المنزع العقلي:الجاحظ
Publié le 21 Novembre 2013 par Eze Mohamed
المنزع العقلي:الجاحظ
للجاحظ مكانة متميزة في تاريخ الفكر العربي باعتباره مثل قطيعة معرفية مع الفكر التسليمي الإنطباعي وعدّ مؤسّسا للمعرفة العقليّة.ولقد كان الجاحظ إستجابة حضارية طبيعية لظرف معرفي مخصوص تميزبحضورمكثف للعقل ودليل ذلك أن السلطة في عصر الجاحظ كانت إعتزالية.وتميز هذا الظرف بكثرة الجدل و الإختلاف بين الفرق الإسلامية كما تميز باكتمال مرحلة التدوين وما أفرزته من تداخل بين الحقائق .وميزة الجاحظ انه خاص بالعقل
في ميادين لم يخض فيها العقل مسبقا و قد نظر في عالمين اثنين متقابلين و لكنه تمكن من الربط بينهما هما عالم المحسوسات من خلال دراسة الحيوان و قد أسس أثناء ذلك منهجا يقوم على السماع و الشك و التجربة وعالم الغيب والماورائيات و قد استند فى ذلك الى الاستدلال و الحجاج.
و قد استفاد الجاحظ فى نشأته فى البصرة التى كانت قطبا فلسفيا و فكريا و قد ازدهرت فيها التيارات العقلية و نشطت فيها حركة الترجمة مما مكن الجاحظ من الاستفادة بالتراث اليوناني و لا سيما تلراث أرسطو.
- أسس الجاحظ منهجا لأدراك اليقين يقوم على أسس ثلاثة أولها السماعاذأخذ الجاحظ فى الحيوان من مصادر مختلفة منها ما هو مكتوب و مأخوذ من التراث اليونانى و كتاب "الحيوان" لأرسطو و منها ما هو عربي شفوي كمساءلة أصحاب الخبرة من الحرازين و الحوائين و الصيادين و منها ما هو شعرى كبعض الأبيات التى قيلت عن الحيوان. - كثرة المصادر فى كتاب الحيوان يعود الى ايمان الجاحظ أن معرفة الفرد محددة و لا سبيل لنماء علمه الا بالاطلاع على معارف السابقين يقول الجاحظ:"الانسان لا يعلم حتى يكثر سماعه" لكنه لم يسلم بما يسمع و لم يطمئن الى العلماء مهما كان مقدار علمهم لأن التقليد و الحفظ قاصرانعلى ادراك الحقيقة يقول الجاحظ:"ان مستعمل الحفظ لا يكون الا مقلدا و الاستنباط هو الذى يفضي بصاحبه برد اليقين." - الشك: لما كانت غاية الجاحظ معرفة الحقيقة فانه لا مناص له من استعمال العلم للظفر باليقين و الشك جلاء عملي و ترجمة فعلية للعقل . و الشك عند الجاحظ منهج لا غاية فى ذاته لهذا السبب يدعو الى معرفة الحالات الموجبة له لمعرفة الحالات الموجبة لليقين وهو بذلك يتجاوز شك الريبيين الذين جعلوا الشك منطلقا و غاية.
الشك في الأخبار أساسي عند الجاحظ لأن البشر ميالون بطبعهم إلى التحريف والإنسان ليس معصوما من الخطأ مهما كان لذلك دعا إلى اعتماد الشك في الخبر مهما كان مصدره حتى و إن روي عن علماء ثقات لأن ثقة السند ليست دليلا على صحة المتن يقول:" لا ترسلوا إلى كبير من العلماء فإذا عليمهم يقول بغير رواية و على غير أساس".
فعلاقة الجاحظ بالتراث إذن تقوم على جدل الاتصال و الانفصال.
و بما أن الشك طريق إلى اليقين و العقل سبيله فان الحس و التسليم و التقليد عائق لإدراك
لذلك يدعو إلى المعرفة العقلية. يقول الجاحظ :لا تذهب إلى ما يريك العقل و العقل هو الحجة."
