصل طوفانه ويكتسح رقاب الفقراء.. الأصنام تتكاثر، الأطفال يكبرون على أكتاف أمهاتهم.
ـ أحبكِ..
تنقطع المسافات وأعود كسيراً إلى كأس ماء في حافلة لم يفقد قطرة واحدة.
هذه المرّة لا أمدّ جذعي بل تركته هو ونصف كأس الماء يقتربان مني أكثر. أحاول أن أرسم ابتسامة انتصار شامتة. فيصعقني ألم يقول لي:
ـ لا تفعل.!
الصوت يأتيني هذه المرة من أعلى نقطة في الثريا، وينزل بطيئاً عبر المصابيح الصغيرة، وقطع الكريستال البرّاقة، وينزرع هو الآخر إلى جانب الجذر الحزين.
ـ ما اسمك.. ما اسمك..؟
نهدان مخموران ينثران فوقي خدرهما.
شيئاً ثقيلاً يحتل مساحة من جسدي، أرفع رأسي قليلاً، لم أشاهد عريي، ولا أنابيب التفتيت، بل شاهدت بوضوح لفافات بيضاء كثيرة تعلن فراق حصيّاتي.
أين كنتُ.؟ ومتى ذهبت.؟ ومتى جئت..؟
ـ ما اسمك.؟
ـ اسمي....اسمي .....!
لم أعدْ أذكر شيئاً..! | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: انكسار حلم..! السبت يوليو 31, 2010 3:19 pm | |
| انكسار حلم..! لا أرى غير صورة وجهي مطبوعةً على زجاج نافذة الحافلة، لامرأة أخرى.!! كأنني ألمح على طرفيّ شفتيها طيف ابتسامة خائبة تسخر مني.
أيّ غبيّة أنا.!!
يعيدني الجسر إلى أوّله، وكنت أحسب طوق نجاتي في خطوتي الأخيرة خارجة منه إلى الضفة الأخرى، تاركة بؤسي ورائي، وماضية إلى ملمس حلم رسمته بريشتي.
وها أنا ذي أعود، أعبرُ منه كأنني ما خرجت.!
يعيدني على متن حافلة بين قافلة من سبع حافلات إلى وطني الأسير، لأعاود ممارسة طقوس موتي بين أسلاكه.
ألم أقل لك يا حبيبي ذات رسالة إننا رهائن أقدارنا.؟
يومها كأنني سمعت صدى ضحكتك الساخرة، الواثقة.
تقول:
ـ نحن من نصنع أقدارنا.!
وصدّقتك.
نزفتُ بين يديك ماضيّ كلّه، جراحات عمري، ودقائق أحداث لم أجرؤ أن أبوح بها إلى نفسي.
سألتني كثيراً، وأجبتك أكثر..!
قلتَ لي:
ـ من أنتِ.؟
تراكَ تجرؤ وتسألني الآن من أنا.؟
هل تذكر.؟
كم سخرتَ من اعترافاتي، لم تصدّقني، عجبتَ كيف يتّهمون شاعرةً بالجنون.؟
من كان يتصوّر وهو يقرأ قصائدي أنني أكتبها إلى صورة حبيب يسكن ذاكرتي فقط وليس لـه من وجود، أو أنني لم ألتقِ به بعد.؟
سألتك أليس هناك حدود للخيال أو للاحتمال..؟
أليس هناك حدود للعذاب والألم؟
قلت:
ـ بلى..!
ولم تعرف أنني تجاوزت تلك الحدود فراسخَ وأميالا.
كيف تنجين من ظلم يحيط بك من كل جانب..؟
تهربين من زوج ظالم معتوه سادي. إلى أسرةٍ كلمة الطلاق بذاتها تقودهم إلى الجنون.!!
يا للسخرية.
أسرة مثل أسرتي ويخافون من كلمة طلاق حدّ الرعب.... ههه
ماذا أفعل وأنا أراه وحشاً يمتصّ دمائي، يستنزفني، يقتل طموحي، لا يرى فيّ غير طاقة عمل تصبّ محاصيلها بين يديه وهو خامل لا يعمل..؟
لا يرى فيّ غير جسد.
حتى هذا الجسد عندما يغتصبه، أكاد أتقيأ.
عرفتكَ.. كتبتَ لي كثيراً، وكتبتُ لك أكثر..!
شاشة الجهاز المسمّر أمامي لم تكن تشرق إلا عندما تزينها رسالة منك. خلقتَ في شراييني آلةً تضخّ فيها كل لحظة بوح دماء دفّاقةً جديدةً ..
أعدتني إلى أمل فقدته منذ زمن لم أعد أذكر مداه..
كثيراً ما كتبت لي عن القيم، الأخلاق، الصدق، فأغرقتني بالصدق.!
سألتني أأرضاك زوجاً.؟ سألتك أن نلتقي لنتعارف أكثر..! هكذا تستقيم الأمور.
أتدري.؟
وأنا أعود إلى موتي أعبر الجسر الذي أتى بي إليك أشعر كم كنت حريصة، وأبتسم.
صورتي في زجاج النافذة حجبت رؤيتي لحدود وطني الذي قبلتُ في لحظة جنون أن أستبدله بك.!!
لا أريد أن أذكر متى بدأتُ أرسم خطواتي عليه إليك. قلتَ:
ـ كنتُ آتيك على جناح نورس لو..؟
وكانت في هذه الـ لو.. أكثر الحكايات صدقاً في كل ما بيننا.
وقد عرفتني.
رقيقة أذوب أمام دمعة طفل، فكيف بدموع رجل رأيت فيه حلمي، يرجوني أن أكفّ عن السؤال.!
هل تذكر.؟
كنت تبكي بحرقة، أسمعك، وتكاد دموعك تبلل الخط الواصل بيننا من شرقك البعيد المغرق في جدب الصحراء، إلى غربي البهّي المسوّر بأسلاك واحتلال، وأنا أذوب وأتابع غسل دموعك بدموعي.
يا من حسبتك تصير حبيبي.!
كيف لا أذوي وأتجاوز حرصي وأنا أسمع وألمس تشظّي ألمك.. طليقتك تستنزف راتبك الشهيّ. ابنتك الصبية تعاني من قصور كلوي، تحتاج إلى كلية والثمن باهظ، لا تملك ثمن تذكرة الطائرة.!!
وألف قيد يكبّل حتى أقل رغباتك، فكيف لا أدفع عمري أمام سؤالك وأنت تحمل لي، لأحلامي كل هذا النقاء..؟
قلت لك تعال أريد أن ألقاك.
تعال يا سالم، أنا أدعوك، وسأدفع كل ما يترتّب على مجيئك، وأساهم ما أستطيع في علاج ابنتك، وقد أهبها مصاغي، فأنا لا أحتمل رؤية من يتعذّب وبيدي بعض وسيلة خلاص.
قلت: وكأنني سمعت فحيح فرحكَ ستأتي في أواخر موسم الربيع، عندما تنضج ثمار الدرّاق نرسم تراتيل ارتباطنا الأبدي.
وهبتني انتظار تفتق البراعم.
فلتَ ستأتي إلى أقرب مكان نلتقي فيه.
ثم تركت لي بعدها كل شيء.!!
كيف سألقاك وأنا هنا في أسري.؟
أسلاك تحيط بي، بعضها شائك من يقربه يموت، وبعضها أقسى مغروزة أسنانها في هوية لا تخصني لكنها تحمل وجودي، وأنا في أسرة.
زوج أقاتل كي أنجو من رباطه، أولاد، بيت، جسور.
كيف سألاقيك يا حبيبي وبيننا ألف مستحيل..؟
كنتُ أدرك ذلك منذ بدأنا.
هل تذكر.!
كم مرّة قلت لك إنني أعشق المستحيل.؟
قرأتك صدفة وكنت وقتها أجترّ روحي في ركن مظلم، لاجئة في بيت أهلي مع حاسوب بالٍ، يحاول أن يأخذ بيدي إلى العالم مطرودة من بيتي، من المكان الذي حسبت وأنا أخطو إليه مع من اخترته طواعية أنه سيكون عشّ سعادتي، لأجد فيه أكثر السياط قسوة.
قرأتك فأعجبتني الكلمات. عشت في نبض حروفك، وصرت كأنثى نسر أفتش عليك سيداً لسمائي في كل ركن. أعرفك قبل أن أقرأ اسمك على ذيل ما تكتبه، أعرفك وأنت تكتب مختفياً وراء أسماء مستعارة، ثم لست أدري كيف ومتى تدفّق الطوفان..!
من أين تعرّفتَ على بريدي.؟
جاءتني منك أول رسالة، أجبتك بحرص، وأنت أجبت. تكتب وأجيب، وأبحرَ بنا مركب سرعان ما فرد شراعه ليرسو على أيّ شاطئ نلتقي حقيقة على ملمس رماله.
قلت لك: نعم نلتقي، ولم تكن تدرك إلى أي مدى كنت أحتاج وقتها إلى صدر أريح عليه تعبي.
حسبتُ كلماتك هي ذلك الأمان.
ألم أقل لك أنا أعشق الحلم..؟
كيف تريدني أن أحسن الاختيار وحولي الرجال جماجم.
أب يعود مخموراً آخر الليل، أنا مع أخويّ الصغيرين نتكوّم على فراش واحد في الردهة، يدخل مترنّحاً الغرفة الوحيدة التي تحمل وجع أمي، تسبقه رائحة عفنة تعلن عنه فأصيخ السمع.
تبدأ أسطوانة كل ليلة ترسل فحيحها.
ـ ساقطة.. أنت ساقطة، أيّ امرأة أخرى أفضل منك.
تراها كانت ساقطة حقاً..؟
أسمعها تبكي، فتنهال على وجهي صفعات حزنها وخوفها ودموعها. أحسّها تقتلع جذوري وقدرتي على الاستمرار، أدفن رأسي في الوسادة وأنشج.
كبرتُ قليلاً.
وجدت في مدرستي ثغرة باهتة الضوء تسلقت إليها، علّني أرى من خلالها الحياة، أنسى وجع البيت وأتطّلع إلى سمير.
فتى رائع هادئ، يسبق الجميع ويحصد أفضل النتائج، ويحظى بأقصى اهتمامات المدرّسين والمدرّسات. أنظر إليه عن بعد، أتمنى لو يحضنني للحظة ويقرأ لي بعض ما يكتب، وأعرف أن ما يكتبه لغيري، وعندما عرفتُ لمن.. ذهلت.؟
تراه مثلي يبحث عن مستحيل يعلّق عليه وجعه.؟
لم أصدّق أنه يحبّ معلّمة صفنا الجميلة، وتكبره بسنوات كثيرة.
عندما تزوّجتْ، أهدته موتاً مغلّفاً بقشور حسرة وخيبة..!
أه يا سمير..
ليتك تأتيني لأعترف بين يديك، إنني اليوم فقط أدركت كيف تميت الخيبة.
ألم أقل لك يا حبيبي ذلك وأكثر.؟
كبرتُ أكثر، اكتملت أنوثتي، صرت أبحث عن حب ليس لـه مثيل، قلمي يتدفق كلمات لا أعرف كيف تنساب مني، وعندما أعيد قراءتها أسأل نفسي تراني أنا التي كتبت.؟
يومها قرأ (فتحي) بعضها.
شاب وسيم تعرّفت عليه في الجامعة، كنت أعرف أنه ليس على ديني، ولم أكن أكترث، أعجبتني أفكاره، وأعجبته قصائدي. مثّل لي رمزاًً في مرحلة كانت صعبة في درب صمودنا، أتاني يسألني الحب والزواج فرفضته.
ألم أقل لك إنني أعشق المستحيل.!!
تراك تحاسبني لِمَ لَمْ أحسن الاختيار.؟
أبي تركنا وارتمى في حضن عاهرة أسكنته بيتها، فأصبح بين ليلة وضحاها قواداً.
أمي غارقة في أمر نفسها، لم تعد تعبأ بنا، أنا الصبيّة الوحيدة عرضة لكل الذئاب. لا بد أنك تعرف كيف ينظر الناس إلى فتاة سليلة أسرة كهذه..؟
وماذا أفعل وقد جاؤوني برجل لم أره في حياتي. قدمه لي أبي ورائحة الخمرة تفوح منه:
ـ عريسك.
يا إلهي.. انتصب أمامي قفص كبير رأيت نفسي فيه طائراً مقصوص الجناح فصُعقت.
ركضت إلى فتحي، شاب أعرفه، تعجبني أفكاره، أحترم ثقافته، وأعرفه منذ ثلاث سنوات، وأعرف أنه يحبّني. استقبلني بفرح، هربنا وتزوّجنا.
ثارت الدنيا.
كيف أهرب وأتزوّج ممن اخترت..؟ تصوّر..! حكموا علينا بالموت، لكنني تجاوزت خوفي منهم، وبعد شهر واحد من زواجي لم أعد أفرّق بين موت وموت.
هل تحاسبني لأنني لم أحسن الاختيار؟.
وماذا تنتظر مني وأنا سليلة أسرة مثل هذه..؟ أخي مدمن مخدرات وأختي استطعت أن أصل بها إلى الأمان بعد أن قررت وضعها تحت جناحيّ، وجعلّتها ظلّي أحميها ممن حولها.
تزوّجت صغيرة وانفصلت عنا لتقيم مع زوجها في بلد بعيد..!
عشقت الحلم الصعب، عشقت غسّان ذلك الكاتب الشهيد الذي يراني امرأة في وطن، ويرى الوطن في وجهي. وحين اقترب مني وهو في رحلة بحثه عن وطن.. قتلوه..!
عشقته وأخلصت لـه الوفاء، رجلاً كاتباً رقيقاً يتغنى بأحلامه، وحين أطلق شرارة قلمه صعقته قيود بني قومه وجلاّديه، فحرت أيهما أكره.
فكّ قيوده وخرج من موته فانفتحت بوابات قلوب الناس، أوّلها قلبي فدخله فاتحاً.
تمنيت لو كنت أنثى يعشقها، وعشت في طقوس ذلك الحلم. كنت أقرأ ما يكتب بنهم، فلا أحسبه إلا أنه يكتب لي، أنا التي أستحق حبه لا سواي، أنا المخلصة لـه حتى النخاع.
ألم أقل لك أعشق المستحيل وأعيش فيه..!
ألمس صدق كلماته، فألمسه، وألمس وجودي وذاتي.
ها أنا ذي أعود إلى موتي، ليتك لم تكن فقد أدميت قلبي، تراني لا أستحق أن أكون.؟
أم تراني غبيّة خائبة أعبر الجسر عائدة إلى ضفتي الأولى.!
آه يا وطني.. نحن ذبيحان فأيّنا موجوع أكثر.؟
هل تذكر كيف التقينا.؟
قلتَ ستأتي وأرسيت نقطة، وكان علي أنا أن أبدأ.
أليس شوقي هو الذي ناداك.؟
تعلّقتُ على ذيل قائمة أسماء طويلة، أسماء بشر من لحم ودم كلهم يريدون السفر إلى الضفة الأخرى لملاقاة أحبتهم.
وأنا.. هل لي هناك حبيب..؟
كذبتُ يا حبيبي وقلت سألتقى خالي، كذبتُ وخلقت لـه وجوداً واسماً ومكاناً. اصطحبت معي ابنتي الصبيّة وأمضيت أصعب أيام الانتظار، أركض من دائرة إلى مركز أمن، أسئلة لا تنتهي..
لماذا.؟ ومتى وأين..؟ من أنتِ وما هي نشاطاتك..؟ شاعرة..... آآه..
قرؤوا كتبي، فصفصوها حرفاً حرفاً فقد يكون بين حروفها طلقة ما. لكنهم بعد أيام اكتشفوا أنها خواطر وجدانية، كما أكتشفُ أنا الآن أنها حقيقة لا تحمل بين حروفها طلقات.!
يا حبيبي.. هل قلت لك إنني كتبت في غسان أحلى قصائدي..؟
عشرة أيام ونحن نتهاتف لترتيب موعد اللقاء، هي أيام ثلاثة سأكون خلالها في ذلك البلد، في الوقت الذي تكون أنت فيه، وأرسلت لك رقم هاتف الفندق الذي سأنزل فيه.
حتى إنني حدّدت لك مكان اللقاء، إلى جانب حوض السباحة في الفندق.
هل تذكر.. قلتَ لي:
ـ نسبح.!!
أجبتك باقتضاب:
ـ لا أعرف. هو مكان أتصوّره يناسب رسميّة اللقاء..!
استعلمت عن موعد طائرتك، ورتبت أمر وصولي مع مجموعة من سبع حافلات في اليوم الذي يسبق حضورك، وحلمت.. حلمت.
اخترت غرفة في الفندق، بشرفة تطلّ على حديقته الخلفية، حلمت.. حلمت.
ثم أفقت فجأة.
أعبر الجسر عائدة إلى موتي، لا أرى غير ابتسامة باهتة تلطّخ زجاج النافذة، وجوه كثيرة حولي كلها مبتهجة بعد لقاءات مع أحبائهم، يتحسسون بأصابعهم أشياء بسيطة وفقيرة يغرزونها في ذواكرهم كي تبقى بعد خمسين سنة.. ذكرى. وربما إلى خمسين سنة أخرى مقبلة.
وأنا أبتسم على خيبتي.!!
لم أعد أذكر.
هل التقينا.؟
تصافحنا..؟
تراني عشت حقيقة الحلم..؟
لم أعد أذكر، هل كان هو أنتَ الذي تشكّل في خيالي طيف حلم بعد أن أغرقتني بشعارات زائفة..؟
وجهك البارد.. قلتَ:
ـ أراكِ غداً.
وقد هيأت في خيالي كل شيء لاحتمالات لقاك.
لم أقل أحبكَ.؟
ولم تقل يا ساحرتي..؟
لم أعانقك، ولم تضمّني إلى صدرك.
لم أتوّجك نسر فضائي، ولن أكون أنثاك المشتهاة.
لم أقلْ شيئاً.. ولم يقلْ شيئاً..!!
تبخّرت حتى الصور المضيئة التي حاول أن يحشوها في رأسي زيفاً ورياءً.
مدّ يده، رأيتها لأول مرة طويلة أكثر مما تصوّرتها، أصابعه لم ترتجف، وكنت أرتجف، حاولت أن اخترق زجاج نظارته السوداء وأنظر في عينيه، هل كنت سأجد ذلك البريق الحاد الذي طلع عليّ كثيراً من بين كلمات رسائله الفلسفية.
وقف أمامي متوترا كأنه عصفور مشدود إلى يدي بخيط, يرفرف يود لو يطير، هتف:
ـ إذن هذه أنت.ِ؟
تناول من يدي كيساً حرصت أن أقتنيه أنيقاً حشوت فيه دواويني وقصائدي التي نزفتها مسيرة عمر. وعلبة نظّارتي البنيّة، ومظروفاً فيه رزمة أوراق خضراء عليها آثار صنارة الـ لو التي ألقاها في بحر غبائي، هي حصيلة شهيق خمسة عشر عاماً قضيتها في سلك التدريس.
حمل الكيس برفق، لم يفتحه، كان عارفاً بما فيه، نظر في وجهي حتى أنه لم يتبين لون عينيّ من وراء النظّارة البنية.
الكيس اليتيم الذي عبّأته صدقي ينسلخ من راحة يدي ويمضي إليه.
قال:
ـ متعبُ من السفر، والرفاق في الخارج ينتظرون.. أراكِ غداً..!
