فالمؤرخون قبل ابن خلدون لم يأخذوا سمة التحليل والتعليل والربط، وما يكتنف الأحداث من خلفيات، فهو ممن نبه إلى دورة الدولة في نظرية الأجيال الثلاثة، وإن لم يتجاوزها إلى أفق الدورة الحضارية وإن كان كلاهما يدخل في سور الدورة التأريخية، وردّ ابن خلدون نشوء كيانها إلى العصبية الأسرية، التي اعتبرها من تكوينية الفطرة فهي كما يرى (نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا) .
من هذا يكون:
أولاً: التاريخ قبل ابن خلدون فيما اعتاده المؤرخون خال من التحليل والربط واستكشاف العلل التي توجه الأحداث، فادخل السببية، وعلل معنى تتابع الأحداث.
ثانياً: إن الأحداث التاريخية وأسبابها يحددها الواقع الاجتماعي، فهي نتاج له.
ثالثاً: إن هناك دورة تمر بها الدولة وتتداول.. في طريق حلزوني لا مستقيم.
رابعاً: رد نطاقات تشكل الدولة إلى عصبية لما تغضية من اتحاد والتحام.
(لأن السياسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب لا يكون إلا بالعصبية).
إذن فالعصبية عند ابن خلدون تقوم بالدور الأساسي في قيام الدولة، كذلك في توسعتها، إلا أن الدعوة الدينية (كما يرى) تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عدرها، كما عنون ذلك، وسبب ذلك عنده: أن القيم الدينية وصبغتها، تذهب بالتنافس والتحاسد اللذين في أصل العصبية، والتفرد بعد ذلك لوجهة الدين والحق، وفروضه التي ترفض ذلك. فهنالك تأثير متبادل بين الحضارة والعصبية، ففي العمران البدوي تكون العصبية قوة عنيفة وموحدة تستطيع أن تحمي الجماعة وأن تعجل بانتصارها على بقية العصبيات، كابحة الخلافات الداخلية، وهي تؤدي حتماً إلى تغيير من شأنه أن يوجد حياة أفضل، وأعني بهذه الحياة الأفضل العمران الحضري، والتأثير هنا بين العصبية والحضارة هو أنه بينهما بناء وخصائص فدور العصبية هي نتاج لأسلوب الحياة البدوية البدائية، فإن هذه العصبية نفسها تؤثر كأداة التغيير في نفس هذا الأسلوب في الحياة، بأن تضع له نهاية وتكون الأساس في تكوين الدولة وبالتالي في وجود العمران الحضري.
وهذا التوجيه لابن خلدون في نشوء الحضارات في حدود العصبية عائد إلى الإطار البيئي الذي نظر من خلاله سيما مع الاستفادة من رؤية ابن خلدون نفسها في أن الأحداث التاريخية تعود إلى ظرف تاريخي وواقع اجتماعي معاش، فكذا هذا النتاج الفكري له يمثل حدثاً له زمانه وتاريخيته ومكانه الذي انبثق عنه، فالظرف الاجتماعي والسياسي الذي عاشه ابن خلدون والوقائع التاريخية التي أطلع عليها، ضيقت وحصرت رؤيته لنشوء الدول بخصوص ما أطلع عليه. فبيئة ابن خلدون تمتد بجذورها إلى الحياة البدوية وهي مرتبطة بها، ولها ارتباط من جهة أخرى بالحياة الحضرية، فالمدن والأمصار آنذاك تعيش مع غبار القبائل الرحل، أو متاخمة لها وقريبة من فعالياتها، فلطالما كانت هناك تغييرات من سقوط وصعود من تدهور ونشوء دولة جراء تآلب العشائر وتفرقها.
اعتبر مالك بن نبي تلك النظرة ضيقة في تفسير النشوء والسقوط الحضاري ولو في إطار الدولة، فالعصبية قد تشكل دولة، وكياناً لكنه خارج نطاق الشكل الحضاري وزهوه، وتكوين نظام اجتماعي قانوني، يمتلك مقومات البقاء، طالما هو خارج حدود القيم، فلا يلبث أن ينقلب على نفسه، وهذا لا يتسق مع ما يبحث عن الشروط الأساسية في تشكيلة المجتمع المثالي، وأسس ديمومته، بل العصبية في وجودها الكياني (ضمن الدولة) يمثل عرضاً لسنة انهيار المجتمعات، التي تقف على هكذا قدم. وهذا من أكبر الأسباب التي عصفت بالأمة الإسلامية منذ عصور الإنحطاط وذلك في صدر الإسلام مــما لا يخفــى مكانه حيث أُستأثِر توزيع الأموال والأمصار.. وبعد تشكل الدولة الأموية التي بنيت على ذلك. فالمسلم لا يعرف الانتماء أو الولاء إلا لعقيدته الربانية، تاركاً كل الجاهليات وعصبياتها القبلية والأسرية والوطنية حديثاً وراءه، وهذا ما تقتضيه الشريعة الإسلامية وتفرض حيث لا لون ولا جنس، الكرامة والتحرر قبل كل شيء والإخاء والمساواة.
ومع هذا تكون (صورة الحضارة ـ هذه ممثلة لا على ما في الإنسان من خصائص روحية وعقيدية، وحين تكون صلة المجتمع هي الجنس واللون والأرض والقوم. وما إلى ذلك من الروابط ـ فإن هذا لا يعد في الإسلام حضارة، ذلك أن الجنس واللون والأرض والقوم، وما إلى ذلك من الروابط، لا تمثل الحقيقة العليا في الإنسان، وذلك أن الإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر) ورفض الشريعة الإسلامية لها (العصبية) دليل على فسادها طالما أحكامها تتبع المصالح والمفاسد الخارجية.
يقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبيته، وليس منا من مات على عصبيته).
يرى ابن خلدون أن نشأة الدول لها مراحل ثلاث:
1) طور البداوة: وهنا لا يشير فقط إلى سكان الصحارى بل إلى بربر الجبال أيضاً والتتر في السهول، لما يجمعهم من غلب العصبية ضمن النظام القبائلي الأسري.
2) طور التحضّر: وهو انبثاق دولة عنهم عقب الغزو والسيطرة، ثم الاستقرار.. بعد أن أترف السابقون، وبما يتميزون هم به من خشونة وصلابة، وتلاحم أسري وتجمع قبلي يفرض عليهم قيوداً عرفية، من الصعب جداً أن يتجاوزوها.
3) طور التدهور: بعدما حصلوا عليه من موارد تلوّن حياتهم بألوان الانغماس والترف وهي سنة في حد ذاتها من سنن الانهيار.
كما أعطى للدولة عمراً وسقفاً زمنياً لتدور من حيث بدأت، فيقدر عمرها بـ(120سنة)، لذلك سميت بالأجيال الثلاثة انطلاقاً من تقدير كل جيل على ما يرى بـ(40سنة).
إذن التاريخ البشري عند ابن خلدون يسير في دورات متتابعة نتيجة الصراع القائم بين البدو والحضر. طالما البشر يصنفون جغرافياً هكذا، وما يتبعه من اختلاف طبعي يفرض تغيراً وانقلاباً طالما تقوم به الغلبة.