إن ازدهار المعارف في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة نتيجة المثاقفة و ظهور علم الكلام و تحول التصوف الاسلامى من مجال الممارسة الزهدية إلى نظرية في المعرفة و البحث في حقائق الوجود والكون نقل الفكر العربي من مرحلة المنقول و التسليم إلى مرحلة المعقول فلم تعد المرحلة قائمة على النقل و لم تعد تقوم على حرفية النص بل أصبحت عملا تاوليا يقوم أساسا على العقل و كل ذلك نقل المنزع العقلي من دائرة الأخلاق و السلوك عند ابن المقفع مثلا إلى دائرة الحقيقة المعرفية و كان ذلك مع الجاحظ.و ليس فضل الجاحظ أنه بني نظرية معرفية بقدر ما يكمن فضله في تأسيس منهج قوامه السماع أولا و الشك ثانيا و التجربة ثالثا و قد بدا ذلك جليا في كتابه الحيوان إذ الجاحظ أجرى بعض التجارب ليتأكد من صحة الأخبار و خطئها ولم يقتصر في ذلك على تجاربه الشخصية بل تعداها إلى الاستفادة من تجارب غيره لاعتقاده أن معرفة العالم لا تنمو إلا بسماعه يقول الجاحظ:"لو جئنا إلى قدر قوتنا و منتهى تجاربنا لقلت المعرفة ".
و لقد كان الجاحظ في تجاربه ملاحظا مستقرئا دقيقا يعرض تجربة و يصفها ساعيا إلى إدراك الحقيقة و لم يكن متعصبا أبدا و مما يؤكد ذلك اعتماده على تجارب غيره حتى بدا كتاب الحيوان مزيجا من الجهد الذاتي و الجهد الموضوعي و مزيجا متناسقا من المصادر المكتوبة و المسموعة.
و تجارب الجاحظ على الكلب تؤكد انتباهه و مشاركته بلوغ بعض النظريات الحديثة و حدسه بها ذلك إن ظاهرة الانتباه الغريزي في الكلب لا تختلف كثيرا في جوهرها عن نظرية الانعكاس الشرطي"لباقلوف" فقد استطاع أن يثبت بعض السلوك الحيواني الذي يتنزل حديثا ضمن ما يعرف بعلم النفس السلوكي و لم يتسن ذلك للجاحظ لولا المنهج التجريبي و عماده و ملاحظة السلوك و مراقبته و تنويع التجربة بتغيير الظرف الزمني أو المنبه(السماع, الشم,الافتراض)و لكن إذا سلمنا بتوفر الأسس المنهجية الضرورية للبحث العلمي التجريدي عند الجاحظ فإننا نتساءل لماذا لم تثمر هذه التجارب نظريات علمية دقيقة.
مفهوم الحقيقة عند الجاحظ ليس مفهوما علميا ذلك إن أصلي الحقائق ما اتصل بالدين و ما الحقيقة العلمية إلا أداة لإثبات الحقائق الدينية و هذا المزج بين الدين و العلم أعاق عقل الجاحظ و جعله عاجزا عن التسليم.
بل يمكن القول أن الجاحظ لم يرم ذلك لأنه جعل من عالم الحيوان و عجائبه شاهدا على الحكمة الالاهية في إطار دلالة الشاهد على الغائب.
بحث عن الجاحظ
.
أبو عثمان عمرو بن بحر محبوب الكناني الليثي البصري، (159-255 هـ) أديب عربي من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها.
كان ثَمَّةَ نتوءٌ واضحٌ في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في الآفاق هو الجاحظ، ، عمّر الجاحظ نحو تسعين عاماً وترك كتباً كثيرة يصعب حصرها، وإن كان البيان والتبيين، كتاب الحيوان، البخلاء أشهر هذه الكتب. كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغيرها.
قال ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة كتب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها».
المولد و النشأة
ولد في مدينة البصرة نشأ فقيرا، وكان دميما قبيحا جاحظ العينين. طلب العلم في سن مبكّرة، فقرأ القرآن ومبادئ اللغة على شيوخ بلده، ولكن اليتم والفقر حال دون تفرغه لطلب العلم، فصار يبيع السمك والخبز في النهار، ويكتري دكاكين الورّاقين في الليل فكان يقرأ منها ما يستطيع قراءته.