مدّ لي مظروفاً أعرف أن في داخله كتبه الفلسفية.
قال :
ـ سلام...!
ومضى..؟
لم أعد أذكر، هل رأيتُ فيه شيئاً من حلمي..؟
تركني بين ضجيج الناس. ابنتي تقف إلى جانبي ساهمةً، لا تدري ما الذي يجري حولها.
الناس هياكل أجساد عارية تطفو على سطح مياه البركة الواسعة، الكتب الكاذبة فقط بين يديّ.
تابعته يسير باستقامة، لم يلتفت حتى غادر المكان، ولحظة غاب عن ناظريّ، انكسرت قارورة الحلم في رأسي، وتبعثرت إلى قطع صغيرة، صغيرة جداًً لا تحصى.
وأنا أواصل رحلة عودتي إلى أسري، إلى وطني، إلى ركني المظلم، تتابعني الصور.
ما زلت أعشق غسّان الذي ما فارق حلمي، أتمنى لو أن أحداً في هذا العالم يكتب لي كما كان يكتب لحبيبة لم تخلص لذكراه.؟
هل هي أنا تلك التي تبتسم لي بوجع عبر زجاج النافذة.؟
أم هي امرأة أخرى ستبقى قائمة على الحلم، تحلم.. وتحلم..!
وتفتش عن اسم يقفز ذات لحظة صادقة من شاشة حاسوب تشكّله كما تشتهي من بين كلمات يكتبها..؟
تراه من يكون ذلك الساكن في حلم، و يكتب صدقاً..؟
تراه يكتب لها..؟
أم لي..؟
أرسم لـه وجهاً عبر الكلمات.
أشكّله رجلاً كما أشتهي.
وأحبّه..! | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: امرأة الوقت الحزين.! السبت يوليو 31, 2010 3:20 pm | |
| امرأة الوقت الحزين.! أليس غريباً أن أشعر بعد أن بلغت الأربعين من عمري بأنني امرأة، وأنثى، ما زال قلبي يملك طاقة حب وعطاء مدهشة.
أنت معي يا فارس، بين كل خطوة وخطوة، تمسك بيدي وأشدّ عليها كي نعبر الشارع العريض، ونغني.
أنت بين نبضات قلبي، تحمل همي، وتشاركني اللقمة والفكرة والبسمة والدمعة، معك أعيش الأمان، ومن أجلك بدأت أحب الحياة.
هل ستنسى أنت الآخر أنه اليوم..؟
وكنت أحسب أن العمر سيمضي على وتيرة واحدة تأخذني بطيئاً بطيئاً لأحتلّ مواقع ليست لي، تقول مسيرة الحياة والفطرة ونظام الكون إنها لغيري.
وأقود نفسي إلى تقديم تنازل وراء تنازل في سبيل أن يبقى المركب قادراً على الإبحار، فقط..! ولأصبح بقدرة قادر، زوجةً وأماً وأباً وعاملةً ووسيلةً لترف الآخرين وتلبية طلباتهم ورغباتهم دون الالتفات إلى أدنى إحساس بمشاعري.
لكنني بعد أن أدركت بأن فيّ بقية أنثى، وأنني أتممت واجباتي الفطرية على شكل ما، قررت أن أكون إلى جانب كل ذلك.. أنثى.!
وهل يستطيع كائن أن يخرج من ثوبه.؟ وأن يبدّل مكنوناته في أن يكون أو لا يكون.؟
أن يكون شاعراً أو بائع بطيخ.؟
أن يكون مسؤولاً بكل قيم المسؤولية وموجباتها، أو يكون مستهتراً إلى حد العبث.؟
لكنني رغم ذلك سأتناسى أوجاعي كلها، وأعبر سنتي الآتية معك وإليك بزينتي الجديدة.
حتى هذه الفاصلة من حياتي انتبهت لها مصادفة وأنا بين يدي مديرية التعليم، أراجع بعض الأوراق التي أدخلتني في متاهة من الأسئلة لم تنتهِ وربما لن تنتهي قبل أن تحمّلني أوزار من سبقوني أو من غرروا بي دون أن أدري، وكنت أحسب الدائرين حولي أو الذين أدور أنا في دوائرهم مثلي.
قرأت على "الروزنامة" المعلّقة فوق مكتبه، 7 تشرين ثاني "نوفمبر".
للمرة العاشرة يستدعونني لأبيّن أو أشرح أو ربما لأعترف كيف ارتكبتُ هذا الجُرم.!!
والأستاذ إسماعيل ببرودهِ القاتل يلقي عليّ التهمات وهو يبتسم بسخرية وعلى طرفي شفتيه سيول من شكوك.
يااااااااه تشرين ثاني "نوفمبر"..؟
في التاسع من هذا الشهر أكون قد أغلقت بوابة أربعين سنة من عمري. ومن غريب الصدف أن يكون اليوم التالي أي "العاشر" من كل شهر، "وقد بدأ منذ عام ونيف" يوم تعرّفت عليه، وأعلنتُ بفرح مكتوم ولادتي الجديدة كأنثى أحمل كل دفق الحياة وآمالها.
آه يا فارس، لماذا تأخرت..؟
ـ هذا المبلغ المقيّد بالفاتورة غير صحيح.؟
يقول الأستاذ إسماعيل وهو يرسم نظرة جادّة.
ـ غير صحيح، كيف.؟ وهو المبلغ الذي استوفاه صاحب المكتبة بالتمام ثمناً للوازم حاجة الأطفال ذوي الإعاقات الخاصة اعتماداً على توجيهاتكم وموافقتكم.
يبتسم بدهاء وهو يشير إلى ركن الورقة المثقلة بعشرات الأختام والتواقيع، ثم ينظر إلي بكثير من الشك ويقول بصوت هادئ:
ـ يا أستاذه سلمى، أنا لا يمكن أن أصدق بأنك بعد سبعَ عشرة سنة خدمة في وزارة التربية، وفي أقسام ذوي الإعاقات الخاصة لا تعلمين القليل عن "الروتين".؟
وقبل أن ألتقط أنفاسي يتابع:
ـ هذه أموال عامة أستاذه سلمى، وأنا لا أستطيع أن أقفز فوق التعليمات.
كيف مرّت كل تلك السنوات.؟ كيف هربت من بين أصابعي وأنا لم أدركها ولم تدركني.؟ واليوم أصحو على امرأة تسكنني يقولون: امرأة على عتبات سنّ اليأس.
هل أعتب على أولادي، بيتي، زوجي، أسرتي، عملي.؟
عشرات الواجبات عليّ أن أنجزها في كل يوم على مدار الدوّامة، أصحو قبل أن تصحو عصافير الصباح، أعبر المرآة سريعاً كي لا أتابع الخطوط التي تحفر مآسيها على وجنتيّ، وكي لا أرى الشيب يغزو شعري، أرتب البيت وأغسل الصحون والملابس، وأنسى أن أحتسي قهوتي أو أتناول لقيمات ربما كانت منعت تلك القرحة اللعينة أن تأكل معدتي، ثم أركض إلى مدرستي لأمضي فيها ست ساعات بين أطفال معوقين، وطلبات أسرهم، ومجاملة المشرفة على المدرسة، وكتابة بيانات، والاحتراس من الذئاب، وتحضير كرّاسات، وتعب من نوع لوّن عروق ساقيّ بالأزرق، وعلّق على أرنبة أنفي نظّارت طبيّة ثقيلة.
وأنا آخر المغادرات حرم المدرسة، فواجبي الإنساني يستدعي مني أن أنتظر أهالي الأطفال ليأخذوهم، وما أن أجد نفسي وحيدة، أخلع زيّ وقار المدرّسة، وأسعى جرياً إلى العم محمد بائع الخضار، والحاج حسين الجزار، وبائع الخبز.... ثم أحمل أثقالي وأركض أيضاً إلى المطبخ، أسكنه ساعات أحضّر طعاماً للخاملين، وقليلاً ما أنجو من انتقاداتهم وتبرّمهم.
وفي المساء قبل أن تستقبل الأريكة الضيّقة في ردهة بيتي الصغير جسدي المنهك، يجب أن أزور والدي المسنّ، وأسمع شكوى أختي الكبرى، وتذمّر زوجة أخ لي تركها زوجها مع أولادها وسافر للعمل في بلاد الله، وحكاية حنان مع زوجها وحبيبها الآتي من بلاد الضباب، وعتاب السيدة أوصاف مديرة المدرسة التي أحالوها للتقاعد.
كيف مضت أربعون سنة بأيامها ودقائقها وأنا وسط هذه اللجّة.؟
وأدخل عامي الواحد والأربعين، ولا أحد يذكرني..!
ولماذا أعتب إذا لم يذكرني أحد، وأنا نفسي نسيت منذ وقت طويل أن أحتفل بهذه المناسبة.
لكنني في هذه المرة سأحتفل، وسأنتظر منه أن يتذكّر.!
أن يهمس لي بكلمة أشتاق إليها وأنتظرها.
تراه يتذكّر هو الآخر.؟
يضع الأستاذ إسماعيل الورقة على الطاولة المكتظّة بالأوراق والملفات ويتابع:
ـ الأوراق ليست مستوفية شروط التعليمات، ناقصة الدمغة الأميري، والحسم القانوني على مجموع قيمة المشتريات.
سكت قليلاً ثم أردف:
ـ كان يجب أن تضيفي الحسم وقيمة الدمغة على حساب الفاتورة.
الأطفال المعاقون يعانون من نقص وجبات التغذية المجانية، لأن المبالغ المرصودة بالكاد تكفي شراء شطيرة "طعمية" أو فول لكل واحد منهم، وربما في أحسن الأحوال حبّة موز أو حبّة جوافا.
ابنتي الكبرى تهيئ أوراقها للانتساب للجامعة، ابنتي الثانية بحاجة إلى ملابس المدرسة والكتب والدفاتر، وقائمة طويلة من الطلبات التي لا تنتظر، ولا ترحم.
زوجي الذي غادرنا منذ زمن بعيد، وترك جسده بيننا.. فقط.! ترك لي مسؤولية كل شيء، وكان يجب أن أتنكّب مسؤولية كل شيء، كي يبقى مركب الحياة يسير.
كم أحتاج الآن إلى صدرك يا فارس.!
تراك تذكر أن اليوم هو يوم ميلادي.؟
يهمس في أذني الأستاذ رأفت وأنا في طريقي للخروج من مبنى المديرية:
ـ لو تركت تصريف الأمور منذ البداية للأستاذ إسماعيل كان كل شيء سيسير دون جلبة.
ويبتسم بخبث.
أمي امرأة رائعة، لم أشعر بحجم المساحة التي كانت تحتلها في حياتي إلا يوم فقدناها، تركت لنا أنا وأخوتي الثلاثة بيتاً مفروشاً ورصيداً لا بأس به من مصاغها وحليّها.
آه يا فارس، من أجلهم بعت كلّ مصاغي.
بعد أيام الحزن أوصل لي بواب العمارة حقيبة كبيرة فيها ملابس أمي القديمة.. فقط.!
صدري يضيق، أحتاج إلى كمية كبيرة من الهواء النقي، ربما يقتلع أوجاعي.
آه يا فارس، هل تراك تذكر يوم ميلادي.؟
نعم يا فارس، لقد دفعت فارق مبلغ الفاتورة من جيبي كما قلتَ لي، وأغلقتُ حفرة الروتين العفِن.
دفاتري القديمة، مذكراتي أيام زمان وكومة من خواطري وقصائدي وأشعاري، ما عادت تبعث في نفسي ذلك البريق الذي كنت أحسّ به وأنا أكتبها، أفرغ فيها كل المكبوتات في داخلي.
كثيراً ما حاولت أن أنفض عنها الغبار، وأزيدها قليلاً مما يعتمل في صدري من أوجاع، لكنني في كل مرة أحاول، تطلّ مشاغل أخرى أكثر أهمية، فأنساها.
وهذه الشاشة الصغيرة أصبحت قدري.؟
منها.. منذ عام وثلاثة أشهر بالتحديد، عرفتُكَ. ومنذ ذلك اليوم ربطت مصيري بك.
لماذا لم تكن أنت رفيق دربي.؟
لماذا يا فارس تتقاذفنا المقادير في متاهات الضياع، لماذا..؟
صعدت الدرجات القليلة إلى بيتي أحمل أثقالي، البيت هادئ كما تعوّدته، لا شك بأن الكل نيام ينتظرونني كي أوقظهم ليتناولوا طعامهم.
خلعت معطفي بإعياء وألقيت بجسدي المتعب على الأريكة.
طرقات خافتة على الباب، قمت متثاقلة، فتحت الباب.
رباااااااااااااااه..!
ـ فارس.؟!
وألقيت بنفسي على صدره.
ـ سلمى.
وبين وجيب قلبه، ونبضات أصابعه ترجف على كتفي جاءني صوته وكأنه آت من بئر عميقة هادئة مريحة.
ـ أنا هدية عيدك، كل سنة وأنت بخير.
نظرت في عينيه، وقرأت على طرفيّ شفتيه كلمات وقفت بيننا على حدّ الشوق، رددناها معاً.
"كل يوم وأنت حبيبتي"
" كل يوم وأنت حبيبي"
ـ آه يا فارس كم أحبك.. وكم أحتاجك.
دمشق 9/11/2004 | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: الملفّ "س ر ي"..! السبت يوليو 31, 2010 7:10 pm | |
| الملفّ "س ر ي"..! رباه.. كيف أجعلها تسامحني..!
نيازك لؤلؤية تهطل على صمتي، تلتفّ حولي أنسجتُها الشفيفة، وتسري بي محمولاً على جناح غيمة هشّة، تطير إلى عوالم غريبة، هلامية، ما سمعت عنها يوماً، وما أوغلتُ في البحث عن سرّها الدفين إلا الآن.!
أصعدُ ساكناً، لا أعرف إلى أين، لكنني أحسّ في هذا الاختلاف المُحتفي بنغمات عذاب شيئاً من الفرح. فضائي ما عاد فيه غير شدو عصافير، وأجنحة بيضاء، وأنا.!
ربما أنا.!
لا أعرف من هذا الذي يسكنني جديداً، لا أعرف كيف أطير دون أجنحة.!
تُأخذني هذه الغيمة إلى بحر ليس فيه ماء، وليس على حدوده شطئان.
أزرق عميق لكنه، وكلما أوغلت عبوراً فيه، يعجّ أبداً ببياض مديد.
منذ أبكر الصباح، سمعتُ إعلان موتي.؟
تمنيتكم لو تعبثون بأشيائي، تفتشون بين أوراقي.
لو يفتح أحدكم ضوء ذلك الجهاز.!
لكنكم لا تعيرون هذا الأمر أدنى اهتمام، وفيه لو تعلمون، وصيّتي.
كل التفاصيل حِكْتها ووضعتها لكم في صدر الصفحة، تحمل عنكم في ساعة الصدمة -كما الآن- كل حيرة وارتباك، وتدلّكم كيف تقيمون لي طقوس الوداع.
عويل، ودموع، ولحظات وجوم غير مصدّقة فجأة المصاب الجلل. أحاول أن أفتح عينيّ، أحاول أن أمتصّ حزنكم بقيامة لي جديدة، أحاول أن أقول أي شيء، أي شيء، لكنني لا أملك من أمري شيئاً.
عاجز أنا، أصابعي تيبّست، محاجري أفلتت مرابطها، قدماي دخلا صقيع القطبين، لساني تحجر.
ميت أنا.
أسمع همساتكم المؤطرة بصدمة حزن مدهوش، وشريط في آلة تسجيل يكرر ترتيل آيات من الذِكر.
حملوني بحرص شديد، وسجّوني فوق لوح خشبي.
سريعة تراكضت الأحداث.
ثم أهالوا فوقي التراب.
تعاود النيازك هطولها الرتيب.
كنت ذات عمر بعيد صغيراً، تأخذني بعض اللحظات الغريبة غير المفهومة إلى تصوّر ما ستكون عليه حال الدنيا مع نهاية القرن، وهل أعيشها وأنا ما زلت في منتصف الطريق إليها؟
وكيف سأكون عندما أبلُغها؟
ليلة احتفلَت شعوب الأرض بطيّ ألفية انقضت، وافتتاح الألفية الثالثة أيقنتُ بشعور خفيّ لم أجرؤ يوماً أن أبوح به أمام أحد، بأن كل يوم جديد أعيشه بعد أن أدركتُها هو زيادة عن حساباتي، وفائض عن حقّي
في الحياة.
لماذا لا يقرؤون وصيتي؟
ربما لأنهم على يقين بأنني لم أترك ورائي ثروة تذكر، ويدركون بأنني نزفت عمري كله من أجلهم، وبين أيديهم.
تعب السنين الطوال، أيام الشقاء، الحرمان، الصبر، وما تركت لأيامي الآتيات على تصاريف المجهول شيئاً، وما ادّخرت ولا خبأت ولا احتسبت شيئاً إلى عمرٍ قادم مجهول.
وتأتيني لحظة النور على سفر مفاجئ يهزم كل التصوّرات، وأرحل قبل أن تفجعني النائبات.
تغمرني فرحة النجاة من لطمة مصيبة من المصائب متربّصة بي ذات عمر ستقتلني -لو أصابتني وأعجزتني- وسأعيش الباقيات من عمري أجترّ عدد اللحظات مشاعر العجز وحاجتي للآخر، حتى لو كان ذلك الآخر أقرب الناس إليّ.
في سبيلهم ومن أجل ابتسامة فرح منثورة على وجوههم أكتحلُ بها سعادة قدّمت لهم كل ما أستطيع، زوّجت أولادي وبناتي وكفَيتُ بيتي، وتوّجت زوجتي سيدة ملكة على الجميع، صرفت عليهم وفي سبيلهم روحي وعاطفتي وحبي ورعايتي وكل قرش معي، قلت:
ـ سأمضي ذات يوم فلأترك في تلافيف ذواكرهم أبهى صورة لأب وزوج متفان، يجب أن يكون المثل والمثال.
أب وزوج رائع هو أنا.
لا أملك غير ما يحتويه هذا الجهاز المركون في ركن الغرفة، ولا أحد يلتفت إليه.!
صرخت:
ـ اقرؤوا وصيتي.
يا إلهي.. في بطن هذا الجهاز العميق يسكن الملف (س ر ي).
والله العظيم أنا مخلص ومحب ووفيّ لزوجتي وبيتي وكرامة أسرتي، لم أرتكب فاحشة، ولم ألج دنيا تكبّل ضميري بقيود الشعور الثقيل بالذنب. لكنني.!؟
ليتكم عندما تكتشفون خبيئاتي المركونة في نسيج الملف (س ر ي) تفهمون.
ليتكم قبل أن تنهال عليّ احكامكم، وتهوي بي إلى قرار جاهدت كل عمري كي أكون أبعد البعيدين عنه، لو تمنحونني فقط فرصة أدافع فيها عن نفسي.
وماذا ستفهمون لو قلت ما قلت إذا كنت أنا نفسي لا أفهم.!
وكيف أدافع عن نفسي وأنا غارق حتى آخر أنفاسي في مستنقعِ حَرَجٍ مقيت.؟
كيف قادتني سفن الجنون إلى البحث عن شيء غائب.؟ تصورت أنه يمكن أن يعطي روحي التائهة هدأة سكون أعيشها بعيداً عن هموم العادة والواجب والرتابة.! حقيقة كانت أم وهماً لكنني أعيشها، وأجد فيها غاية ذاتي ومنى أمنياتي، لكنني وأنا أجدّف ناشداً الوصول إلى هدأة الروح، أوغل في الغرق أكثر.
لماذا فعلت ذلك.؟
لماذا أحتفظ ما زلت في تلافيف هذا الملف بالكثير. كل حرف كل صورة كل بوح كل اعتراف. مذكّرات هي.! إلى من؟ وإلى متى؟
ياااه كم ترعبني لحظة انكشافي أمامكم. أنا الذي كنت المثال والمثل وهرم القِيم، هل هي رحلات بحثي عن صفاء روح مجرّدة من كل إثم تجعلني فريداً في الجنون.؟ هل هو الغرور.؟ هل هو ذلك الإرث الذكوري الذي أشبعني رغبة بالتملك والامتلاك والـ أنا.؟
كم صفة ستطلقون على جنوني.؟
هل ستحملون إلى أمّكم صورة أخرى يقفز من بطنها ذات لحظة ألف غسّان وألف غادة..!
أم ستعيدون أمامها قراءة ميّ وجبران.؟
أم ستشفقون عليها من خيبةٍ تهتك أستار رحلة العمر بطولها وتفاصيلها؟
لو تحاولون فقط أن تفهموني.!
خلجات روحي، نبضاتي المفقودة تنضح بروائح العطر والشوق محفوظة في ذلك الملف المجنون.... أنا الآخر الذي ما برح يسكن برج التفوّق، وأحلام الشعور بالقيمة، أيّ قيمة وكيفما كانت وعلى أي صورة تأتي. نزيف روح تائهة في البحث عن القريب المفقود، والبعيد الممكن.
لماذا ما زلت أحتفظ بها.؟
لماذا عندما بدأت أخطو نحو زمن الخوف يغلبني شعور ما أحسست به يوم كنت ذلك المُشتهى، كلما تسللت إليّ ديدان الخيبات، وكلما أحسست بموجة صقيع تقترب مني تلتهم أشواقي أعود إليه.
ذلك الملف المرعب.
أفتحه برفق شديد كأنه بيارق انتصاراتي، فأحسّه يهدهد غروري ويحملني إلى البعيد، أعترف أن ذلك البعيد لم يبرح جنون خيالاتي، خيالاتي فقط، أسافر على جناحيه إلى فضاءات ليست أكثر من فضاءات، أسبح في فراغها، لكنها تُرسي الرضا في قاع ذاتي الطامحة في أن تكون دائماً مشتهاة ومرغوبة ومحبوبة.
أقسم أنني ما غدرتُ بأحد يوماً، وكنت أعرف إلى أين يمكن أن يأخذني شراع السفر إذا ما أفلتُ لـه العنان، لو تنفسّت عبره ريح المسافات، لكنني لم أفعل أبداً، وكنت لكم السكن والهدأة والأمان.
تُراها كانت ترّهات مجانين.؟
وكيف تحسبون عليّ حباً يطير في فضاء؟ فضاء ليس أكثر فتح مداه هذا الجهاز، فامتطيت مركب حضارة "الكومبيوتر والإنترنت" وأفسحت كل المساحات وجعلتها ممكنة، كي ألحق بالمراكب المسافرة، وتعشّقتُ ألق الأزرار تفتح أمامي كل أبواب المعرفة.. والجنون.
وذلك الآخر السابح مثلي يقاسمني وهم اللحظات، يمهر جنونه كما فعلتُ وأفعل، ويأتيني طيّعاً مشتاقاً يتعلّق طرف حروفي، ويعشقني.
هل تراه تصوّر يوماً أن نصل في زمن ما إلى شاطئ؟
جنون هو الجنون لكنني أنا من صنعه.
وذلك الملف (س ر ي) كان سفينتي كلما غابت الأشرعة، ونبتت ذوائب الشيب، تعلن بخجل أفول شمسي. أعود إليه، أفتحه في سكون ليل وأغوص في جنون الحروف.
ليتكم تفهمون وتثقون بأنني ما أحببت سواكم.
وما تحمّلت شقاء العمر إلا من أجلكم.
ورفيقة العمر تاج بيتي وموطن سكوني، أمي وأختي وزوجتي وصديقتي، لكنه الغرور الذي يدفعني دائماً إلى شعور بأنني سأبقى الرجل المُشتهى، وسأبقى الأول على سلالم الاهتمامات.
زوجتي تزورني.
للمرة الأولى تقف صامتة، رأيت في عينيها بريق دموع، لم تقرأ الفاتحة، ولم تزيّن قبري بوردة كما تعودت ، ولم تبلل كأس الرخام الجاف.
صرخت أرجوها بكل اللغات، لكنها لم تسمعني.
أشعر بها تنظر في عينيّ ولا أجرؤ أن أرفع ناظريّ.
قبل أن تدير ظهرها وتغادر قبري إلى الأبد صرخت بفزع:
ـ سامحيني.
صدرها يستقبل فزع صرختي.
ـ بسم الله الرحمن الرحيم.
أسقطتني النيازك على صحوة الحياة، كأس ماء يبلل شفتيّ، ولسان حبيب يرقيني بالمعوّذات وآيات الذِكر من فزع الكابوس.
نهضت متثاقلاً بطيئاً، فتحت حنفية الماء البارد وغرزت رأسي تحتها
زوجتي تتابعني ولسانها لا يكف عن قراءة كل ما يهدئ من روعي.
جلست إلى الجهاز بخمول.
كان يرسل تلقائياً وتباعاً كل تعويذاته الرقمية.
فنجان قهوتي المفضّل، وبرائق ثوبها الزهري الهفهاف، وأصابعها تمشط شيبي.
ـ هل أنتظركَ؟
لم أبتسم ولم أجب.
كنت أفتح نوافذ الأيقونات واحدة إثر أخرى، غُصت عميقاً في تلافيف هذا الجهاز اللعين.
وعندما بدا الملف (س ر ي) على الشاشة ينتظر إطلالتي المعتادة
تسلل إصبعي، وضغط بعناد وإصرار على مفتاح الـ حذف. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: قطط.. السبت يوليو 31, 2010 8:11 pm | |
| قطط.. لم يبق لي سوى جدران غرفة صغيرة اقتطعتها أختي من بيتها الصغير، وكرسي بعجلات هو أقصى ما خرجت به من عمر زواج لم يدم أكثر من سنة وستة أشهر، ينقلني من زاوية إلى أخرى، ويثبّتني ساعات أمام نافذة صغيرة تشرف على شارع خلفي، أراقب منها الأحياء القلائل يروحون ويغدون.
وحشد من القطط تتقاطر كل صباح بتوقيت محدد لتلتقط أقواتها مما يقدّمه لها "أبو فهد" من مخلّفات وأحشاء وأطراف الذبائح التي يبيعها في دكّانه الصغير، يتقدّمها قطّ أسود، يبدو أنه الأقوى، يمشي بخيلاء فيمارس الجميع حولـه طقساً لا يتبدّل.
لا أحد يجرؤ على الاقتراب من دائرته حتى يأخذ حصّته، يختارها بعناية، ويحملها بين أسنانه، أراقبه وهو يمضي بتؤدة واطمئنان، يهزّ ذيله، ولا يلتفت إلى أحد.
بعدها ينقضّ الجميع لالتهام ما يبقى.!
* * *
يا إلهي.. مرة أخرى ينبض هذا الساكن في صدري نبضات خارج إيقاعاته المألوفة، أحاول أن أقبض عليها، أخنقها، أحاربها بالنصال ذاتها التي أتخمت سنوات عمري الأخيرة بالبؤس، أتسلّح بالحراب التي أدمت قلبي ألف مرة، أشرّعها كلّها لتقف في وجه هذا القادم، لكنّه يكتسحني، يحطّم أسلحتي كلّها، ويبعث في خافقي رعشةً لست أدري كيف استكنت لها.!
كأنني أزحف فوق رمالٍ حارّةٍ في صحراءَ قاحلة، ليس فيها إلا نتف أشواك هنا وهناك.
هجيرٌ محرق، وبريق ضبابيّ غريب، يقف ساكناً داكناً وسط الأفق.
أكاد أسقط، أطبق عينيّ، أحتمي برموشي من رغبة تقودني إلى عار الاستسلام.
فجأة انتصب أمامي بقامته الفارهة، مدّ يده وهمس:
- تعالي.!
فهطل صوته فوقي كرذاذ ماء بعث في أوصالي نشوة، وراح يندف، ويندف، وانتشلني في لحظة سحريّة من جوف الخراب.
* * *
منذ خمس سنوات وأنا ميّتة إلا من وجيب خافت يلفظه قلبي يقول إنني على قيد الحياة، أكره جسدي، أكره ذاكرتي.
ألف مرّة أخذتني عجلات الكرسي إلى حافّة الشرفة، وكنت أتراجع.!
كرهت كتبي ودفاتري، غطيّت المرايا، ومزّقت كل أثوابي الحمراء، وأبقيت على الليل، أسميّته حبيبي، وخلقت في صمته ساحة أعبر إليها وحيدة، ظلّلتها لأزيد من عتمتها، وألقيت فيها الحطام والأشلاء، فأمست ساحة خانقة ليس فيها سواي.
* * *
أحدهم يراقبني، أشعر أنه يتابع حركاتي بفضول، يتفحّصني بدّقة واهتمام، أبحث عبثاً بين عشرات الوجوه المتحلّقة حول طاولات المكان الجميل الذي حملوني إليه، ولا أستطيع اكتشافه.
قالوا:
ـ وسط ضجيج الناس وفرحهم، تنسين.
موسيقى هادئة تنساب من ركن بعيد، تصلني، ولا تبعث في نفسي ذلك الوصف الذي زيّنوه لي.
أطفال يتراكضون، نساء ورجال يتهامسون بظرف، يفتعلون حركات مضحكة، يتأنّقون، يخفون وراء أقنعة أعرف أنها مزيّفة أشياء وأشياء.
هذا الجالس على الطاولة الثالثة، يسكب في أذن صبيّة حالمة كما سكب "زيدان" في أذنيّ منذ أكثر من ست سنوات أوجاع حبه، ولهفته المحمومة للوصول إلى ساعة يتظلّلان فيها وحدهما كما تَظلّلنا ذات بوح أنا وزيدان على سرير حالم تحت سقف محكم.
يكذب.! تمنيت لو أستطيع أن أسرّ في أذنها أنه يكذب.
أحدهم يراقبني، أشعر أن أحداً يراقبني، تخوض عيناي بين أرتال الناس، أصافح وأتصفّح عشرات الوجوه المشدودة إلى بعضها، كلها لا تهتم بي، كلها مشغولة برصف الأكاذيب وتزيينها.
أستطيع أن أعيد على مسامع كل واحد منهم حتى حروف الكلمات التي نسجت حول رغباتهم أسيجة شفيفة، ورفعت سدوداً في وجه أسئلتهم.
لا شيء يساوي نصل حب يغوص في قرارة القلب، تصبح الرغبة في نبش المعرفة دائرة ضيّقة، ضيّقة جدّاً، لا فرق في طلبها بين صدق وكذب، تتمرجّح بين النقيضين شفاه تنفرج وتطبق ولا تتكلم، وعيون ساجية لا تسمع، بل تبحث بشوق أخرس أصمّ عن لحظة عناق.
* * *
ـ أحبك.!
فعزفت أذناي عن باقي الكلام، حملتُ روحي إلى حديقة، زيّنتها كما أشاء، وصنعتُ لنفسي عرشاً اعتليته وتشبثت به.
قال لي:
ـ أنتِِِ عمري.
فركلت عمري تحت قضاء قدميه.
يومها تزوّجنا.!
وعلى سرير حالم فرش فوقه كل ما أشتهي، أهديته مفردات جسدي، جمعتها إلى خيط عقدٍ نسجتُ حبّاته من روحي، ودمي، حبّة حبّة، وأقسمتُ على كل واحدة منها ألف مرّة أن أكون لـه وحده.
* * *
أي عيون تنظر إليّ؟
ربما يكون ذلك البعيد الجالس في الركن القصيّ؟
ها هو ذا يقوم.. تابعت خطواته حتى عتبة باب الخروج، لم يلتفت، وغاب.
* * *
سنة وستة أشهر، ودنيانا لا تمتّد إلى أبعد من السرير وعتبة البيت الذي جمعنا، جارية كنت لأمير سميّته "زيدان".
أقتل نهاراتي بين المطبخ، والمرآة، أختار لـه قمصانه، وجواربه. أشُمّها، وأشِِِمُها بدعواتي المخلصات، وأترك أصابعه تعبث في ثنايا جسدي حتى في ساعات غيابه.
علّمني كيف ألبس، وكيف أتعرّى، فتعلّمت كيف أجعل من جدران البيت الصمّاء جنّة.
ـ أعبدكِ.
فأقرأ في عينيه مكامن جمال عندي لم ألتفت إليها من قبل، يجعلني اكتشف أن كل ما فيّ رائع، عيناي، شفتاي، قوامي، نهداي، جلدة جسدي الياسمينية.
ـ حتى آخر لحظة من حياتي سأظلّ أعشقكِ.
فأعشق في جسدي كل ما يعشقه، تأخذني المرآة ساعات، أبدّل ملابسي عشرات المرّات حتى أطمئن إلى ثوب يرضيه، أختاره رقيقاً فاضحاً بلونٍ مميّزٍ من فيض ألوان ناريّة يحبّها، أعرف أنه سينظر إليه فقط، يبتسم تلك الابتسامة الآسرة، فتنتفض فرائصي.
ـ أحب ما في داخل هذا الثوب.
ويجرّني إلى السرير، أفرد شعري الأسود، وأجعله قريباً من ساحة صدري الزهري.
ـ لو تعلمين كم يثيرني لون الياسمين.
وصرت ربما بفعل العادة أعشق أيضاً ذلك السرير، رضيت طائعة أن أكون جارية، حذفت من مفردات حياتي كلمة لا.
* * *
فجأة انتشلتني ابتسامة باهتة من رحلة البؤس التي ما زالت تأخذني وتغوص بي في دقائق الساعات التي زحفت بطيئة على هيكل عمري المطحون تحت رحى خمس سنوات طوال.
رجل آخر ما زال بريق الجدّة يطلّ من جبهته يقف أمامي بلحمه ودمه، على وجهه ابتسامة آسرة أطلّ بها على صحراء عمري، لم أتبيّن ملامحه جيداً، لكننّي أحسست أنه صاحب العيون التي بحثت عنها بين أرتال الناس.
اقترب من طاولتي
هاتان العينان، لست أدري لمَ تصورتُ أن لا عيون يمكن أن تكون أصفى منهما، ابتسامة خجول باهتة تتّسع على طرف شفتيه.
يا إلهي.. وقف أمامي مباشرة، نظر في وجهي طويلاً، ثم ألقى بين يديّ ورقة صغيرة وانصرف.
(غداً في الساعة الثانية عشرة انتظري اتصالاً هاتفياً مهمّاً.. المخلص: سمير.)
أصابعي ترتجف، ورأسي يدور، كأنني أعيش في حلم.؟
التقطت الورقة، وأخفيتها بسرعة في جيب قميصي.
* * *
ثقيلاً موجعاً كان ذلك الصباح.!
لأول مرّة تأبى أشعّة الشمس البرتقالية دخول مخدعي، كأنها تحسّ الخدر الذي يسري في ساقيّ، حاولت النهوض، لكّن الخدر انقلب إلى ألم صاعق أفقدني كل سلطة على حواسّي، صرخت، ردّت جدران غرفتي صرختي، زحفت.. زحفت، أجرّ ساقيّ ورائي كجثّتين متيبّستين، أجاهد كي أصل إلى سمّاعة الهاتف.
صحوت على رجل يرتدي مريلة بيضاء، وربطة عنق أنيقة، رأيت بين أصابعه آلة حادّة يطعن بها فخذيّ، ثم يلتفت فجأة إلى من حولي، ويبصق كلمة واحدة:
- شلل.!
لم أسمع في لحظة الصمت البائسة التي دوّت في رأسي كثيراً ممّا ردّده وشرحه بعد ذلك.
بعد شهر واحد ضاع كل شيء.
البيت والمرآة والسرير والذكريات.. و"زيدان".. أخذ كل شيء ومضى، ورماني كما ترمى الفضلات، وشطب حياتي في عبارة صغيرة جاءت في ورقة وصلتني، ومهرتها بتوقيعي، أعلنتْ طلاقي.
* * *
عيناي تجوسان عشرات المرّات بين حروف الكلمات المرسومة بعناية على قصاصة الورق، تنتصب ممحاة في أقصى زاوية من قلبي، ركنت فيها حقدي وخيبتي ودموعي خمس سنوات طوال، تعلن هكذا ببساطة قدرتها على مسح أي شيء يمكن أن يقف بيني وبين لمسة لحلم ما زال يعشّش في أعماقي.
بيتٌ أحسُّ أنه لي، ورجلٌ يحميني من غوائل الزمن ونفسي، وولدٌ أكمل فيه دائرة الخلق، ويُسكت ضجيج لهفتي للأمومة.
يهمس، فتنقل إلى مسامعي أسلاك الهاتف كلمات أنتقي منها ما أريد.
يقول إنني الفتاة التي رسمها في خيالاته، وإنني حلمه، يعرف عنّي كل شيء، زواجي الأول، مرضي، حزني. يعترف أن النزهة التي حملتني إلى ذلك المقهى كانت مرتّبة بينه وبين زوج أختي، حاولت أن أهرب من رقّة كلماته، لكنّه لم يترك لي أكثر من لحظة تأمل أذرفها وراء كل طيف لأمنية أثيرة.
كنت كلما بدأت في إمساك ومضة شجاعة في نفسي، ووضعت على لساني كلمات هي حقائق عنّي، وأشرفت على إيصالها، يقاطعني:
ـ أستطيع أن أحبك حباً يمسح بطرفةِ عين كل آلامك وآلامي.
ترى هل يستطيع أن ينحت حباً جديداً في ركام امرأة أوصلتها أحزانها باكراً إلى خريف هزيل وهي لم تكمل الثلاثين بعد؟
هل يستطيع أن يطفأ طيف الخطوط الباهتة التي بدأت تغزو صفحة وجهي؟ ويعيد إلى شفتيَّ بريقهما القديم؟
هل أستطيع أن أكون له؟
هل أستطيع أن أنسى سنة وستة أشهر، غَرَزَت في لحمي ثوانيها، وأتخمتني بطمأنينة كَنَسَت في طريقها أصغر قشّة شك.
ثم فجأة انهارت عن آخرها أمام حدث قدريّ، أقعدني، وفرش أمامي ساحات وساحات معبّأة في حلقة سنوات خمس، أجوس فيها ولا أرى غير غبيّة شرّحتها مباضع الخيانة والخيبة والأنانية.
وقطّ أسود يفرض ذكورته مع إطلالة كل صباح.
تبدّلني الأيام أم أبدّلها؟
ألف سؤال وضعته على صفحة مرآتي الرائقة، كانت تبتسم في وجهي، تُراها تسخر منّي، أم أنها تشاركني رحلة الصعود، أم أنها تشفق عليّ.؟
في داخلي أشياء كثيرة تصرخ، تتوسّل تحت قدميّ المتيبّستين ترجوني كي أقبل، تقول لي بخبث:
ـ تجربة جديدة.!
هي طريق سهلة تفتح مصاريعها إذا أشرتُ بالموافقة، تقودني كما تقود إناث الأرض إلى مآلين.