كانت ولادة الجاحظ في خلافة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين ووفاته في خلافة المهتدي بالله سنة 255 هجرية، فعاصر بذلك 12 خليفة عباسياً هم: المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وعاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها.
أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبي عبيدة صاحب عيون الأخبار، والأصمعي الراوية المشهور صاحب الأصمعيات وأبي زيد الأنصاري، ودرس النحو على الأخفش، وعلم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري.
كان متصلا -بالإضافة لاتصاله للثقافة العربية- بالثقافات غير العربية كالفارسية واليونانية والهندية، عن طريق قراءة أعمال مترجمة أو مناقشة المترجمين أنفسهم، كحنين بن إسحق وسلمويه.
توجه إلى بغداد، وفيها تميز وبرز، وتصدّر للتدريس، وتولّى ديوان الرسائل للخليفة المأمون.
ثقافته
كان للجاحظ منذ نعومة أظفاره ميلٌ واضحٌ ونزوعٌ عارمٌ إلى القراءة والمطالعة حَتَّى ضَجِرَتْ أُمُّهُ وتبرَّمت به(
. وظلَّ هذا الميل ملازماً لـه طيلة عمره، حتَّى إنَّه فيما اشتُهِرَ عنه لم يكن يقنع أو يكتفي بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم الواحد، بل كان يكتري دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للقراءة والنَّظر ويورد ياقوت الحموي قولاً لأبي هفَّان ـ وهو من معاصريه ومعاشريه ـ يدلُّ على مدى نَهَمِ الجاحظ بالكتب، يقول فيه: «لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائناً ما كان ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها. والحقُّ أنَّه «كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ يقرؤه إلاَّ ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آماداً متطاوله.
ولكن الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب، وخاصَّةً أنَّ ذلك عادةٌ مذمومةٌ فيما أخبرنا هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره، إذ العلم الحقُّ لا يؤخذ إلا عن معلم، فتتلمذ على أيدي كثيرٍ من المعلمين العلماء واغتنى فكره من اتصاله بهم، وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم فإنَّهُ أقرَّ بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم مراراً بين طيات كتبه.
لقد تكوَّنَتْ لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارفُ طائلةٌ عن طريق التحاقه بحلقات العلم المسجديَّة التي كانت تجتمع لمناقشة عددٍ كبيرٍ وواسعٍ من الأسئلة، وبمتابعة محاضرات أكثر الرِّجال علماً في تلك الأيَّام، في فقه اللغة وفقه النَّحو والشِّعر، وسرعان ما حصَّل الأستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة بوصفها ثقافةً تقليديَّة، وقد مَكنَّهُ ذكاؤُه الحادُّ من ولوج حلقات المعتزلة حيث المناقشات الأكثر بريقاً، والمهتمَّة بالمشكلات الَّتي تواجه المسلمين، وبالوعي الإسلامي في ذلك الوقت».
ونظراً لسعة علمه وكثرة معارفه وَصَفَهُ ابن يزداد بقوله: هو نسيج وَحْدِهِ في جميع العلوم؛ علم الكلام، والأخبار، والفتيا، والعربيَّة، وتأويل القرآن، وأيَّام العرب، مع ما فيه من الفصاحة.
وإن كان معاصرو الجاحظ من العلماء، على موسوعيَّة ثقافتهم، أقرب إلى التَّخصص بالمعنى المعاصر، فإن «تردُّد الجاحظ على حلقات التَّدريس المختلفة قد نجَّاه من عيب معاصريه ذوي الاختصاص الضَّيِّقِ. فهو بدرسه العلوم النقليَّة قد ارتفع فوق مستوى الكُتَّاب ذوي الثَّقافة الأجنبيَّة في أساسها القليلة النَّصيب من العربيَّة وغير الإسلاميَّة البتَّة»، ولذلك «لم يكتف بالتردُّد على أوساطٍ معيَّنةٍ بغية التَّعمق في مادَّة اختارها بل لازمَ كلَّ المجامع، وحضر جميع الدُّروس، واشترك في مناقشات العلماء المسجديين، وأطال الوقوف في المربد ليستمع إلى كلام الأعراب، ونضيف إلى جانب هذا التكوين، الذي لم يعد لـه طابع مدرسي محدود، المحادثات التي جرت بينه وبين معاصريه وأساتيذه في مختلف المواضيع».