ها هي ذي تضع أمامي كل إشارات القبول،. وتستهين بأيِّ نتيجة.
طلاق جديد؟
وليكن.!
لقد خُضت تجربة أقسى، وصمدت.
أي مصير آخر لن يشكّل في تكويني الجديد أي فارق، لم تعد تلك الأحاسيس المثالية تهمّني، أريد أن أخرج من حلقة الوحدة التي تمتصّ رحيق حياتي قطرة قطرة.
الساعة تقترب من الثانية عشرة.
حين يلتصق العقربان يكون بين يدّي، أتلهّف لأتلقّى سعادته وأنا أزفّ لـه موافقتي.
سأترك المرآة مواربة بيننا، أتابع النبضات الحيّة التي لا بد لها أن ترسم شكلاً ما على تقاطيع وجهه، وأتابع في الوقت نفسه قراءة النبضات التي سترتسم عبر السطح المصقول على تفاصيل وجهي.
أخذتني عجلات الكرسي إلى نافذتي.
الشارع خال من المارّة، "أبو فهد" مشغول داخل دكّانه، وقبل أن أرتدّ إلى مرآتي، رأيته.
قط أسود يزحف على بطنه، يجر قائمتيه الخلفيتين المهروستين، ويتسلق بصعوبة عتبة الرصيف، يتلفّت حولـه، يطمئن إلى أن فريق القطط لن يعود إلى المكان قبل إطلالة صباح الغد.
يطعن رأسه على بلاطات الرصيف، ويبدأ بشغف لحس ما تبقّى من طعام.
دم حار بدأ يغزو عروقي، نظرت إلى السماء فوجدتها أوسع مما كانت قبل لحظات.
لم أغلق النافذة هذه المرّة، بل تركتها مشرعة.
عقربا الساعة يتلاصقان، "سمير" يقف أمامي بقامته المديدة، ابتسامة رائقة ترتسم على شفتيه.
كأنني رأيت "زيدان" يقف وراءه.
لم أفزع.. ولأول مرّة في حياتي شعرت أن سيّدة حقيقية تحتلّني.
رفعت رأسي عالياً، واقتلعت من بين أسناني وجعاً نخر عظامي خمس سنوات.
كلمات دافئة رقيقة رتبّتها بأناقة كلمة إثر كلمة:
- لا أستطيع أن أحتمل منك أو من سواك خيبة أخرى.!
ثم أغلقت الباب وراءه بهدوء.
ألقيت نظرة عابرة إلى المرآة، وجدتها تبتسم لي بشغف، وانتصار. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: الفصول الخمسة السبت يوليو 31, 2010 8:12 pm | |
| الفصول الخمسة ماذا أعدَدْتَ لاستقبالي؟
يا إلهي..
موجة عارمة تدفّقت من شاشة الحاسوب وأغرقتني.
لحظتها، انهار السدّ، وأفلتت مياهه المحبوسة ثم أغرقت أرض السهل على اتّساعه.
امرأة سرقت لحظة ذهولها عدسة تسجّل الواقعة، عيناها تبحثان عن بقايا بيت كان قائماً منذ لحظات، قلبي كان في صدري منذ لحظات.!
قالت وطفلها متعلّق على كتفها:
ـ سمعت صوتاً كهدير الرعد، التفتُ، رأيت غولاً ضخماً طولـه أكثر من ثلاثة أمتار، وعرضه ـ أشارت بيديها ـ ولطمت وجهها.
أتجمّد أنا الآخر مذهولاً أمام الشاشة الصغيرة.
كدت أختنق، تنفّست بصعوبة، يكاد الماء يكتم أنفاسي.
ستأتي إذن..!
لكَ من تحيّاتي ما تشتهي..
وغابت الحروف في عفن الماء.
أنثى تعرف ماذا تريد، وماذا يريد واحد مثلي، تختصر المسافات بخطوة، وتقفز بكلمة، كلمة فقط فوق عمرٍ يمضي تافهاً سخيفاً تضيع على شطآنه الخائبة رغبات مكبوتة تنتظر بوح الآخر.
ما الفارق في أن تسألني أو أسألها؟ قالت:
أنت ملاذي، أحبكَ..!
ثم تدفّق ماء السدّ، رَكِبَت موجاته الهادرة، واكتسحتني، ثم أرسلت أنها ستأتي.
ـ الغداء جاهز.
زوجتي تنادي للمرة الرابعة، أطفال ابنتي الثلاثة يصرخون فرحين:
ـ جدّو، جدّو..
ماذا أعددتَ لاستقبالي..
لك من تحيّاتي ما تشتهي.. ن..!.
يا إلهي.
أيّ جنون هذا الذي يجري؟
منذ عشرة أيام كانت في مكان بعيد، ألف ميل يفصلني عنها، وكنت على سدّة عرشي أتنفس ريح الحبر وأشتاق إلى قلم لا يملّني، ولا يضيق بي ذرعاً.
منذ أتتني جفّ الحبر في أقلامي كلّها، وتعلّقت نبضات قلبي على لوحة مفاتيح جامدة يسجد واحداً بعد آخر تحت نقرات أصابعي، وأغلقت الشاشة الصغيرة متاريسها وأبقت على نافذة ضيّقة موصولة بخيوط مجنونة بيني وبينها.
أصابعي وأصابعها، أنا وهي فقط، وكلمات لا تنضب ولا تتوقّف.
أيّ جنون يغرقني في حالة عذبة أمتصّ سكّرها على مدار الساعة كأنني أتسلّق ظهر الكون ولا أتعب؟ تحملني رعشات..
من أين تأتيني؟
رعشات حالة لا أجرؤ أن أسمّيها.
ـ جدّو..
تشدّني يدها الشقراء الصغيرة.
كأنهم ثلاثة عصافير، يغرقون البيت زقزقات، ويملؤون فضاءه بصفق أجنحتهم.
ـ منذ الصباح لم تتناول غير القهوة، والسجاير، الله يلعن السجاير، الغداء جاهز وساخن.
تسكت قليلاً تنتظر صدى نداءها.
صغيراً كنت عندما سمعت لأول مرّة في حياتي آهة أنثى، كنت ضيفاً في بيت قريبة لأمي، حاولت أن أنام فجافاني الرقاد، نهضت، وقبل أن أدخل إلى الحمّام سمعت ما سمعت.
كنت صغيراً ففزعت، حسبت الرجل –زوجها- يضربها، تخيّلتها وهي تتلوى من الألم، تصرخ فيواصل ضربها.
في اليوم التالي سألت صلاح، نظر في وجهي نظرة بلهاء وابتسم، ثم راح يضحك، اقترب مني وهمس:
ـ يبدو أنك لم تكبر بعد
ثم استطرد وهو يواصل الضحك:
ـ سيأتي يوم تسخر فيه من غبائك..
يبدو أن زوجتي بدأ ينفد صبرها، عادت تردد جملتها المأثورة:
ـ هذا الرجل سيسقط ساكتاً على دفاتره.
ابنتي الفرحة هي الأخرى بزيارة بيت أهلها بعد غياب لم يدم أكثر من أيام تقول لها شيئاً، أسمع همسها، زوجتي تستدرك:
ـ بعيد الشر عنه، إن شاء الله يومي قبل يومه.
فأبتسم.
منذ الصباح ما دخلت جوفي غير القهوة، قهوة، قهوة.
ـ لو كنتُ كتاباً لاهتمّ بي أكثر، هكذا في كل يوم، ينشّف ريقي حتى أقوم وأجرّه جرّاً ليأكل.
منذ عشرة أيام يا عزيزتي.
أطلّت عليّ رسالة، كلماتها قليلة، سمعت صوتاً يتأوّه من بين السطور، يطلّ على ذاكرتي وينبش صدى آهات أخرى سمعتها وأنا صغير.
انتزعتُ عنوانَكَ من موقعك على الشبكة.
كانت صورتي، وكلماتي، وعنواني.
عرِفَتني إذن، رأت صورتي وتاج الشيب يكسوني، وقَبِلَتني.
سيّدي.. قرأت كتاباتك فَلَمَستُ في حروفها روحي، أنتَ سيد الكلمات، إنّي لذت إليك، أخيّرك بين الموت على صدري، أو بين أوراق الدفاتر الصفراء..!
ماذا سأختار يا عمري؟
يا سيّد الكلمات، أعشق همساتكَ، أذوب في بوحِكَ، هل أستطيع الدخول إلى عالمك.
سجينة بوحك.. ن...!..
لمستُ صدري بوجل، فأحسست بالطفل الساكن فيه يفكّ قيوده، فأمسكته.
من هذه الآتية من قاع المحيط؟.
سيّدي..
وأيقظت سيّداً يملك السطوة والسلطان أعرف أنه كامن في جوفي، كلماتي لمست روحها، فكيف لا أتركها تملك روحي؟
من أنتِ أيتها الآتية على حدّ الكلمات؟
هل تعرفين ماذا أصبت؟
كانت الأيام تحمل لي منها وتحمل لها منّي في كل ساعة رسالة.
صبيّة، حالمة، طموحة، أخذتها الغربة على حصان أبيض إلى بلاد الشمس والغبار، إلى كثبان ليس فيها إلا الفراغ، والكآبة، والانتظار.
من يصدّق أنني أحببتها؟
أنا لا أصدّق نفسي..!
أخرجتُها ألف مرّة من بين الكلمات، تحدّثتُ معها طويلاً، غرستُها في دمي، ولمستُها، وراء كل حرف مغموس بالعسل خرجت منها قطعة ذائبة، تجمّعت حتى تشكّلت أمامي..
رأيتها بين فنجان قهوة ونافذة وسكون في ليل طويل بارد، لا تقطعه إلا أنفاسٌ دافئةٌ تبحث وسط التعب عن صدر، عن ذراعين يغفران في دقيقة عناق، ظلم الغربة.
خطوات تروح وتجيء، تحكّ الأرض برتابة قاتلة علّها توقظ هذا الغافي.
وأنا وراء شاشة مربّعة صغيرة، أطيّر أهدابي وروحي ولهفتي لتبدّد وحدتها، أرسم منهم ذراعين يضمّانها إلى صدر ينتظرها وتنتظره، تستلقي يدي المعجونة بالكلمات على سواد شعرها، تتمرغّ على جبينها، تداعب حاجبيها وتستعد لتغوص في زيت عينيها.
هي، هي، حتى تلك النظرات الساحرة، تنعس كما لو توشك أن تلتقط الرعشة.
آه يا نون، ماذا فعلتِ بي؟
لكَ من تحيّاتي ما تشتهي.. ن...!..
تراني ماذا أشتهي؟
ألف نهد حط رحاله على صدري، وألقى مراسيه، وأشرق يرشف من لمس راحتي كأس انتصابه، وحين فَرَغت الكأس عاد الصقيع إليّ وإليه.
أمّا أنتِ، آه يا أنتِ..
لا أعرف أين تقفين على سلّم الجمال، ما لون شعرك، عيناك، شفتاك، قوامك، هذه التي حسبتها تأسرني في كل أنثى لم تعد أمام ماء القلب تعني لي شيئاً.
هل أطيرُ إليك؟
أستقبلكِ في المطار؟ تتقابل العيون فتخرس الكلمات؟
تقرئين على جبهتي لهفة اللقاء، وأخاف أن أقرأ على شفتيك لحظة الخيبة..
هل أضمّكِ؟ ترتمين على صدري، تعانقينني، أعانقك، يرتاح تعب سفرك على كتفي.
لا، لا.. لأترك لحظة اللقاء إلى وقت أفضل، في حديقة، أو في مقهى..
آه أيها المجنون، تعطيك ما تشتهي.
حسناً أسافر معها إلى مدينة بعيدة، يوم، يومان، ليلة، ساعة، نقيم في شقّة مفروشة.
ياه..
ليلة من ليالي العمر..
تطير العصافير مرّة أخرى
ـ جدّو، جدّو..
ـ الناس تكبر وهو يصغر.
ـ من؟
ـ أبوكِ.
وأرسلت نحوي نظرة مليئة بالسخرية، فغضضت طرفي.
تبتسم ابنتي بخجل وتتشاغل بأمر تافه.
ليلة أمس لم تنظر نحوي. عندما استلقيت بعد أن أوشك عقرب الساعة يقفز إلى الثالثة كانت إلى جانبي ووجهها إلى الحائط، سَحَبَتْ أصابعي الغطاء عنها برفق، وصبّ بريق جسدها في نبضي، رَكَضَتْ أصابعي وراء رغبة الطفل الطالع من صدري.
لم تتحرّك ولم تلتفت.
ـ أحبكِ
لم تتحرّك
ـ عيب يا رجل، كبرنا..
تزقزق العصافير، ويخبو بصيص ضوء كان يشعّ من عينيّ.
هذه المرأة الرائعة تتقن أشياء كثيرة، تهتمّ بأدق التفاصيل في حياتي اليوميّة، مظهري، صحّتي، طعامي، قهوتي، تحمل همّي وحزني وفقري، بارعة في رعاية بيتها وأولادها وأحفادها تجمعهم حولها وتحلّق بهم إلى أقصى فضاءات السعادة، أحسّ الفرحة في عينيها، فأفرح.
ولكن يا رفيقة عمري، ولكن..!
سأقول لها ساعة تحطّ رحالها على أرض وطني ووطنها، أحبكِ.
فتذوب بين ذراعي، تهمس بعذوبة، وأنا..
جسد حملته إلى صدري كلمات، كلمات فقط استطاعت أن توصل إلى وجعي عبر ألف ميل هذا الفيض من الشوق.
فكيف إذا تلاحمنا؟
ابنتي تقف مع أطفالها الثلاثة بالباب ليغادروا.
زوجتي تحشو في أكياس أشياء اشتهتها لابنتها.
وأنا..!؟
أتلهّف للعودة إلى قلمي وأوراقي، أختار عنواناً وخاتمة للقصّة الجديدة التي بدأت في كتابتها بعد أن لمعت فكرتها في رأسي عندما أوشكت عقارب ساعة الليلة السابقة تصل إلى مرفأ الرابعة صباحاً. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: البحث عن.. السبت يوليو 31, 2010 8:14 pm | |
| البحث عن.. في هذا الركن، على هذه الطاولة، إلى جانب اللوحة التي كثيراً ما تبادلنا الحديث عنها، هنا أيتها الغالية بدأنا.
ـ ـ
عفّرتني متاهات الغبار، وأخذتني إلى غور مجهول بعيد، ساحقة جنباته، لكنها تترك في الروح أثراً.
ثلاثة كنّا، ولا شيء بيننا غير كومة أوراق، وبندقية، وخارطة غريبة برع أحدنا في قراءة التعاريج المتداخلة عليها.
ـ من هنا ربع ساعة ونصل..!
وأشار بيده/ يدي القصيرة/ إلى الغرب وكأنه/ كأنني/ أقطع كعكة ميلاد.
لم يكن الغرب غرباً، بعد لحظات سقطنا ثلاثَتنا مرة واحدة في مغارة عميقة.
ـ ـ
ـ أنتَ مختلف.
لم أقل لها وأنتِ أيضاً، ولست أدري لماذا في تلك اللحظة تراءت زوجتي "سعاد" أمامي، وما أهداها القدر، أنا، والفقر، وثلاثة أطفال، عبر رحلة عمر بدأت منذ أكثر من عشر سنوات، أعترف بأنني لم أكن في يوم منها على قدّ أمنياتها.
وفي هذا المكان رأيت "منى" أول مرّة، كانت ترتدي ثوباً أبيض، تلتفت بحذر ونظراتها لا تقف على شيء، سمراء، شعرها الأسود خارج من فورة ماء دافئ، عيناها، سحر أخذني إلى أمنيات.
وتقف بيننا مسافات، ومسافات، لكنني قذفتُ روحي إليها.
بعد أيام جمعتنا هذه الطاولة، إلى جانب هذه اللوحة الساحرة وبيننا كأسان من الشراب، وأنوارٌ خافتة وموسيقى.
أيتها الـ أنت.
لماذا تأتين متأخرة وكأن العمر يعطيني أخيراً تلك الفسحة التي بحثت عنها طويلاً؟
بين كلمتين تقع لحظة صمت بين مختلفين، أحسبها أطول حديث يمكن أن يجري بين روحين.
أنا وأنتِ، وهذه المسافات البعيدة، لم تعد بعيدة.
أنتِ إلى جانبي، ما إن لمست أصابعي رجفات أصابعك حتى تكسّرت بيننا الحواجز.
قلتِ: أحبكَ
قلتُ:
ـ وأنا وجدت فيك كل المنى
ـ لماذا.؟
ويقف السؤال شوكة في قلب وردة لم تتفتح بعد
ـ بيننا رجل وكومة أطفال.!
ـ وامرأة وكومة أطفال.!
ـ وأنتِ مختلفة.
ـ وأنتَ مختلف.
عطرك، عطري. صمتك، بوحي. هذا العمق يأخذنا نغوص في سحره، ولا نجد غير الصفاء.
ـ ـ
كانت المغارة مظلمة، عتمتها ثقيلة، لم أتبين فيها أيّ الثلاثة أنا، بل كنت أنا أسكن الهياكل الثلاثة.
تسلل ضوء خافت ورسم على الجدران الصخرية مرايا كثيرة، في واحدة رأيت أنا تحت ثقل خارطة وبندقية وكومة أوراق, أحمل كل المتناقضات وأتشكّل منها طينة ليست فريدة ، لكنها تشبه طينة البشر الأسوياء.
في الثانية رأيت أنا أيضاً هذا البريء الذي أتمناه في سكون تأملاتي وأتوق أن أكونه، أبحث خفيفاً وسط ضجيج الحياة عن درب خروج.
في الثالثة هذا أنا المختلف، المختلف كما يراني الآخر في لحظات البوح مكوّماً في ركن المرآة البعيد، أقضم أظافري.
انشقّت الصخور عن مجرى نهرٍ نضبتْ مياهه، ولافتةٍ تقول:
(طريقُ نجاة إلى البحر.)
إلى البحر وأنا لا أحسن السباحة؟
لو مضيت إليه ليس أمامي غير الغرق.
فجأة بدت فجوة ضيقة في أعلى المغارة، البندقية أصبحت ثقيلة، والأوراق سقطت في قاع المرآة الأخيرة، والخارطة تمزّقت نتفا.
ـ ـ
ـ ترافقيني على درب مجهولنا الآتي؟
قالت: نعم، لكن ذلك الرجل والأطفال؟
قلتُ: وتلك المرأة والأطفال؟
هو الخلاص إذن..
ـ نتحرر من لصاقات الماضي، كلّ الماضي بأثقاله، ونبدأ جديدين -من هنا- حياتنا.
ـ ـ
تسلقتُ على كتفيّ أنا الآخر النظيف، وأمسكت بأطراف أصابعي حواف الفجوة وأخرجت روحي بصعوبة، عدت إلى النور.
وذلك الـ أنا الآخر النظيف امتطى كتفيّ أنا المختلف القابع في ركن الحقيقة، أشفقت عليه، فأمسكت يده وسحبته وما إن خرج إلى النور حتى أطبقت الفجوة وغاب
الثالث عنّا.
غاب ذلك المختلف، مات، لم أحزن، ولم أبالِ.
حملتُ أنا، والآخر النظيف، وأسرعت الخطوات إلى موعدنا هنا على هذه الطاولة في هذا الركن.
ـ ـ
موعدنا الساعة الثامنة.
جئت أحمل ورقة صغيرة كتبتُ عليها:
استغرقتني الرحلة مع سعاد طويلاً حتى تمكّنت مني تباريح التعوّد.
سامحيني.. وداعاً
قررت أن أتركها خلسة على الطاولة، بدت لي اللوحة الساحرة بيضاء، والموسيقى تنبض موتها على أوتار يابسة، والنور ساطع.
وجدت على الطاولة ذاتها، تحت منفضة السجاير ورقة تحمل أثر عطرها، قرأت:
عندما عرفت ذلك الرجل كان مختلفاً، واستغرقتنا الرحلة طويلاً حتى ولجنا نسغ التعوّد.
وداعاً، سامحني.. "منى"
ـ ـ
خرجت من المقهى خفيفاً بعد أن تركت ورائي أملاً في أن يعود أنا الثالث ذلك المختلف المقبور تحت كومة من الركام، ، يحلم ذات ضياع بـ "منى" أخرى، مختلفة..!
وتمنيت لحظتها صدر "سعاد" يسع تعبي. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: اغتصاب السبت يوليو 31, 2010 8:15 pm | |
| اغتصاب نلتقي في آخر الشارع، عند الدوّار الأخير، أحسبه ينتظرني كلما مررت من هناك، ما يكاد يلمحني عن بعد؛ حتى يطير مثل ومضة البرق، وقبل أن أفيق من المفاجأة يلتصق بي.
أحسّه يدخل في شراييني، يصير بعد لحظات عينيّ اللتين تريان، وأذنيّ اللتين تسمعان، وذراعيّ اللتين تتحركان، وساقيّ اللتين تمشيان.
غالباً ما يُغضبني فأكره ساعة تعرّفت عليه، لكنّني أحياناً أرتاح إلى صحبته، أكون قد مللت من التحدث مع الناس، حديث الناس لا يرضي الخاطر، فكل من أعرفهم "ولأنني صاحب منصب رفيع" يوافقونني في أي شيء أقول، ويصفّقون لي كلما استعرضت أمامهم صواب أفكاري، أو قوّة عضلاتي.
أحسّ أن ردّات فعلهم فيها كثير من الزيف والتملّق، أقبل الأمر مرّة بعد مرّة لكنني في لحظة مكاشفة حقيقية مع نفسي، ومع ما يجري أمامي وتحت قدميّ على الأرض أجد الصورة مختلفة، تلطمني خيبة ثقيلة، فتأخذني خطواتي الحائرة إليها.!!
لم أكن رأيتها بعد عندما أسكنتُها دون أن أعرفها عن قرب سدّة قلبي، وجعلتها شاطئاَ أسعى للرسو فيه. صوّروها أمامي جميعهم بأبهى صورة، الخطباء والكتب والإعلانات، ورسموها في مخيّلتي، حتى أصبحت مثليَ الأعلى الذي يجب أن أقاتل وأتعب لأصل إليها.
قالوا جميلة، لم تلد النساء أجمل منها، صادقة وفيّة مخلصة.
وصفوها بأعذب الكلام الجميل المنمّق الذي توصف بها عادة الأشياء الخارقة، يوم رأيتها لأول مرّة كنت صغيراً لم أبلغ بعد مبلغ الرجال، وكان هذا الذي يلتصق بي، كلّما قصدت هذا الشارع صغيراً أيضاً مثلي، لكنني تصوّرته دائماً يعرف أكثر منّي.
سألته وأنا أشير إليها بدهشة:
ـ من هذه.؟
نظر إلى حيث نظرت فارتدّ طرفه، كانت تقف بقامتها المتناسقة الجميلة فوق لوحة رخاميّة مصقولة، على رأسها تاج من غار، وبيدها مشعل تضيء به المشارق والمغارب، وغلالتها البيضاء الشفيفة تهفهف على جسدها فينحسر عن فخذيها العاجيين فتحسبهما والغلالة شيئاً واحداً ليس بينهما انفصام ولا تباين.
أصلُ إلى الدوّار الأخير لأستقبل الشارع الضيّق السائب من آخره قاصداً بيتها.
لا أعرف لماذا كلّما جرفتني نفسي إلى مواقع الهزيمة، وأوقعتني زلاّ ت لساني وجرّتني إلى سراديب معتمة لا ترى فيها غير جنازير وقيود؛ لا أذكر إلاّها وهي التي ما قبلت بوحي بعد ذلك المساء، وما صدّقت صدق مشاعري.
هي هفوة واحدة ارتكبتها.
كنّا نتمشّى على رصيف هذا الشارع، تمسك بيدي، وتحدّثني، تنظر إليّ بين حرف وحرف تبحث واثقة عن صدى كلماتها مطبوعة على تفاصيل وجهي، فلا تجدها.
كنت وقتها أسبح في ندى همساتها، أحس بخدر يتسرب من أصابعها ويصل لذيذاً إلى قلبي، كأنها تفرد لي ألف جناح أبيض لتحملني عليها وتطير بي إلى فضاء آخر ليس كالفضاءات التي أعرفها، أحسّ قبل أن ألجه أنني مقبل على التحرر من قيودٍ كبّلت عبر شوط عمري كل شيء حيّ فيّ، كأنني مقبل على انطلاقة ساجية ما بعدها انطلاق، تقول فتندف كلماتها عطراً لـه رائحة المسك:
ـ يتغنّون بي، يعشقون ذكري، وساعة أمدّ لهم وصالي يجتاحونني بلا رحمة.
وأنا أستمع، كأن الصوت يأتيني من أعماق جبّ ليس لـه قرار.
فجأة دفعتها بكتفي إلى مدخل بناية معتم، وقبل أن أصحو وتصحو من مفاجأة ما جرى كنت أطبق على شفتيها فاستسلمت.
ثم أخذتني حالة أخرى لا أعرف ماذا أسمّيها، فقد انزلقت يدي وتحسست فخذها.. كانت ترتدي فستاناً من قماش رقيق وناعم انكشف تحت أصابعي، فشعرتُ برعشة باردة تسري في أوصالي، لم تكن لذيذة هادئة بل عنيفة هادرة اجتاحتني، تغلغلت في مفاصلي ثم اصطدمت بإرادتي، وبدّلت راحتي التي كانت قبل لحظة دافئة إلى قطعة جليد ميّتة، وغشاوة ثقيلة أبقت على ما بقي في وجهي من ماء الحياء.
فتحتُ عينيّ، لم أجدها، سمعت كلمة واحدة تردّدت ألف مرّة:
ـ وأنت أيضاً، وأنت أيضاً، وأنت أيضـ.....
لم أفهم ماذا عنت بـ "أنت أيضاً"، طارت من بين يديّ.
مثلما تأخذني الحالات في غالب الأحايين أخذتني إليها هذا المساء أيضاً، رأيته من بعيد يترصّدني في آخر الشارع، قلت: ها قد جاءك من لا يرائيك.
هل أستقبله ببشاشة، وأفرغ بين يديه همّي، وأبثه ما يعتمل في صدري، أم ماذا؟
ومثلما يفعل في كل مرّة اكتسحني، وأطلّ بعينيه المظلمتين والابتسامة الجريئة لا تفارق شفتيه، تمنيت لحظتها لو أستطيع تمزيقه إرباً.
أعرف أنه سينقلني بسخريته اللاذعة من طيف حاجتي إلى حقيقة أسعى إليها بين يديها، وأجاهد بأنفاسي وروحي كي ألمسها، سيأتي ويسقطني بصلف في فوهة بركان انطفأ لهيبه منذ لحظات.
ـ عدتَ من جديد.؟!
هي المرّة العاشرة التي أعود فيها، والمرّة العاشرة التي يبادرني فيها بسؤاله الساخر ذاته.
ـ روحي معلّقة هنا..
ـ تتوق إليها أليس كذلك؟
أتوق إليها كلمة صغيرة، حاولْتَ أن أعيش حياتي دونها وأنسى فلم أقدر، أتراني قسوت عليها أم على نفسي؟ أم تراني مخلوقاً لغير هذا الزمن.؟ أم تراها تطوف في عالم ليس لها.؟
ـ ويوم وجدتها حاولت.!!
ـ أصابعي حاولت، تمنّت، كيف أستطيع الصمود أمام سحرها؟ يا صديقي أنت أدرى بروحي لأنك تعيش فيها، وأدرى بكل خفقة تتردّد في صدري تتوق إليها، لم أصدّق أنني في لحظة سحرية خاطفة وجدتها فاجتاحتني رغبة التملّك.
آه يا صديقي لو أنها تغفر لي..!
كان يضحك بسخريته اللاذعة، قال شيئاً عن النضوج، فتىً مثلي لا يملك غير رغبات التملّك والأنا لا يستحقها. قال:
ـ جاءتك بغلالتها الشفيفة، لكنّك لم تفهم.
عشت عمري لا أفهم شيئاً مما يدور حولي، وُلدتُ من رحم لم أسأله ولم يسألني، وحين ترعرعت قليلاً أحدهم قال أنا أبوك.. فأحببته.
آخر قال عليك أن تتعلّم فتعلّمت، ثم بدأت الأشياء والناس والأحداث تتدفّق فرادى وجماعات إلى نسيجي، تتقاسمني وتدخل إلى مسامات جلدي.
فتحت عينيّ على هدهدات أمّي فتعلّمت منها الحنان، ضربني صبيّ أكبر مني سنّاً فتعلّمت منه القسوة، عاقبني المعلّم فتعلمت مبادئ العقاب، ولم أدرك تعلّم مفردات الثواب.
كبرت أكثر، أخذتني زحمة الحياة، صرت عرضة لتجارب أكبر فرضتها عليّ غريزة البقاء والحماية والخوف.
أحببت وكرهت، ظُلمتُ وظَلمت، جاءتني رياح بعيدة قلعت جذوري من حديقة بيتي، فتعلّمت الحقد، قهروني فاهتزّ انتمائي، تنفّستهم جميعاً رغماً عنّي، فانحشروا في عروقي، فتشكّلتُ على الصورة التي أنا فيها الآن، أجزاء صغيرة تجمّعت من هياكل كبيرة ارتشقت على أرض خواء وأخرجت بتراصّها الواحدة إلى جانب الأخرى شيئاً أسموه أنا.
المدهش أنني وسعتهم جميعاً.! أصبحت مائة قطعة في جسد واحد، مثل ظبية كانت جميلة في حجمها الحيّ، ثم ضاعت معالمها وأخذت شكلاً أسود قبيحاً لقطيع نسور تجمّعوا فوق جيفتها.
هكذا أنا أصبحت.
ـ يا صديقي لقد جاءتني بغلالتها الشفيفة.
ـ ولم تتعلّم.!
ـ تعلّمتُ، ولكن هؤلاء الذين يسكنونني سبقوني إلى أصابعي ففعلت ما فعلت.
ـ لو انتظرت قليلاً كانت حرارة اللقاء ستقودكما دون أن تدريا إلى ما تصبوان إليه.
ـ ما الفارق؟
يوم عرفتها قالت: إن ثمّة فوارق كثيرة بين من يحب ويسعى صادقاً نقيّاً إلى من يحب، وبين من ينشد مغامرة عابرة، أن تتوق إلى من تحب شيء، وأن تفهم حقيقة من تتوق إليه شيء آخر، لكنني ما فهمت.. حاولت، ثم تسللت أصابعي دون إرادة منّي، وندمت.
ـ ساعة لا ينفع الندم.
ـ أنا صنيعتهم.
ربما أكون صنيعتهم، يعلم الله أنني لم أشأ، ناضلت بكل ما أملك من قوّة كي لا أكون لكنّهم غلبوني.
ثم تعلّمت أعضائي منهم الدرس تلو الدرس، رفضتهم، وما أزال أرفضهم لكنّهم دخلوا نسيج خلاياي وأصبحت عبداً لهم ولرغبة تلح عليّ ساعة بعد ساعة.
ـ أنت مثلهم، علّموك أن تعلّق خطاياك على مشاجب الغير.
يطلّ علينا بيتها من بعيد، رأيتها تقف فوق لوحتها الرخاميّة، على رأسها إكليل الغار، وبيدها الممدودة مشعل تضيء به المشارق والمغارب، رأيتها فسبقني قلبي.
ـ تمهّل أيها المجنون.
أعرف أنني مجنون بها، أعشقها، ليس لي خلاص إلا على يديها، ولكن، ولكن.!؟
اقتربت منها، كان صديقي المعشش فيّ يحاول أن يشدّني إلى الوراء ليسبقني إليها.
فجأة.. سقطت العتمة من أمكنة كثيرة أطفأت أضواء الشارع والشعلة وبريق اللوحة الرخامية، إكليل الغار وحده بقي يرسل موجات بريق مثل منارة مقبلة على الانطفاء.
أحسست بألف جسد حيّ يخرجون تباعاً من مسامات جلدي، ورأيتهم.
رأيتهم بعينيّ هاتين يطبقون عليها، ويغتصبونها الواحد تلو الآخر، وهي تحاول أن تصرخ، تستغيث، وأنا أقف على مرمى صرختها أراقب مشلولاً مكبّلاً صديقي وهو يسبق الجميع، يطبق بسخريته ومثاليته الفجّة على صرختها المفزعة.
يااااه.. مضى دهر قبل أن تهدأ نفسي، ويهدأ الصخب من حولي.
عادت إلى لوحتها الرخاميّة، وعاد المشعل إلى يدها منيراً يضيء المشارق والمغارب، الغلالة البيضاء وحدها تمزّقت، وصوت صديقي يشارك صوتي وأصوات المئات الذين عادوا منهكين إلى جسدي.
كلنا صرخنا في وقت واحد.
ـ نتوق إليها. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: لؤلؤةٌ تُغادرُ محارتَها السبت يوليو 31, 2010 8:17 pm | |
| لؤلؤةٌ تُغادرُ محارتَها ـ أنا هنا يا سلمى.
لا شيء يقف حائلاً بيني وبين رؤية أقصى المسافات، وأنا أقف تماماً على زاوية الشارع الذي كان.
حتى ما كان يختفي عن ناظريّ وراء جدران البناء، أراها الآن بعد أن أصبحت معالم البناء مفرودة على أقصاها، كنت أحسبها بعيدة، بعيدة لن أصلها وأكتشف خباياها إلا بالسباقات التي نقيمها.
نقف مجموعة من الفتيان في هذا المكان بالذات، وننطلق اثنان بالتتالي، كل واحد باتجاه، ثم نعود نلتقي في المكان الذي انطلقنا منه، أيّنا يصل أولاً هو الفائز، ندور دورة كاملة حول البناء الكبير الذي يحتل وسط المنطقة وتحيط به أربعة شوارع تغصّ بالمحلات التجارية والفنادق ودار سينما وعشرة مقاهٍ.
ـ كيف لا أعرفه ولا أذكره؟
كنت الأسرع بالجري أسبق الجميع، وأعرف كيف أتفادى الاصطدام بالناس.
صغيراً ما تجاوزت العاشرة من عمري، نحيلاً ضئيلاً لكنني أملك ساقين كساقيّ غزال كما كانت تقول أمي عندما أعود إليها مساء متّسخاً وآثار التراب على ركبتيّ، والثآليل على سلاميات أصابعي، وبنطالي القصير مفتّقة جيوبه، تكتشف دون عناء أنني كنت ألعب في الحواري المحيطة ببناء البلدية.
نتسابق فيما بيننا والمكافأة لمن يسبق دستة "بنانير" نجمعها من بعضنا.
أفوز بها في كل مرة، أتقاسمها مع صديقي أنور، نترافق إلى الحارة الغربية نتحدى فتيانها باللعب بالبنانير. لم أكن بارعاً مثل أنور في إصابة الرؤوس الزجاجية الصغيرة عن بعد، يلفّ البنّورة بين أصابعه، ينوّس عينه الواحدة ويطلقها قوية صائبة، وكلما أصاب هدفاً يبتسم ويهمس:
ـ قتلتُ واحداً.
هل كان حقّاً يا سلمى يقتل واحداً كلما أصاب رأس بنوّرة معادية؟
نلعب ونكسب، نجمعها عشرين أو ثلاثين بنّورة نصرفها عند دكان (أبو منذر) بقرشين، نشتري بهما شطيرتين محشوتين بالزعتر الأخضر، نأكلها بتلذّذ ونعود إلى حارتنا القريبة منتصرين.
أذكر مرّة خسرنا، تسابقت مع فتى ووصلت قبله إلى نقطة انطلاقنا كالعادة وسبقته، جمعنا بنانير كثيرة ومضينا إلى الحارة الغربية، لأول مرة نشاهد بين الفتيان الذين نعرفهم فتى لم نره من قبل، يبدو أكبر منا سنّاً، ضخم الجثّة وقوي البنية، نظر إلينا شذراً وأخذ منا بلحظات كل ما جمعناه من بنانير.
يومها ونحن في طريق عودتنا خائبين إلى حيّنا همس أنور في أذني:
ـ لا تخبر أحداً بخسارتنا.!!
علّمني أنور أن لا أقول الصدق، ومن يومها بدأت أخترع فروقاً بين كذبة بيضاء وأخرى رمادية.
ـ أنا هنا يا سلمى.
أقف في المكان الذي اتفقنا أن نلتقي فيه.
هل تذكرين يوم سألتني؟
ـ هل تعرف بناء البلدية؟
ـ أنا الذي أعرفه.
ـ وفندق النجمة القريب منه.؟
ـ نعم..
ـ نلتقي هناك، في نيسان شهر الربيع، يوم الأربعاء الساعة الخامسة مساءً.
ولم أصدّق..!
بعد خمس وعشرين سنة سنلتقي ثانية.َ
منذ افترقنا قبل ربع قرن، خرجتِ متأبطة ذراع من أحببتِ، وأكملتُ أنا تعليمي.
تزوجتِ وانقطعت أخبارك.
لم أبحث عنك..! فبعد الذي كان بيننا، بل الذي كان بيني وبيني، هكذا بسهولة تخلّيتِ عني، أدركتُ أنه اختيارك فقتلت في قلبي خيبتي وحزني، ومرّة أخرى علّمتني الأيام كيف أنساكِ.
أخذكِ الحلم إلى بلاد الداخل، وأخذتني الحقيقة إلى بلاد الشتات. كلانا لم نستطع تحقيق حلم عودتنا إلى مدينتنا.
وما زلتِ أيضاً تذكرين ذلك البناء.
بناء البلدية.. نحن فقط من أطلق عليه هذا الاسم، كان يا سلمى مرتع صباي، في بيت يقع في حارة جنوب البناء ولدت، وترعرعت بين تلك المعالم.
المحلات الزاهرة كانت تشدّنا بدهشة للتفرج على واجهاتها البرّاقة، وإعلانات السينما الوحيدة، وقرقرة نراجيل المقاهي متعتبة الأرصفة، والبناء الشاهق ذو الطابقين بحجارته البيضاء، تزيد من رهبة صمته.
نوافذه مغلقة، وأبوابه موصدة ومحروسة، كنا صغاراً ولم نكن نعبأ بذلك كله بل يأخذنا اللعب.
نسمع من أهالينا أنه بناء مخيف، مربّع وهو يحتلّ مساحة كبيرة جداً وسط المدينة، نسمع أن في غرفه الكثيرة تسكن الحكومة، الداخلية والخارجية والصحة، حتى المحاكم والشرطة وغرف التحقيق وسجلات النفوس والمصارف، وفي قبوه السجن.
يوحي لنا بصمته المطبق أن القرارات الكبيرة تطبخ فيه، ومنه تخرج القوانين والتعليمات ولم نكن نعبأ. لم نكن نفهم ما الذي يجري.