أما أساتذة الجاحظ الذين تتلمذ عليهم وَرَوَى عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًّا، وهم معظم علماء البصرة إبَّان حياته، المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم. ولكنَّ مترجميه يكتفون بقائمةٍ صغيرةٍ منهم غالباً ما تقتصر على العلماء الأَجِلَّة المشهورين. ومهما يكن من أمر، وبناءً على بعض المصادر، نستطيع القول: إنَّ أهمَّ هؤلاء الأساتذة هم:
ـ في ميدان علوم اللغة والأدب والشِّعر والرِّواية: أبو عبيدة معمر بن المثنَّى التميمي والأصمعي وأبو زيد بن أوس الأنصاري ومحمد بن زياد بن الأعرابي وخلف الأحمر وأبو عمرو الشَّيباني وأبو الحسن الأخفش وعلي بن محمد المدائني.
ـ في علوم الفقه والحديث: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ويزيد بن هارون والسري بن عبدويه والحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمه بالإضافة إلى ثمامة بن الأشرس الذي لازمه الجاحظ في بغداد.
ـ في الاعتزال وعلم الكلام: أبو الهذيل العلاَّف والنَّظَّام ومويس بن عمران وضرار بن عمر والكندي وبشر بن المعتمر الهلالي وثمامة بن أشرس النُّميري(17). وأحمد بن حنبل الشيباني.
وثَمَّةَ علماء ومفكرون آخرون لا تقلُّ أهمِّيَّتهم عن هؤلاء، والجاحـظ ذاته لم يَغفل عن ذكر معظمهم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك أصالة الجاحظ ونبوغه وألمعيَّته واتِّقاد قريحته، وجليل إسهامه وإبداعاته وجدناه يستحقُّ بجدارةٍ كاملةٍ كلَّ ما قاله فيه مريدوه ومحبُّوه والمعجبون به من تقريظاتٍ ساحرةٍ باهرةٍ، تكاد تبدو لمن لم يطَّلع على آثار الجاحظ وحياته وفكره أنَّها محض مبالغات. ومما أورده ياقوت الحموي، ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ أنيقٍ وتعبيرٍ رشيقٍ قولـه: «أبو عثمان الجاحظ، خطيبُ المسلمين، وشيخُ المتكلِّمين، ومَدْرَهُ المتقدمين والمتأخِّرين. إن تكلَّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النَّظَّام في الجدال، وإن جدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هَزَلَ زاد على مزبد، حبيب القلوب، ومزاج الأرَّواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياضٌ زاهرةٌ، ورسائله أفنانٌ مثمرةٌ، ما نازعه منازعٌ إلا رشاه أنفاً، ولا تعرَّض لـه منقوصٌ إلا قدَّم لـه التَّواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصَّة تسلِّم له، والعامَّة تحبُّه. جَمَعَ بَيْنَ اللسان والقلم، وبَيْنَ الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلَّته، ووطئ الرِّجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه.
منهجه العلمي
انتـهج الجاحظُ في كتبه ورسـائله أسلوباً بحثيًّا أقلُّ ما يقال فيه إنَّهُ منهجُ بحثٍ علميٍّ مضبوطٌ ودقيقٌ، يبدأ بالشَّك لِيُعْرَضَ على النَّقد، ويمرُّ بالاسـتقراء على طريق التَّعميم والشُّـمول بنـزوعٍ واقعيٍّ وعقلانيٍّ، وهو «في تجربته وعيانه وسماعه ونقده وشكِّه وتعليله كان يطلع علينا في صورةِ العالم الذي يُعْمِلُ عقله في البحث عن الحقيقة، ولكنَّه استطاع برهافة حسِّه أن يسبغ على بحثه صبغة أدبيَّةً جماليَّة تُضفي على المعارف العلميَّة رواءً من الحسن والظَّرْف، يرفُّ بأجنحته المهفهفة رفيف العاطف الحاني على معطيات العلم في قوالبها الجافية، ليسيغها في الأذهان ويحببها إلى القلوب، وهذه ميزة قلَّت نظيراتها في التُّراث الإنساني.