نراقب رجالاً متأنقين، تعلو وجوههم حمرة العافية، بزّاتهم جميلة وأحذيتهم لا تشبه صنادلنا المقطّعة، يدخلون ويخرجون، سيارات فارهة تقف وتمضي، رجال شرطة يسوقون رجالاً يجرّون بين أقدامهم المتعبة قيوداً ثقيلة
إلى داخله.
كنت وأنا أجري حول بناء البلدية لا أعير انتباهاً إلى بواباته الكثيرة على واجهاته الأربع، موصدة دائماً وأمامها يقف حرّاس غلاظ في كل مرّة ينهرونني ولا أبالي بهم.
عرفتكِ في الجامعة التي انتسبنا إليها مصادفة أنا وأنتِ في تلك المدينة الواقعة على حدّ حلمينا بعد رحيلنا الأول، يومها عرفت أيضاً أنك من مدينتي تلك، من حارة تقع شمال بناء البلدية.
لو تعلمين ما عانيتُ حتى وصلت إلى هنا كي ألقاك.!! عبرت مدناً كثيرة، وحصلت على تصاريح عديدة، وفي كل نقطة وكل حاجز كانوا يوقفونني ويحققون معي.
من أنت؟ إلى أين؟ ولماذا؟
ويفتّشون حقيبتي، يبعثرون ما فيها من ملابس خاصّة قليلة، وأوراق يتفحّصونها بحرص ويقرؤونها، ويسخرون.!!
رسائلنا يا سلمى، كل حرف كتبناه وتبادلنا بوحه خلال أشهر ثلاثة، القشّات الصغيرات التي بنينا منها عشّنا الدافئ، نوبات جنوننا، الغيرة، الشوق، ها أنا ذا أعود وأجمعها قشّة قشّة.
لم أجرؤ أن أقول إنني عائد إلى مدينتي مسقط رأسي وقد غادرتها سنوات لا تحصى.
أنتِ عدتِ.. عدتِ إلى الداخل الأعمق، حملت هوية زرقاء وبيضاء، صار تنقّلك أسهل حتى متى رغبت في زيارة مدينتا أو أبعد، فالأمر بسيط ودون تصريح، ولا تأشيرة، تبرزين تلك الزرقاء فتستقبلك الوجوه السمراء بالتحيّات.
هل تعلمين كيف وصلتُ إلى هنا؟
في آخر حاجز أوقفوني، كفّ مرفوعة تمنعني حتى من السؤال، وكلماتهم لم تزد عن "ممنوع."
هل أعود أدراجي ولم يتبق لي ما يقيمني على الحياة إلا ساعة ألقاك؟
ـ وأين سألقاك يا سلمى؟
ـ في مدينتنا، أمام فندق النجمة قبالة بناء البلدية.
أحببتكِ يا سلمى، وكم شعرت أنك قريبة مني حدّ الانصهار يوم كنتُ أراك في كل صباح أجمل بنات الجامعة، شعرك الكستنائي يستلقي على كتفيك بفرح، نظراتك المشوبة بلون عينيك العسليتين تبعث إلى روحي أحلى الكلام، كراريسك الخضراء تعانق صدرك فأحسبني أتعلّق على حدّها وأتمنى لو لا أغادر.
كنتُ يا عمري أقصد الاقتراب منك، أفتح صدري وأشمّ رائحتك تأخذني على جناح حلم ساحر إلى عبق مدينتنا، أقترب منك أكثر أقيس طول قامتي فأجدها تماماً كما طول قامتك، أقول في نفسي: وكأننا خلقنا لنكمل بعضنا.
أحببتك لكنني لم أجرؤ يوماً على البوح، كيف لم تقرئي حبي لك ينبض من بؤبؤي عينيّ؟
ولحظة تأبّطتِ ذراعه وغادرت من أجله الجامعة والمستقبل الذي رسمنا لـه في خيالاتنا البعيدة صورا زاهية، سألتكِ بصوت لم يخرج من قفص صدري والدمعة تخطفني إليك:
ـ إلى أين يا سلمى؟
أجابتني نبضات فرحك:
ـ هو فارسي، أعود معه إلى مدينتنا.
وغادرتِ.. يومها قرأتُ في عينيك سعادة طافية على جناح خيبة.
كيف لي أن أعرف أنه استشهد بعد سنتين من زواجكما؟
كيف لي أن أعرف أنه ترك لك مسؤولية طفل معوّق؟ بل كيف لي أن أعرف أين أنتِ لولا ذلك الحرف الساحر الذي اتكأ على نبرة.!!
هل تذكرين؟
كنت تكتبين حرف همزة اللؤلؤة على نبرة "لؤلئة"، أقول لك:
ـ بل على الواو.
تجيبين والابتسامة الساحرة تداعب طرفي شفتيك:
ـ أعرف لكنني أدلّلها وأضعها على سرير بوح..!
مصادفة قرأت قصّة على شبكة الإنترنت، شدّتني كلمة لؤلئة همزتها الثانية على نبرة مكررة ثلاث مرات في نص قصة مذيّلة باسم "محارة..!"
قلتُ بل هي سلمى، وخفق قلبي بشدّة.
بحثت عن عنوان لك فلم أجد، كتبت تعليقاً على قصّتك وقصدت أن أشير إلى اللؤلئة.
ـ همزة اللؤلؤة تكتب على واو، أم أنك تقصدين تدليلها ووضعها على سرير بوح.
وتركتُ على ذيل الرسالة اسمي وعنواني.
بعد ساعات رفرفت على الشاشة أمامي رسالتك، كلمات قليلة لكنها أعادتني من موتي.
ـ أنا سلمى، أسعد، أنتظرك.
وتتابعت بيننا الرسائل حتى أثقلنا البريد ذهاباً وعودة.
عرفتُ منكِ عنكِ، وعرفتِ مني عني.
لماذا تأتي معرفتنا متأخرة دائماً؟ لماذا لم أعترف لك بحبي؟ لماذا لم تعترفي أنتِ؟
لم تكن فصول حياتي متعبة ولا معقّدة فقد تزوجت أنا الآخر، وها أنا ذا أعيش وحدتي القاتلة في بلد بعيد، أسرتي الصغيرة تفرّقت بسرعة عجيبة، بناتي الثلاث تزوجن ورحلن مع أزواجهن إلى حياتهن، زوجتي أيضاً غادرت الدنيا بعد أن أنهكها مرض عضال، وأنا بعد أن اقتربت من عامي الستين أنتظر التقاعد من وظيفتي.
لماذا على البعد يا سلمى اسفح الآن بين يديكِ كل ما تراكم في صدري من شجون عبر رحلة عمري؟ وما بقي على سطح ذاكرتي غير ذكرياتنا أنا وأنتِ، بل ذكرياتي أنا.
كتبتُ لك بوحي، قلت لك كم كنت أحبك وأتمناك رفيقة لعمري، الآن أقولها لك بعد أن أخذتك الأيام بعيداً، وأخذتني أبعد، وبعد أن قطعنا أنا وأنت رحلات متراكبة من أحلام حسبناها منتهى أمنياتنا.
ترانا بعد أن فقدناها بدأنا نعزّي روحينا بأنها لم تكن سقفاً لطموحاتنا؟
لماذا بعد أن أصبح لقاؤنا مستحيلاً أعترف لك، وتعترفين لي؟
ـ لو قلتَ لي أحبكِ، لما اخترتُ غيرك.
لكنني لم أقل، كنت أحبك بصمت وأعرف أنني ربما لن أصلح أن أكون فارسك.
شاب فقير، بلا أسرة ولا وطن ولا بيت ولا شهادة ولا مستقبل كيف يمكن أن أنظر إلى أحلامي؟
ـ كنت أحسّ بكَ.. ألف مرّة سألتك لو تقول فقط أحبكِ لما اخترتُ غيرك شريكاً لحياتي.
لكنّه قالها لكِ فتركتِ الدنيا وتبعته.
ـ ربما تكونين مثلي تلهثين وراء الحلم المستحيل.
ـ لم يعد مستحيلاً يا أسعد.
ـ بل هو عين المستحيل.
وكيف لا يكون وأنت هناك، قريبة من بناء البلدية لا يفصل بينكما غير شارع عريض يلتفّ ويدور ويمضي بعيداً لا يقصيكِ لكنّه يبعدني أنا، ويقيم في وجهي ألف حاجز وألف مستحيل.
ـ حبيبي سنلتقي، سأقاتل بروحي، أعلّقها على حافّة هذه الزرقاء التي بين يديّ وأستعيدك.
وصار الحلم أقرب وأشهى، بدأت حجارة بيضاء لبناء جديد ترتفع في رأسي وصدري شيئاً فشيئاً، نلتقي.. هل أصدق بعد كل هذه السنوات العجاف نلتقي؟
هل أراكِ؟ سلمى، تلك التي تفتحت بين عينيها قصة حبي الأول، ثم اعتصر النسيان روحي وأنسانيها.
هل أنا أسعد ذلك الذي جفف الخوف لسانه، فلم يجرؤ على النطق بكلمة ذات وقت ربما تمثّلت فيصلاً بين
حياة وحياة.
ـ نلتقي يا سلمى.
هل يكون اللقاء آخر حلم يختال مزّهواً وراء شاشة عذاباتي؟
ـ نلتقي يا سلمى.
ـ نلتقي يا أسعد يوم الأربعاء الساعة الخامسة أمام فندق النجمة.
لو تدرين يا سلمى كيف تراكضت الصور في فراغ وحشتي.. نلتقي؟
ثم ماذا.؟ هل نسكن غرفة في فندق.؟ ثم ماذا يا سلمى؟
بيني وبينك هويّة زرقاء تبعدك عني وعن النهر وعن بناء البلدية، وأمامي ألف حدود مغلقة أمام وثيقة إقامة تبعدني عنك وعن بناء البلدية.
ـ أحتاجك يا أسعد.
ومن قال إنني لا أحتاجكِ أيضاً؟
ثلاثة شهور، وتلال من الرسائل بيننا لم تتوقّف، لم يكتبها عاشقان بنزيف أشواقهما قبلنا، ولن يكتبها بعدنا أحد، كتبناها بعجين أعصابنا وأوتار قلبينا وصيرّناها حقيقتنا الساطعة، فصيّرتنا عاشقين لم تسجل الأسفار ولا خيالات المجانين مثل سيرتنا.
أعرف شعور وحدتك وحاجتك، فهي مرآة لوجع شعوري الذابح بالوحدة، وحاجتي.
ثم ماذا يا سلمى؟
ترانا لو التقينا هل نستطيع تحمّل الصمود أمام فكرة فراقنا من جديد؟
وكيف نبقى معاً نرفض الفراق وكل العالم يرفع في وجهنا لاءاته المقيتة؟!!
ـ أنا هنا يا سلمى.
أقف في ركن المكان الذي كان بناء البلدية يشغله زحمة وحركة وحياة، لا شيء أمامي غير الفراغ.
ساحة شاسعة واسعة، وبقايا أنقاض لا أرى بينها المقاهي ولا السينما ولا فندق النجمة.
كأنها جميعها أزيلت على عجل ولم تترك بعدها أثرا.
أقرأ من مكاني الذي أقف فيه كل التفاصيل التي كانت غائبة وراء الجدران وضجيج الشوارع وبريق المحلات وأصوات الناس ونراجيلهم.
لا شيء حولي غير الفراغ.. لا شيء، فراغ، فراغ..
حتى معالم الحارة الجنوبية والشمالية لم تعد تطابق تلك التي تلتصق إلى الآن بتفاصيلها في تلافيف ذاكرتي
ـ أين أنت يا سلمى؟
نظري المتعب يحاول رسم صورتك الجديدة الآتية إليّ عبر حلم قفز ذات وحشة على شاشة مضيئة.
رباه.. هل أنتِ؟
ربما أنتِ ذلك الشبح البعيد؟
أراكِ من مكاني هذا، ما زلتِ يا عمري ترتدين قميصك الوردي، وتزينين شعرك الخروبي بشريطة حمراء، وتتأبطين كراريسك الخضراء.
هل أنت تلك الواقفة بعيداً في ركن الساحة القصيّ؟ هل أنت التي تنتصبين مكان بناء البلدية؟
وهل أستطيع إتقان الجري.؟ أسابق أترابي إليكِ، ولا أعبأ بكومات البنانير؟
سلمى.. سلمى.. س... ل... م.... ى..!!!!!!!
لم أعد أدري؟ هل جفّ صوتي؟
أم أنني أرى لؤلؤة تعود إلى سجن محارتها وتغرق في بحيرة سراب؟ | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: نخيلة السبت يوليو 31, 2010 8:20 pm | |
| نخيلة يضحك..!
كان يضحك، دائماً يضحك.!!
لم تكن تشبه تلك الضحكة العجيبة التي أطلقها يوم اكتشف أنوثة فاطمة.
ضحكة تشبه البكاء، شنّجت أسارير وجهه، فضاعت التفاصيل بين ضحك سخيف، وبكاء مرّ.
حَسبته يبكي، يعصر جلدتيّ خدّيه فتلتصقان بجبهته من ناحية، وبأطراف أذنيه من ناحية، تتركان فسحة أكبر لفرجة فمه، فتبرز أسنانه كسنابك جرّافةٍ مقبلةٍ على هدم جدار، تغيبُ عيناه تحت فوضى حاجبيه، فلا أفرّ ق بين بكاء وضحك.
بعد أن اقتربت منه أكثر أدركت أنه ما كان يكف عن الضحك السخيف، أبداً.
بعد ثلاثين سنة ما يزال يذكرني.!
رفع ذراعه ببطء شديد، وقبل أن تلمس أطراف أصابعه اليابسة معطفي النظيف، ارتخت بإعياء إلى جانبه كفرع شجرة نخرته الديدان، فسقط.
ـ هذا الجسر اللعين يأخذنا إلى الضفّة الأخرى.
أتساءل ببلاهة.
ـ وهل يمكن أن يأخذنا إلى غير الضفة الأخرى؟
كنّا صغيرين، ماذا يمكن أن تعلّمنا قرية مثل قريتنا وكل ما فيها فراغ..! حتى الطيور لا تأتي إلا في المساءات لتستوطن عبّ النخيل، وتغادرنا مع أول الصباحات.
يلتصق على حافة سور الجسر الحديدي المتهالك، كأنه ما فارق مكانه منذ ثلاثين سنة، أراه هكذا، مكمّلاً للوحة المكان المفتوح كلما تراءت في خيالاتي صورهُ المتتالية في عشرات الليالي المتعبة.
سهل منبسط، كأنه حصيرة "أم مهران" المزركشة الألوان يتخلله نهر، ليس بنهر، هو جدول عريض قليلاً، يركبه ذلك الجسر، يصل بين ضفّتين ضيقتين.
أشاهده بقامته الطويلة النحيلة يغتصب خلوة الصورة الصامتة، ويزحف إليها كأنه امتداد للسهل، أو كأنه نبت فجأة على سور الجسر راية بنيّة اللون تخفق على سارية لا تغادر مكانها، حارسة بحذر معبر الجسر.
مهران..!
ولد كما تولد الأطفال، وترعرع مثلي في حواري القرية اليابسة الراسية بكسل على شاطئ سهل شاسع واسع مترامي الأطراف، ينتهي في شرقه الأقصى بصحراء جفراء.
هي الصحراء التي سكنتُها ثلاثين سنة، لم ألتفت في يوم إلى السهل الغربي، ولم أنتبه إلى بنايات شاهقة، معامل ومصانع، بيوت ومنتزهات تنتشر بسرعة الحريق، تكسر وهي تنتصب رحابة السهل، وحبر الألوان، وتقيم سدّاً، عالماً آخر، دنيا جديدة بين هنا القاحل اليابس، وأطراف الصحراء الجفراء.
كانت تلك الجهة ممسوحة من ذاكرتي وأنا أخبّ سعيداً بين بئر وبئر، جيوبي متخمة بأوراق نقد خضراء، وصدري يلتقط بحذر حبيبات سوداء هي الأخرى تبني في قاعهِ وسادةً عفنة.
حاولت أن أسمو فوق وجعها ذات يوم، فلم أستطع، تمكّنتْ مني، وقبل أن تعلو صرختي، كتموها، وألقوني في عبِّ مهرجانات تلك المدينة الباذخة.
كنا صغيرين، نخلق ألعابنا من نتف أشياء.
كبرتْ فاطمة أيضاً، تكوّر في صدرها ناهدان، صارت عيناها تذبلان كلما نظرت في وجه مهران، وحمرة تعلو سمرة وجنتيها.
يومها أيقظني باكراً على غير عادة.
ـ فاطمة يا صالح..
ـ فاطمة؟!!
صوته يأتيني كأنه يخرج من حلم، وضحكة ساحرة تشدّني بدهشة إلى ليلة أولى تحت كثافة النخيل، يكتشف فيها فاطمة أخرى، غير تلك الصغيرة المشاكسة التي كانت تطاردنا كلما سخرنا منها.
ـ فاطمة يا صالح، مثل نخيلة..
أيّ جنون هذا؟ فاطمة ونخيلة في قرية لا تنبت فيها وردة؟
ـ لماذا لا تزرعين وروداً يوووم (*)..؟
كانت تدسّ بذوراً في تراب أثلام خفيفة، وتطبطب عليها كأنها تهدهدها.
نظرتْ في وجهي بسخرية، وضحكت، وعادت تطبطب على بذورها.
ثوب بني متّسخ طويل قد يكون ثوبه القديم بعد ترقيعه بوصلة قماش بنيّة أخرى، يزحف أكثر من شبرٍ على الأرض، فضفاضاً فوق ساقيه النحيلتين، يلبسه فوق عريه الكامل كما كنا دائماً في جحيم هذه القرية، فيبدو كمستطيل ليس لـه ثنيّة، لولا رأسه الصغير البارز من أعلى الثوب، يعلن عن حياة كائن ما فيه.
منذ متى لم آت إلى هذا المكان وفيه ترعرعت.؟
كانت تأخذني أمي عنوة من بين أترابي عندما يقترب المساء، تجرّني معفّراً متّسخاً من ياقة الثوب الطويل الذي يرتديني، إلى ذلك الجدول، تدفعني إلى الماء الضحل، وتبدأ بممارسة أحلى هواياتها وهي تغطّس رأسي بالماء وتفرك يديّ وقدميّ، ثم تنشّفني بطرف ثوبها الأسود، فأغرق طويلاً في رائحته التي ما فارقتني حتى عندما كنت أتمشّى أنيقاً في شوارع المدينة الباذخة.
مهران يجلس القرفصاء تحت دكّة الجسر يتابعنا ويضحك.
ما زالت القرية بائسة كما تركتها، كلّ ما تبدّل فيها وجوه الناس فقط.. حتى ملابس الذين طوتهم تربة هذا السهل ما زالت هي التي تتحرك، توارثوها.!
ماتت أمي ولم يدلّني أحد على قبرها، قالوا: ماتت فقيرة عاجزة لم تجد من يقطّر نقطة ماء في نبضة روحها الأخيرة. قالوا:
ـ وماذا يعنيك منها الآن.؟
ـ حقاً.. ماذا يعنيني منها الآن.؟
لو بكيتُ على قبرها؟ لو قلت لها سامحيني يا أمي؟ لو نبشت التراب الذي أكل لحمها الدافئ؟ ماذا يعنيني وقد تركتها وحيدة عندما اشتدّ عودي.