الشك
لم يكتف أبو عثمان بالشَّك أساساً من أسس منهجه في البحث العلميِّ بل عَرَضَ لِمَكانة الشَّك وأهمِّيَّته من النَّاحية النَّظريَّة في كثيرٍ من مواضع كتبه، ومن أهم ما قاله في ذلك: «واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت ، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه. ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف».
تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعةٌ من النِّقاط المهمَّة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحاً من ملامح عبقريَّته، فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ إن الشَّك الجاحظيَّ، بهذا المعنى، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت ـ Rene Descrtes(30)، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات.
النـقـد
إنَّ تتبـُّعَ كتب الجاحظ ورسائله يكشفُ لنا عن عقليَّة نقديَّةٍ بارعةٍ؛ نقديَّةٍ بالمعنى الاصطلاحي المنهجي وبالمعنى الشَّائع للانتقاد، فنقده بالمعنى الشَّائع يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في تهكُّمه وتعليقاته السَّاخرة التي لم يسلم منها جانبٌ من جوانب المعرفة ولا مخطئٌ أمامه أو واصلٌ إليه خبره، ومن ذلك مثلاً تهكُّمه بالخليل بن أحمد الفراهيدي من خلال علم العروض الذي قال فيه: «العروض علمٌ مردود، ومذهبٌ مرفوض، وكلام مجهول، يستكدُّ العقول، بمستفعل ومفعول، من غير فائدة ولا محصول».
أما نقده المنهجيُّ فما أكثر ما تجلَّى في كتبه ورسائله في تعامله مع مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛ العلميَّة والأدبيَّة، ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومحدِّثيه ورواته وفقهائه والعلماء السَّابقين، والشَّواهد على ذلك جدِّ كثيرة، تجعلنا حقًّا في حيرة أمام اختيار واحد منها.
انتقد بعضهم اتجاه علماء الكلام نحو الأمور الطَّبيعية بالعناية والدِّراسة فقال: «لو كان بدلُ النَّظرِ فيهما النَّظرَ في التَّوحيد، وفي نفي التَّشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التَّعديل والتَّجويد، وفي تصحيح الأخبار، والتَّفضيل بَيْنَ علم الطَّبائع والاختيار، لكان أصوب. فردَّ عليه الجاحظ ناقداً ادعاءه بقوله: العَجَبُ أنَّك عمدت إلى رجالٍ لا صناعة لهم ولا تجارة إلا الدُّعاءُ إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضع الكتب فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهم لذَّة ولا همٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلاَّ عليه وإليه؛ فحين أرادوا أن يقسِّطوا بَيْنَ الجميع بالحِصص، ويَعْدِلوا بين الكلِّ بإعطاء كلِّ شيءٍ نصيبه، حَتَّى يقع التَّعديلُ شاملاً، والتَّقسيط جامعاً، ويظهر بذلك الخفيُّ من الحكم، والمستور من التَّدبير، اعترضتَ بالتعنُّت والتَّعجُّب، وسطَّرت الكلام، وأطلت الخطب، من غير أن يكون صوَّب رأيك أديبٌ، وشايعك حكيمٌ».
وبنظرةٍ عجلى في آثار الجاحظ « فإنك تراهُ وهو يطلق العنان لقلمه في جلِّ كتبه ـ يزيِّف الخرافات والتُّرَّهات في عصره وقبل عصره، ويورد عليك نقداته ومباحثاته، فيقطع في نَفْسك أنَّه لو جاء كثيرٌ مثله في عقلاء العلماء لخلت كتب الأقدمين من السَّخافات، إذ إنَّ الجاحظ نفسه يقول: ومما لا أكتبه لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسر عليها إلا كلُّ وقاح أخبار ولذلك ما أكثر ما كان يستفتح الأخبار المغلوطة أو الأسطورية بقوله زعم فلان، وزعموا، ثُمَّ يُعَقِّبُ بتحليله ونقده «بعقلٍ راجحٍ، ونظرٍ صائبٍ، وأسلوبٍ سهلٍ عَذْبٍ متنوِّعٍ دقيقٍ فكهٍ، يَتَتَبَّعُ المعنى ويقلِّبُه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولِّده حَتَّى لا يترك فيه قولاً لقائل»
التجريب والمعاينة
إذا كان النَّقد هو الخطوة اللاحقة على الشَّكِّ فإنَّ المعاينة والتَّجريب هي الخطوةُ المقترنة بالنَّقد والمتلازمة معه، وخاصَّةً في مسائل العلم الطَّبيعي، والجاحظ لم ينس هذه الخطوة ولم يتناسها بل جعلها عماداً لازماً من أعمدة منهجه البحثي، وقد بدا ذلك في اتجاهين؛ أولهما قيامه هو ذاته بالمعاينة والتَّجريب، وثانيهما نقل تجارب أساتذته ومعاصريه. وقـد أجرى الجاحظ كما أخبرنا تجارب ومعايناتٍ كثيرةً للتَّثبُّت من معلومةٍ وصلت إليه، أو لنفي خبرٍ تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله، والأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة نذكر منها تجربته في زراعة شجرة الآراك وقصَّته الطَّويلة معها للتَّأكُّد مما قيل عن تكاثر الذَّرِّ عليها ويصف لنا بُرنيَّةَ زجاجٍ وُضِع فيها عشرون فأراً مع عشرين عقرب، وما فعلته العقارب بالفئران وكذلك عندما أجمع أناس، بينهم طبيبٌ، على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات والتمست خصيته وشقشقته فإنهما لا توجدان، فأرسل إلى جزَّار أن يأتيه بالخصية والشقشقة إذا نحر جملاً، ففعل، فلم يكتف بذلك، فبعث إليه رسولاً يقول: «ليس يشفيني إلا المعاينة» ففعل ودحض هذا الادعاء ولجأ أيضاً إلى تجريب بعض المواد الكيماويَّة في الحيوان ليعلم مبلغ تأثيرها فيها، وليتأكَّد مما قيل في ذلك ومما أورده من تجارب غيره تجربة أستاذه النَّظَّام عندما سقى الحيوانات خمراً ليعرف كيف يؤثِّر الخمر في الحيوان، ولم يكتف بنوعٍ واحدٍ بل جرَّب على عددٍ كبيرٍ من الحيوانات كالإبل والبقر والجواميس والخيل والبراذين والظِّباء والكلاب والسَّنانير والحيَّات وغيرها.
أما عن منهجه في معرفة الحلال والحرام فيقول : "إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة" رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة "وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا". فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.
فإذا كان بعض فلاسفة الشرق والغرب فد وقفوا أمام أرسطو موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله الأستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقلا لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله، ويرد عليه ما يرفضه عقله، حتى إنه كان يسخر منه أحيانا.. ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب المنطق: "وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية "طبقون"، حية صغيرة شديدة اللدغ إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك-، ولم أفهم هذا ولمَ كان ذلك؟!" ويقول الجاحظ: "زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، وأما العض فأنها تعض برأسيها معًا. فإذا هو أكذب البرية".
وفاته
ويتحدّث كتّاب السير عن نهايته في عام 868 م الموافق لسنة(255) هـ وقد نيف على التسعين سنة. وله مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الجاحظية. وقد هدّه شلل أقعده وشيخوخة صالحة، عندما سقطت كتبه عليه في البصرة.
مراجع
فلسفة الأخلاق عند الجاحظ ـــ د. عزت السيد أحمد
دراسة ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ـ 2005
للجاحظ من أنصار اللفظ، الذين يجعلون مدار الجودة في العمل الأدبي على اللفظ دون المعنى. ولهذا الموقف النقدي البلاغي ظاهريا دلالة سياسية في العمق تتمثل في صدوره عن حس عربي أصيل، يقصر البلاغة والبيان على الجنس العربي. وعندي أن الجاحظ هنا يرتبط بالتصور الديني لمفهوم اللفظ، فاللفظ العربي معجزة وصياغته في قوالب شكلية معجزة أيضا. وبالتالي فلا أحد بقادر على صوغ اللفظ والتلاعب به سوى الشعب العربي الذي فطر على هذه الألفاظ، وتوغلت طرق صياغتها وضروب تأليفها في حسه ووجدانه. وهذا الموقف من الجاحظ وليد إحساس بامتهان الكرامة العربية المستهدفة من قبل الزحف الشعوبي. فالجاحظ ممن توقدت فيهم الحمية العربية، فساهم في دحض تخرجات الشعوبيين الباطلة، ولم يدخر وسعا في التنويه بمكانة العنصر العربي. والجاحظ لا ينفك يؤكد أن كل شيء للعرب (…) إنما هو بديهة وارتجال. أما إذا سولت لغير العربي نفسه صياغة الألفاظ العربية فإنه لن يفلح في ذلك مهما عانت نفسه في سبيل ذلك.