قرية بائسة، كل ما فيها تراب ونخيل وجدول وسهل بعيد المرمى ليس لي فيه شبر واحد، ورايات سوداء تشي بشعائر نسوة يخفقن متعبات مكدودات يعملن دون كلل، ويتحركن خفيفات في أزقّتها الترابية، وبيوت من طين كأنها حظائر، ورجال كسالى لا يفارقون عتبات البيوت.
وهذا الجسر المتهالك.!!
يا للسخرية.! صار أكبر من القرية وناسها ونخيلها، ثم ذات فجأة صار اسمها.
قريتنا صار اسمها قرية "الجسر" وكيف لا تصير وليس فيها أيّ معلم مرموق يعرّف عنها؟ وهو "الجسر" فوق ذلك كلّه المعبر الوحيد إلى تلك الصحراء السوداء.
ـ كيفَ أسميها نخيلة يووم..؟
كلما سألتها ساخراً، تجيبني بهدوئها القاتل:
ـ يا صالح يا بنييي، قريتنا اسمها نخيلة.
ـ نخيلة يووم؟
ياااه.. هل كان عليّ أن أقتل ثلاثين سنة متنقّلاً مثل وطواط بين بئر أسود وآخر أسود كي أفهم؟
غابة متراصّة من أشجار النخيل تظلّل قوتَ يومنا المباح، وتقيم سدّاً في وجه ريح غربية لم تجد لها في أيّ وقت طريقاً لمسح طفحة عرق عن جبين أمي المكدود، وتسميها بتعبها المرّ.. نخيلة.؟
لم أكن أدرك أنها كانت تدلّلها كما تدلّلني وتناديني، يا بنيّيي(**).!
أقول لها:
ـ قولي يا إبني، قولي صالح.
ـ بنيّيي أحلا، أرى فيك صالح، ذلك السند الآتي، ونخيلة غداً تكبر وتصبح نخلة.
ماذا أقول لها لو دلّني أحد على قبرها؟
يوم أخذتني تلك القافلة التي عبرت قريتنا تركتها تبكي بصمت، وتداري دموعها بطرف ثوبها الأسود.
كنت فتيّاً قويّاً، سألني بلكنة غريبة لم أفهمها بادئ الأمر، لكنه استعان بإشارات من يديه ففهمت.
ـ تشتغل معنا.؟
وقبل أن أعرف أين وكيف قفزت إلى صندوق السيارة.
نظرتُ إلى مهران، حاولت أن أشدّه معي، لكنّه تسمّر في مكانه.
فاطمة تقف قريبة تنظر برعب، تمسك بيد طرف منديلها الأبيض الطويل، وتحضن ذقنها براحة يدها الأخرى، عيناها غائبتان، تنتظر رعب إفلات مهران من طيف أحلامها.!
تُراه يفعل؟
تُراه يقذف بألف لقاء بينهما تحت أشجار النخيل في عتمة الليالي.؟
تُراه يحذفها أمام إغراء حلم يتعلّق يدي الممسكة بيده؟
رأيت في عينيه نظرة تحمل بريقها ما كانت تغيب منهما، ولحظة أفلتت أصابعي من أصابعه عادت الكلمة القاتمة تصرع رأسي:
ـ نخيلة يا صالح، نخيلة..
بعد لحظات غابت نخيلة عن مرمى نظري، غابت أمي، غاب مهران، كأنني رأيت ثوبه البنيّ الطويل يلتصق بغباء بثوب فاطمة الأسود، غاب الجسر، غابوا جميعاً، فتنفّست الصعداء.
ـ مهران.
لمستُ يده الملقاة على حافة سور الجسر، باردة كما الحديد قبل أن تلهبه أشعة الشمس ساعة ترتفع وتتسلق كبد السماء.
ـ مهران.
كأنني أنادي على سنونوة تائهة في فضاء غريب، تبحث عن حبيبها الضال، ولا يعنيها ندائي.
ـ مهران.
عيناه يابستان تنظران ببلاهة في وجهي، تماماً بين عينيّ ولا يكفّ عن الضحك.
تُراه يضحك؟
كيف ولا أسمع لـه صوتاً.!!
تُراه يبكي؟
وهذه التجاعيد الصاعقة لا تشي لي بشيء.!!
ترتجف صفائح الحديد تحت قدميّ، أحسب الجسر سينهار فأتشبث بالسور بقوّة.
ـ لا تخف لن ينهار..
ـ فاطمة.؟!!
منديلها الأبيض الطويل والثوب الأسود ذاته، تجاعيد أكثر، وظهر محنيّ، وعينان فقدتا بريقهما القديم
ـ أنا صالح يا فاطمة.
ـ صالح، صالح، آه صالح..!
وكأنني لست ذلك النذل الذي حاول قبل ثلاثين سنة أن يكتشف هو الآخر فاطمة الجديدة.
حاولتُ يومها بغفلة من مهران أن أقبض على الناهدين في صدرها فضربتني، أمسكتُ بطرف ثوبها أرفعه عن فخذيها فضربتني أكثر.
كنت صغيراً لم أبلغ السادسة عشرة بعد.
ـ لماذا مهران.؟
ـ وهل أنت مثل مهران..!؟
تركتني أداري خيبتي، وسؤال مرعب يلطم رأسي:
ـ لماذا مهران، لماذا مهران...!؟
المساء يوشك بسط غلالته الرمادية على أرجاء السهل، شاحنات كثيرة تتقدّم صاخبة، تخرج من الغرب البعيد مثل فورة بئر يلفظ جحيمه الأسود، وتخترق غابة النخيل، وتطلّ صاخبة، تخترق أزقة القرية وتمتدّ كأفعى رأسها يصل أوّل الجسر وآخرها.. لا ليس لها آخر.!!
مهران يقف وسط الجسر، كأنه جذع نخله اقتلعتها عاصفة عاتية للتو من الغابة وزرعتها هنا فبقيت على شموخها مورقة يانعة.
لم يدم المشهد طويلاً.
رجل أشقر نزل من العربة الأولى، يحمل على كتفه شيئاً لم يره أحد من قبل، كان يرطن بكلام مبهم، ثم أمسك ذلك الشيء الفولاذي الطويل، وبأخمصه هوى على رأس مهران.
ترنّح الثوب البنيّ، وسقط في حضن فاطمة.
غزيرةً تنزف الدماء من رأسه لكنّه متشبث بقوة بثوب فاطمة وهي جاثية إلى جانبه يحميها بكتفيه والقافلة تعبر الجسر، مجنزرة وراء أخرى، رايات ملوّنة تعلوها، وأمل فاغر فاه يرنو شوقاً لاغتصاب سهل فسيح كأنه حصيرة "أم مهران" زاهية الألوان.
مهران يشدّ على موته.
كلمة يطلقها عشرات المرّات كأنها رصاصات تزغرد من فوهة رشاش:
ـ نخيلة.. نخيلة..
ـ أنا فاطمة يا مهران
ينظر إليها بعينين زائغتين يعقد ما بين حاجبيه بشدّة، يصكّ أسنانه ويطلق بإصرار صرخة مدوية:
ـ نخيلة...
ويصمت.
من يومها وهو على هذه الحال، لم يفارق وسط الجسر، مركوناً كأنه قطعة من حديد السور، ثوبه البنيّ راية على سارية، وفاطمة لم تفارق طقوس خدمته، والسهل يُغتصب لحظة بعد لحظة.
يااااااااه.. كم طال انتظاره واقفاً ثابتاً في ركنه الهشّ، تُراه ما يزال يحلم برجالات قريته يأتونه على كل ضامر؟
أم تُراها تلك القافلة التي عبرت فوق موته هي التي جاءتني ذات مساء وأنا في سوادي المقيم تحمل الماء العذب والطعام الغريب، وكومات من أجساد بيضاء تتلوّى كرذاذ الأسود الذي أغلق ساحة صدري سنة بعد سنة؟
رباه.. سنوات لا تحصى وهو يقف هنا دون حراك، راية بنيّة على سارية ليس لها ملامح، لم ينتبه إليها أحد، ولم يعبأ بها أحد، لكنه هناك ما يزال، يقف مغروزاً كرمح متعب، نظراته صامته، وتقاطيع وجهه بين الضحك والبكاء.
فاطمة تضع في فمه لقمة خبز مغموسة بدبس التمر، ينظر إليها بسؤاله اليومي الذي حَفِظته عن ظهر قلب، وقبل أن يبدأ في مضغ اللقمة الجافرة، تمسح جبينه برفق بطرف منديلها الأبيض، وتهمس:
ـ نخيلة، أنا نخيلة يا خييّي (***)..؟
بحثتُ عن قبر أمّي فلم أجده.!
لم يدّلني عليه أحد.
أم مهران ماتت هي الأخرى، كفّنوها بحصيرتها مزركشة الألوان، ودفنوهما.
ولم يبق من رياح الماضي غير مهران، وفاطمة، وعفن أسود يملأ صدري.
ربما ليست فاطمة؟
ربما هي تلك الـ "نخيلة" التي تنتظرها أمي.
سؤال يرافق خطواتي العائدة إلى لا مكان.
وهل يعنيني.؟
(*) يوووم: أمي بإحدى اللهجات.
(**) بنييّي: بتشديد الياء تصغير إبنيّ، زيادة في التدليل.
(***) خييّي: تصغير أخي. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: نرجس السبت يوليو 31, 2010 8:21 pm | |
| نرجس جلست قبالته متهالكة على المقعد العريض في غرفة الانتظار، تفصل بينهما خطوات.
كانت تتلوى من الألم، تمسك بكفيّها اليابستين أطراف ثوبها الأزرق الداكن، وتحبس أنينها الموجع، فتطفو على وجنتيها الحادتين حمرة خفيفة، لا تلبث أن تتبدّل إلى صفرة باهتة تضيع بين تجاعيد وجهها العميقة.
نحيلة ترتجف، رأسها يتكئ بإعياء على كتفها، وشعرها الموشى بخطوط بيضاء باهتة ينسلّ من تحت وشاح أبيض ملقى على مؤخرة رأسها، تنساب خصلاته بفوضى، تغطّي جبهتها، ونصف وجهها، ولا يخفي أثر جرح قديم يمتد عميقاً من تحت أذنها وحتى طرف عنقها.
على غير عادة كانت عيادة الدكتور رامز خالية إلا منهما، حاول أن يتجاهل وجودها، وراح ينقل ناظريه على الصور الكثيرة المعلّقة على الجدران البيضاء، كان يتألم هو الآخر، لكنّه تعوّد تحمّل الألم، واستطاع أن يروّض نفسه على التعايش مع نوباته القاسية التي تعاوده بين فترة وأخرى.
منذ أكثر من سنة بدأ يشعر بآلام أسفل بطنه من الجهة اليمنى، لم يعر الأمر اهتماماً في البداية، لكن نوبات الألم أخذت تشتدّ وتزداد يوماً بعد يوم.
قال لـه الدكتور رامز، فتق صغير في أسفل البطن، ولا مناص من إجراء عمل جراحي.
ومنذ أكثر من سنة وهو يحاول أن يوفّر المبلغ المطلوب لإجراء العمل الجراحي، وكلّما تمكّن من توفير جزء من المبلغ، تقفز طلبات أخرى ملحّة يراها أكثر أهمية، تفوت الفرصة إثر الفرصة، تمضي الأسابيع، وتترى الشهور، الألم يزداد، والأولويات الملحّة لا تنتهي، وجملة واحدة يلقيها على مسامع زوجته في كل مناسبة توشك أن تضيع:
- أستطيع الصمود أكثر، ويستطيع هذا الفتق اللعين أن ينتظر.
يأتي إلى عيادة الدكتور رامز كلما اشتدّت علية نوبات الألم، يفحصه، يؤكد لـه أن الفتق يزداد اتساعاً وأن العمل الجراحي أصبح ملحّاً، ويضيف إلى تشخيصه جملة يردّدها في كل مرّة:
- عمل جراحي بسيط، وعشرة آلاف ليرة.
يعطيه جرعات من المسكّنات صار يحفظ أسماءها وأنواعها عن ظهر قلب، ويحدّد لـه موعداً لإجراء العمليّة، وفي كل مرّة يخلف موعده.
هذه المرأة المسنّة الجالسة قبالته، تتلوى من الألم، تطبق عينيها، وتشّد على أطراف ثوبها الرثّ الطويل. قرر منذ لحظة ولوجها المكان أن يتنازل لها عن دوره في دخول غرفة الطبيب، ورغم محاولاته الجاهدة لتجاهلها، لم يستطع أن يمنع نفسه من النظر إليها.
في لحظة ألم وتوجّع انتابتها، أدارت رأسها إلى كتفها الآخر، لاحظ مرّة أخرى ذلك الجرح.!!
نوبة ألم جديدة كادت تصرعه هو الآخر، أمسك أسفل بطنه بقوّة كما تعوّد أن يفعل كلما ازداد ألمه، هذه المرّة تلاشى الألم فجأة تحت وطأة جرح تنكّب جناحين حملاه إلى أكثر من أربعين سنة خلت،
هبّ واقفاً، واقترب منها.
ـ نرجس.؟!!
سكب الكلمة في أذنها بصوت خافت.
فتحت عينيها بإعياء، نظرت إليه لحظة، ثم أشاحت بوجهها، ولم تجب.
كان في العشرين من عمره عندما أغراه "نبهان" ابن عمّته الذي يكبره بسنوات عدة لمرافقته إلى ذلك المكان. ولأول مرّة في حياته يخوض تجربة غريبة وعلى قدر كبير من الإثارة.
قاده عبر طرقات وشوارع بعيدة أوصلته إلى عتبات الأحياء الراقية، وقف واجماً أمام باب قبو ساكن تحت بناء حجري كبير من طبقات عدة.
ثلاث طرقات على خشب الباب، اجتاز الدهليز القصير لاحقاً خطوات نبهان، تقفز أمامهما تلك المرأة البدينة، وفرقعة ضحكتها تصله مترعة بالمجون.
تقتحم أنفه رائحة لم يألفها من قبل، كانت مزيجاً من عطر أنثوي صارخ، وعرق أجساد، وتبغ، وقهوة، كلها ترسم في جوف سحابات الدخان المحتلّة فضاء الردهة الضيّقة صورة زاهية لسبع فتيات بعمر الورود، شقراوات وسمراوات مستلقيات بأوضاع لا تخلو من الإثارة فوق أسرّة متناثرة هنا وهناك.
همس نبهان في أذنه:
ـ لك أن تختار من تريد منهن، عشر ليرات فقط.!
"أم زهير" تقف على عتبة باب الغرفة تنتظر متحفّزة قرارهما.
تفرّس في وجوههن جميعاً، كلهن جميلات ومثيرات، لكنّه لسبب خفيّ وقع اختياره على أقلّهن جمالاً.
فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، بيضاء، ملفوفة القوام، على وجهها مسحة طفولة بريئة، تلفّ رقبتها بمنديل أخضر، وقفت باستحياء ومشت أمامه بخطا متعثّرة.
أغلقت وراءهما باب الغرفة بهدوء، التفتت إليه فجأة، وسألته بكلمات جافّة:
ـ لماذا أنا والردهة تغصّ بمن هن أكثر مني جمالاً.؟
ـ لست أدري؟ الحقيقة أنني لا أدري لماذا أنتِ؟
قاطعته:
ـ لا تجهد نفسك، أنا أعرف لماذا.
سكتت قليلاً ثم أردفت بصوت أكثر تحدّياً:
- لا تخدعك براءة وجهي، أنا أكثرهن خبرة بالرجال.
ولم تترك لـه فسحة للإجابة بل راحت تفكّ بأصابعها الراجفة أزرار قميصه.
هل يمكن أن تكون هذه النحيلة الممصوصة الجالسة أمامه نرجس.؟
أين منها تلك التي كانت رغم قصر قامتها تملك تفاصيل جسد مدهش ينبض بالحياة.
كان شابّاً وسيماً، هادئاً معتدّاً بنفسه، قويّ البنية، ينحدر من أسرة ليست ثريّة، لكنّها تعتزّ بحسبها ونسبها، ومحافظتها على مجموعة تقاليد صارمة تتوارثها كابراً عن كابر.
كان بارعاً في التعامل مع الجنس الآخر، حمل خبرات تراكمت من علاقاته الكثيرة بالفتيات.
لم تكن واحدة منهن تشبه هذه المرأة المستلقية أمامه ببرود، ما زالت تلفّ عنقها بوشاح أخضر رقيق لم تنزعه، ولعله الوحيد الذي بقي غريباً بين جسديهما العاريين.
- تفضّل يا أستاذ..
قاطعت ممرّضة العيادة شروده، تمالك نفسه، وأودع تقاطيع وجهه نظرة هادئة متسامحة وهو يشير إلى تلك السيدة متنازلاً بأريحية عن دوره لها.
تابع ترنّح جسدها فوق ساقيها النحيلتين، وهي تغيب داخل غرفة الطبيب.
لم تكن كذلك يوم عرفها، صحيح أنها ليست جميلة الوجه، لكنّه لم يخفِ إعجابه دائماً بتناسق جسدها، كانت تمتلك جسداً ممتلئاً كأنه ذلك الذي تراءى في خيالاته دائماً، وحين عاشرها لأول مرّة أدرك أنها ليست خبيرة في الرجال.
تكررت زياراته لبيت أم زهير، وفي كل مرّة ينتابه إحساس غريب بأنها تنتظره، فلا يختار سواها.
قوّة خفيّة تشدّه إليها، هذا الوجه البريء لا يمكن أن يكون وجه عاهرة.!!
الصمت رفيقهما في كل خلوة، يحسّ بفيض من السعادة وهو يتابع تقمّصها الفجّ لتمثيل دور لم تُخلق لـه، يومها تجرأ وسألها أن تنزع وشاحها الأخضر، لم ترفض، فكّت عقدته ببطء، وأزاحته عن جرح عريض غائر، يمتدّ من تحت أذنها وحتى أسفل عنقها.
قالت وهي تشاغل نفسها في النظر إلى سقف الغرفة:
ـ هل تصدّق.؟ أنت أول رجل يغار من وشاح يشاركه عريي.
وقبل أن يفتح شفتيه تابعت:
ـ في مكان مثل هذا لا يزورنا سوى الغرباء، يأتوننا فرادى يحملون شهوتهم وأوراقهم النقدية، حتى إننا غالباً لا نهتم في النظر إلى وجوههم، كما أن لا أحد منهم ينظر إلى فوق.
أطلقت ضحكة خفيفة، فردت يديها وأردفت:
ـ لأنني هربت من بيت زوجي، أقدم أخي شقيقي على ذبحي، لكنني لم أمت.!!
وخيّل إليه أنه لمح دمعتين تلتمعان في عينيها.
ـ ما اسمك؟
لم يدرِ ما الذي دفعه لهذا السؤال، نظرت إليه بودّ، أمسكت يده، ألقت شالها الأخضر على حافة السرير، انفرجت أساريرها وتمتمت باستحياء:
ـ نرجس.
أم زهير تتقاضى عشر ليرات في كل زيارة لـه إلى بيتها، تتقاسمها مع نرجس، بعد شهر واحد لم تعد تتقاضى أكثر من خمس ليرات تحتفظ بها لنفسها.
صارا يخرجان معاً بين وقت وآخر، يمضيان أكثر النهار سوياً، تتعلّق في ذراعه، ويتحدثان.