وهكذا فإذا كان الجاحظ ينصب نفسه متحدثا بلسان حال العربية، والمتعصبين لها، فإن موقف عبد القاهر الذي قرر المساواة بين اللفظ والمعنى، حري بأن يعتبر رد فعل إزاء تعصب الجاحظ وتحيزه للفظ. ويجوز القول إن عبد القاهر صاغ نظرية النظم في سبيل نسف نظرة الجاحظ المتعصبة للعنصر العربي، من جهة، كما صاغها احتجاجا على قصر المزية على اللفظ، إذ يرد الاعتبار لعنصر المعنى في البلاغة عند عبد القاهر، فصار من المتاح لغير الجنس العربي أن يتعلم اللغة العربية، وأن يتضلع في بيانها وأدبها، ما دامت العبرة بائتلاف اللفظ والمعنى، وليس باللفظ وحده.
ويتمثل التحول الفكري في النظرة البلاغية، عند عبد القاهر الجرجاني في صياغة نظرة بلاغية تتجذر في أرضية الفكر الشعوري الذي عرفه زمنه. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن عبد القاهر لم يؤثر عليه الأسلوب اليوناني، كما أنه لم يرضخ لعنف الخطاب التقليدي المحافظ للبلاغة العربية، وذلك لمراوحته في دراسته بين مقومات الذوق العربي والتصورات العقلية التي أصبحت في زمنه وجها جديدا للفكر البلاغي العربي.
ـ ففي دلائل الإعجاز مثلا، نجد مباحث كثيرة تهتم بالقضايا الإعجازية، وجلها مقاربات حكم فيها الذوق أساسا.
ـ أما أسرار البلاغة فقد استرشد فيه عبد القاهر بمفاهيم العقل، وتصوراته، ويتضح طغيان العنصر العقلي في تناول القضايا البلاغية في هذا الكتاب كالمجاز والاستعارة مثلا.
وقد يتساءل البعض عن مصدر هذا المعطى العقلي في البلاغة عند عبد القاهر، فنجيب مقررين أن التصور العقلي للكون والإنسان واللغة سينضج في دائرة المتكلمين عند علماء المعتزلة الذين كانت أغلب محاوراتهم الفلسفية والدينية لا تبعد عن الإطار العلمي. ولما كان الاهتمام بالجدل عند المعتزلة قد شمل نواحي الفكر البلاغي، فقد صار من الطبيعي أن تزخر البلاغة على عهد عبد القاهر بالامتدادات الأدبية واللغوية لهذا التصور العقلي.
وما نصل إلى القرن السابع الهجري، حتى نجد صاحبنا حازما القرطاجني يدفع بالبلاغة العربية إلى الأمام، وذلك بتقديم تصور جديد لمفهوم البلاغة يختلف بصفة جذرية عن كامل التصورات التي سبقته في تاريخ الفكر البلاغي عند العرب. وهذا التصور عند حازم القرطاجني محكوم بنظرة فلسفية عميقة يمكن إبراز أهم ملامحها في الحديث التالي، وينبغي اعتبار هذا التفسير وجهة نظر شخصية حول المشروع البلاغي عند حازم تسعى إلى سبر أغواره الفكرية، وإجلاء عمقه النظري، ودلالته الفكرية في تاريخ البلاغة بصفة عامة. لقد لاحظ حازم ما آلت إليه البلاغة العربية من عقم فكري، ناشئ عن الاجترار، ففكر في طريق ينقذ بها مجال البلاغة عن التردي المحقق.
لاحظ حازم أن البلاغة صارت عائقا دون الشعراء والفن الأصيل، فقد أضحت تكلفهم عنتا ومشقة بدل أن تذلل السبل لهم وتروضها. تأمل حازم وضع الشعر في عصره خاصة، فألقاه قد بلغ من الانحطاط منزلة كبيرة، ومن الإسفاف الدرجة العظيمة، على ألسنة شعراء لم ينالوا قسطا من التكوين البلاغي. لاحظ حازم أن نظرة البلاغة القديمة إلى الشعر كانت جزئية، تنظر للفظ وحده، وللمعنى بعزلة عن اللفظ، وتفصل دراسة العروض عن مباحث اللفظ والمعنى. وتلافيا لمثل هذه النظرة التجزيئية دمج حازم هذه المباحث فيما بينها، فاستقام له منها جميعا علم البلاغة وعدها أساسا لقوانين الصناعة الشعرية.
نظرا لخلو الساحة النقدية والبلاغية من نموذج التصور الذي يطمح إليه حازم، عقد هذا الأخير العزم على وضع نظرية جديدة لأصول العملية الشعرية ضبطا لمعطيات العمل الشعري على كافة مستوياته الشكلية والمضمونية. ويبدو لي أن معرفة حازم بأصول المنطق قد أسعفته وقربت إليه النموذج النظري الذي طالما بحث عنه. فأنا أرجح أن يكون حازم الذي يبحث عن تصور نظري شامل، يستوعب العملية الشعرية بكافة أطرافها، ويحيطها بسياج نظري من المفاهيم والمصطلحات، قد عثر على هذا النموذج النظري الشامل في علم المنطق، فهو علم يستجيب لطموحات حازم ونزوعه نحو النظرة الجامعة المانعة.
لقد سعى حازم إلى الاقتداء بالأسلوب المنطقي في العرض النظري والتحديد التطبيقي، والتحديد المفهومي والمصطلحي، في إطار وضعه لنظرية شاملة جامعة مانعة لأصول العملية الشعرية تضاهي في أحكامها ودقتها وطاقتها الشمولية النظرة المنطقية. كما سعى حازم إلى اقتناء أدوات المنطق واستعارة تصوراته الفلسفية بغية توظيفها على الصعيد المنهجي، في سبيل إيجاد علم "منطق للأدب"، ينظم العملية الشعرية خاصة وفق أصول ومقررات سافرة الأبعاد المنطقية.
هذا المنطق الأدبي، الذي توصل حازم إلى صياغته على هدى من المنطق الفلسفي، هو علم البلاغة أو علم النقد الأدبي.ويلفتنا لفظ (علم) الذي قرنه حازم بالبلاغة في إطار مركب إضافي تصير البلاغة بموجبه علما، تتحقق فيه صفة العملية التي تميزها في نظره عن البلاغة القديمة. فحازم فيما أرى قد شعر بأن إحاطة البلاغة بسياج منطقي خليق بأن يرقى بالبلاغة إلى مستوى العلم، وأن يقصيها عن دائرة البحوث اللغوية والنقدية الهجينة غير المحددة تحديدا منطقيا صارما كما هي الحال بخصوص البلاغة عند حازم. فالعلم عنده هو الوعي النظري بالصفات الثابتة في موضوع معين محدد الأطراف، والمختص بمنهجية مرسومة المعالم. والبلاغة عند حازم هي علم لأنها علم لسان كلي على حد تعبيره، (منشأ على أصول منطقية وآراء فلسفية). ولو بحثنا عن المؤثرات الفكرية العامة التي هدت حازما إلى هذا التصور الشمولي لعلم البلاغة لوجدنا بعضها ماثلا في خصوبة الفكر الفلسفي على عهد حازم في المدرسة المغربية التي كانت تتخصص في الفلسفة اليونانية التي استغرقت جل شروحها وتلخيصاتها. وقد استقطب المنطق اليوناني اهتمام مثقفي عصر حازم بشكل ملحوظ جدا، وكان من الطبيعي أن نلقى أثر ذلك في تصور حازم لموضوع البلاغة، إذ صيرها علما منطقيا للأدب.