هل يمكن أن تكون نرجس هي هي الساكنة في هذا الحطام المطويّ قبالته.؟
كانت تتعلّق بذراعيه كطفلة وجدت ضالّتها بعد طول انتظار، تنام على صدره، تدفن لهاثها المحموم في كلمة لا تكفّ عن ترديدها، أحبك، أحبك، ثم تنتابها لحظات خوف تكاد تقتلعها من صدق ساعة تعيشها.
هل هو حلم.؟
أم أنها حقيقة قادرة على حملها إلى برّ أمان ما زالت تلهث للوصول إليه.؟
هل تغفر لها الحياة.؟
أم أن قسوتها تبخل عليها حتى بتلك اللحظات.؟
كان الماضي بقسوته يسبق خطواتها، يسدّ أمامها سبلاً تحسبها ستصير دفقاً لمستقبل سعيد لن يتوقّف.
زوّجوها من رجل يكبرها بثلاثين سنة، كان مرابياً قبيحاً، دفع ثمنها، وساقها إلى مدينته البعيدة، حاولت أن تقاوم لكنّه سلبها حتى إرادة المقاومة، كل ما فعلته أنها احتست شراباً طيّباً من يده ليلة عرسها، وحين أفاقت من رحلة نوم عميقة، وجدت نفسها بين ثلاثة رجال دفعة واحدة، كانت عارية، ودم بكارتها يتهادى حزيناً على صفحة فخذيها.
قهقهة زوجها "القوّاد" المتربّع على فراش وثير وسط فناء الدار، يخترق النافذة الصغيرة المطلّة على حزنها وهلعها، تحاول أن تصرخ، تستغيث به، لكن صوتها يضيع بين ضحكات المتزاحمين فوقها، وبين قرقرة نرجيلته.
ركعت تحت أقدام شقيقها الوحيد، دموعها تغسل قدميه، لكنّه لم يستجب، زوجها الغنيّ هو الأصدق، ألم يدفع ثمنها مهراً غالياً.!
- قبر البنت بيتها وزوجها.
أليس هذا ما تعلمّه من أسفار القبيلة.؟
هربت..
وكان عليه أن يغسل عاره، ويطهّر شرفه، أشهر سلاحه، وانقضّ على عنقها.
لكنّها لم تمت، هربت إلى أبعد مكان يمكن أن يصل إليه أحد، وساقها موسم الهلاك، والجوع، إلى أول محطّة سهلة قدّمت لها الأمان والطعام، وسقف بيت تغمض عينيها تحت هدوئه.
بيت أم زهير.!!
صدّقها وهو يدرك أن أكثرهن سقطن في ذلك المستنقع بعد قصص تسير في مسارب مختلفة، تتخلّلها غالباً تفاصيل مبالغ فيها، لكنها تبقى بشكل أو بآخر مشابهة لقصّتها.
في عينيها بريق صدق لم يستطع مقاومته، كلماتها تخترق خلاياه، وتستقرّ في ضميره.
ـ نتزوج.!
لم تصدّق ما سمعت، ولم يصدّق أنه قال ما قال.
تلعثمت، ناضلت بكل نبضة في عروقها لتضع على شفتيها كلمات:
ـ أعيش عمري خادمة تحت قدميك.
يأخذها إلى بيت صغير مهجور تملكه أسرته في طرف المدينة، غرفة واحدة وفناء، بعد أيام يصير البيت جنّتهما الأثيرة، وتصير نرجس امرأة أخرى.
في ذلك المساء، تنام على ذراعه، تخفي وجهها على صدره، تهمس:
ـ أسافر غداً إلى بلدي لأحضر أوراقي، أعود بعد يومين على الأكثر، نقيم عرساً ونتزوّج.
تركت متاعها القليل المحشو في حقيبة صغيرة، رزمة أوراق نقدية، ستة أساور ذهبية، وسلسلة رفيعة، وسافرت.
في كل مساء ينتظرها على مشارف الطريق الذي غابت منه.
عشرة أيام، ولا يأتي الطريق إلا بالسراب، يذهب إلى بيتهما الصغير، يتحسس أنفاسها، يشتاق لها، لكنها لا تعود.
يقول لـه نبهان:
ـ نرجس لن تعود.!
ينظر إليه بحيرة، يتوسّل كي يُسمِعه المزيد، يقول لـه:
ـ نرجس لن تعود، قلت لها إن زواجكما سيجرّك إلى كارثة، قلت لها إن أسرتك ستنكرك إن أقدمت على هذا المصير، قلت لها إن مستقبلك كله سيضيع.
بعد سنة تزوج من فتاة اختارتها لـه أمّه، كان في أمسّ الحاجة إلى نقود تكمل مشروع زواجه، باع الأساور والسلسلة الذهبية، وتصرّف برزمة النقود.
ـ تفضل يا أستاذ..
مرّة أخرى تدعوه الممرضّة لدخول غرفة الطبيب.
دخل بخطا وئيدة، التقيا على عتبة الباب، نظرت إليه نظرة عابرة، أسندت يدها على الجدار، ونقلت خطواتها بإعياء.
كان الجرح العميق الموشوم على رقبتها يمرّ من جانبه، يتمسّح على ذراعه، يحمل روائح تبغ رخيص وعطر فاسد وعرق نتن.
الدكتور رامز يصفق كفّاً على كفّ، يحاول أن يفهم كيف يستطيع إنسان مثلها أن يحتمل هذا الألم المبرح.
ـ تحتاج فوراً إلى مداخلة جراحية، التهاب حاد بالمرارة، توشك أن تنفجر، وإذا انفجرت..!
قال الدكتور رامز وعلى وجهه علامات دهشة، سكت قليلاً ثم أردف:
ـ تخاطر بحياتها، وتأبى الرضوخ إلى عمل جراحي لن يكلّفها أكثر من عشرة آلاف ليرة.!!
تحسس رزمة الأوراق النقدية المحشوّة في جيب بنطاله.
أسراب طيور سبحت في فضاء أفق تراءى لـه بعيداً عميقاً غائراً في بطن واد سحيق، بعضها حمل صورة زوجته تتنقّل بين بيوت الصديقات والأقارب، تؤسس جمعية شريطة أن تقبضها أولاً، تجمع عشرة آلاف ليرة، تدسّها في جيبه، وتدسّ معها كلمات موجعات:
ـ هي الفرصة الأخيرة أمامك، غرقنا في بحر من الديون.
أسراب أخرى تحمل جرحاً طموحاً قاتل كي يرقى إلى سماء نقيّة.
سرب كبير آخر يحلّق قريباً، يكاد يلمس جبهته، ولا يغيب عن مرمى عينيه.
رآه يحمل بأرجله الدقيقة أساور من ذهب وسلسلة رفيعة، أحسّ أنها توشك أن تكبّل ذاكرته، تنصّب طازجة على رأسه، تغوص في تلافيف قشرة دماغه المتعب.
أصابع الدكتور رامز تتحسّس بقلق حجم الفتق الساكن أسفل بطنه.
أدار ظهره وتخطى عتبة غرفة العيادة.
صوت الدكتور يأتيه خافتاً سخيفاً:
ـ عشرة آلاف ليرة وتنتهي متاعبك إلى الأبد.
صوت آخر يفرد شراعه أمامه.
عشرة آلاف ليرة وتنتهي متاعبها إلى الأبد.
جدّ الخطا، كانت تجلس على درجة العيادة الأخيرة، تلتقط أنفاسها بصمت لتبدأ رحلة موجعة أخرى لا تعرف إلى أين.
أخرج رزمة الأوراق النقدية من جيبه، وضعها في كفّها وشدّ قبضتها عليها.
خطواته تتسارع على إسفلت الطريق المبتعد عنها وعن عيادة الدكتور رامز، يقبض على ألم صاعق ينتابه بين لحظة وأخرى.
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقف أمام زوجته.
شدّ كتفيه مرّة أخرى، دمعتان بدأتا تتسلقان جفنيه، بينما تسلّقت كلمات من جوفه، قفزت من بين شفتيه صادقة نقيّة:
ـ يستطيع هذا الفتق اللعين أن ينتظر..! | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: نَهارٌ هارِب السبت يوليو 31, 2010 8:23 pm | |
| نَهارٌ هارِب كيف تتدفّق الصواعقُ متتاليةً على صدري بهذه الشدّة.؟ كأنني أفقدُ ذاتي، أحسُّها مثل حباتِ رملٍ تنزلق من بين أصابعي ولا أستطيع إيقاف نزيفها.
رباه..
كلمة وقعت في صدري مثل شفرة سكّين أحسستها تغوص بين رئتي، توقفت قدرتي على التنفّس.
قال بعد ساعات من المحاولات والجهد:
ـ لا فائدة..!
ـ ماذا تعني؟
قلتها ودفقة دم حارّة قفزت إلى حلقي.
ـ لا يمكنني أن أفعل شيئاً لقد انتهى كل شيء.
ربااااه..
ماذا يعني؟
حياتي كلها في هذا الصندوق الأخرس، نزيف قلبي وقلمي وفكري، سهر عينيّ، ووجيب خافقي، روحي معلٌّقة عليه وفيه، فماذا أفعل؟
هل انتهى كل شيء.؟ هل انتهيت..؟
قال وهو ينظر إليّ بأسى:
ـ لملم حوائِجَك منه سآخذه معي.
كيف ألملم شتات ذاتي.؟
المؤشر يعلن لي حزنه، أركض بين الملّفات، أحملها بأسناني وأنقلها من هنا إلى هنا، ألمّها مثل قطّة تلمّ جراءها وتحاول النجاة بهم إلى أرض أمان.
هل هنا من أمان.؟
ويلي...
كأنني ألمّ قطع لحم آدمية منتّفة مرشوقة على جدران وأغصان أشجار.
ألمّها قطعة قطعة،.فهل أنجو بها؟
وهل أعيد إليها الروح..؟
رباااه..
كأنني أجمع مؤونة رحلتي الأخيرة، فوق كل أثر نقطة من عرقي، وقطرة دم من مهجتي.
أصابعي ترتجف، أحاول سلخ الأشرطة المتداخلة، أفكّها ألقيها.
يحملُ أخي الصندوق الأخرس.
لا.. لا ليس أخرس.!! هو أنا.
فيه أنا، روحي ساكنة في تابوته الصامت.
يا إلهي..
محمول بين ذراعيه كجثتي، كأنني أفارق روحي كأنه يخرج من قلب جبيني، يغادرني.
يتيم أنا وما شعرت باليتم قبل الآن، ثم..
تدحرجت من عينيّ دمعات ما قدرت على كبح شوقها ذرفت ترانيم وداعها لتابوتي يخرج من بين أضلاعي.
حزين أنا حدّ الذبح، من أنا إذاً وتستعبدني هذه الخرساء..؟
دفعت ضريبة إبداعي منذ سنوات، أصابعي لم تعد قادرة على التحكّم في خطرات القلم، فوجدت في الحروف البيضاء شعلة بقائي، أكتب وأحشو في هذا الساحر كل خفقة يعزفها قلبي.
قصصي، خواطري، رواياتي، مقالاتي، قصائدي، رسائلي، صوري، ذكرياتي، مواقفي، أوسمتي.
كلها عظام هيكلي المطحون بأسنان حزن، فيه روحي فهل يضيع كل شيء.؟
الصمت يقتل تلال الوحشة، العصافير أسدلت ستائر أنغامها وغادرت إفريز نافذتي، طارت النوارس بعيداً.
طارت السنونوات حدّ الشفق الوردي وما عدت أرى غير أفق يوشك أن يغرق بدخان البارود.
ربااااه..
كيف ستغيب الشمس، وهل ستشرق من جديد..؟
حبيبتي أين أنتِ؟
أين أنتِ يا توأم روحي؟
هل يضنيك بعادي كما أنا؟
حبيبتي هل تعلمين بحالي أم أنك تعيشين الانتظار.؟ سيطول انتظارك وقدري هذا النعش المعدني الذي غادرني ولا أعرف متى يعود، وهل تراه يعود.؟
طال يومي كثيراً وأنا أنتظر صرخةً فيها حدّ سلاح قد يقسمني إلى شطرين، أو يعيد إلى قلبي خفقه.
حبيبتي.
هل هي الحقيقة، حقيقتنا.!
هل نحن حقاً سراب.؟
أم أننا نوشك على الغياب في مجاهل عالم لن يمنحنا فرصة لقاء جديد، وكيف أنسى قلبي في فضاء لن يطالك.؟
ياااه يا عمري الشقي، والعجز يكبلني من قمة رأسي حتى غور لساني.
لحظة أوشكتُ أفقد نثرات صمودي الباقي، طرق أخي الباب.
نظرت في وجهه أنتظر لحظة القضاء:
ـ انتهي كل شيء.
وقبل أن تترنح خطواتي جاءني صوته آتياَ من عمق صحراء.
ـ تم إصلاحه، وعاد أفضل مما كان.
ركض قلبي، كأنه سيغادر صدري إلى تلك الأسلاك الملقاة كثعابين تنتظر افتراسي.
في لحظات عادت إلى مواطنها، في لحظات أضاءت الشاشة، في لحظات وجدت روحي ما زالت على قيد الحياة فيه، في لحظات اكتسحتني موجه فرح.
بعد سكون نهار طويل، وجهد أخي الذي صرت أحبّه أكثر من نفسي.
عاد جهاز "الكومبيوتر" إلى حياته.
وأعاد إلى صدري حياتي.
حبيبتي: أراك ساكنةً فيه مثلي، لن أفقدَك.
هل قلتُ لك قبلاً كم أحِبُك يا عمري.!
أنتظركِ بشوقِ العالم. | |
|
| |
الهادي الزغيدي مدير الموقع
عدد المساهمات : 4023 نقاط : 24068 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 49 الموقع : تونس
| موضوع: هلوســة ذات ليلة السبت يوليو 31, 2010 8:25 pm | |
| هلوســة ذات ليلة زارني يسير الهوينا أمير الشعراء..
تجلده سياط ورد.. ودموع ليلى العامرية..
قيس يزحف خلفهم.. لا يلتفت إلى موته أحد..!
في ليلة حالكة الظلمة، شديدة البؤس، كئيبة، فارغة، تمزّقني وحدة تخللت عظامي وأنهكتني.
ليلة ما حسبت يشرق بعدها نهار.
فجأة .. أطلّ عليّ من بين غيمتين.. قمر..!
رأيت في ظلاله أشياء كثيرة.! بينها أشلاء نفسي،وسفينة شراعها ممزّق، وصاريها محنيّ حتى جبهتي. ربّانها ميّت، وبحّارتها قراصنة يذوّبون الملح ويعصرونه رقصاً مرّاً في عيون صبيّة سبيّة، مصلوبة على جذع منارة بعيدة.. بعيدة على مدّ رمال خرزيّة يختلط اقتتال الموج وصرخات الغبار الطالع من موت الأرض بسكون عينيها، وألف زنديق يبيع في سوق النخاسة فحولته، ويمدّ ما استطاع قامته ليطال صليبها المرمري.
يصعد الكَلِم.. يصعد..! ثم يقسم وجه القمر إلى شطرين.
يصعد أكثر، فتنقلب خشبات الصليب الزيتونية وهي تصارع نبضاتها في ظلمة ليلتي الحالكة إلى كأس من رصاص تصبّ على عمري المسفوح تحت شفرة الفأس، "المائدة الأخيرة.."
ماذا جئتَ تفعل أيها القمر المغموس بصليب الدم وأنا أغوص مع موت الربّان.؟
تسخرُ منّي.! وكلانا في البلاء سواء..! تبتسمُ، تضحك، وعيناك جامدتان كقلبي.
آه يا ليلى.
قبل ألف عام ذهبتِ إليه.. أخذوكِ إليه.. تركتِني وذهبتِ.
من هو هذا المسخ.؟ ترتمي آهاتكِ تحت فحيح أنفاسه الجارحة، كيفَ احتملتِ هذا البؤس.؟
آه يا ليلى.
على شرفتك اليرموكيّة أهدرتُ عمري، تركتِ لي بقاياك على أشلاء بلادٍ بادتْ، ومضيتِ بتاجك وصولجانك على حصان أسود إليه.
تراهم أذهبوكِ إليه..؟
عبثتْ فيكِ أصابعه، فأتلفَت وجه الياسمين، وغاصت في بحيرات البجع عيناه.
أكرهها.. أكرهكِ.. أكره البحر.. أكره القراصنة.!!
وأحبّ أجساد الأموات المتعفّنة.
شقّ نصف القمر إحدى الغيمتين، تلك التي تنفسّت رائحة برتقالة، خلعت ثوبها وثوبِكِ، فنفر بريق العسجد. واتكأت حلمتان بنفسجيتان على إفريز رمّانتين. هرب نصف القمر الآخر توارى وراء الغيمة الباقية خجلاً يطوي بستانه المثمر تحت ستائر أوراقها الزيزفونية، يتعثّر ثوبها الشفيف بلهفة ساقيه الهاربتين فيختبئ شوقي بين الخطوة والخطوة..!
تبعتُها.. تبعتُه.. حملتني الغيمة وأخذتني إليكما.
أنفاسُ المسخ الجارحة أطلّت على حزني، فاحتملتُ على الرغم مني ذلك البؤس.
رأيتُ على وسادتيْ خدّيه أثرين منكِ، فأقمتُ على شفرة سيفه صيوان عزائي.
أيها الظافر الألف.. النابت منذ ألف عام.. ووجهك هو هو لم يتبدّل
خرجتُ إليكَ من موتي، جئتكَ بعد ألف عام، وأنا كما أنا أرثي ضياع مُلكي وأندبُ أيامي الغابرات. لم أجد مكاناً جديداً أموت فيه والعالم يغصّ بالصحارى. هو جواب واحد.!!
بل لا بدّ من لا أو نعمْ..
تسخر منّي وقد جئتك أحمل على كتفيّ خراج قرون من الكذب، جئتكَ لست أدري من أيّ تاريخ.. من أيّ رحم.. كل من اعتلى كرسيّ مُلكي قال أنا أبوك.
مسكينة أمي.. أعرفها.. تلك المصهورة مثل ليلى.
تراكِ تلوّيتِ على قفص صدره..؟ وقبلتِ به أباً لأطفالكِ..؟ زرعَ في شقوة نبضاتكِ آهة فنَبَتَت بين عينيّ وما زالت.. ما زالت تطرح أشواكها على مركبي.
ويلي.
متى مات الربّان..؟
أطلّ القمر مرّة أخرى، كاملاً أطلّ كأنه لم ينشطر من قبل.. سمعني.!!
شرر يتطاير من حلقي.
لم يصل اللهب إلى ذلك الأفّاق، حملتني ريح شديدة وصبّتني على سفينة عابرة.
مات الربّان..
لا لم يمت.. قتلوه.! بحّارته قتلوه. قَلَبتْهم رحلات الذهاب والإياب إلى قراصنة ألقوا جثّته في البحر فحملتها قبيلة أسماك أبحرت بها.. أبحرت ثم علّقتها على طرف المنارة.
القراصنة لا يحتاجون إلى منارة، الظلام رفيقهم، وليلى تحتضر.
آه يا ليلى.
أنا متّ قبلك فلا تحتضري.
أطلّ القمر.
يا إلهي.
ليلى تموت على الصاري، والقراصنة يرقصون.
لم أعرف أيّهم هو، وجهه يلبس كل الوجوه.
السفينة تغرق..
الربّان تحمله أثقاله إلى القاع.
أنا بعض أثقاله.!! | |
|
| |
| خَدَرُ الرُوْح : قصص | |
|