حليل نصّ : " الشكّ طريقٌ إلى اليقين " للجاحظ
التمهيد:
اهتمّ العرب المسلمون القدامى بنظريّة المعرفة التي تقوم على الإلمام بالكلّيّات المجرّدة .فدرسوا قنوات إدراكها من حواسّ ونقل وتجربة وعقل وضبطوا منهج تحصيل اليقيني منها .ولقد كان الجاحظ أبرز من تصدّى لذلك من العلماء والباحثين .
التّقديم المادّي :
أخذ النصّ من كتاب " الحيوان " الموسوعة المعرفيّة و الأدبية واللغوية التي كشفت عمّا في عالم الحيوان من أدلّة على حكمة الخالق .وهو لصاحبه الجاحظ الأديب والمفكر الذي عاش في المنتصف الثاني من القرن الثاني للهجرة والمنتصف الأول للقرن الثالث للهجرة .وقد كان من رؤوس مذهب الاعتزال الذي يعلي من مكانة العقل والنّظر .
تفكيك النّصّ :
المعيار: ثنائية الخبر ونقده
أقسام النصّ :
أ – القسم الأول : من بداية النّصّ إلى " تعضّ وتقتل " : طائفة من
الأخبار عن تكاثر الحيّات ( الأفاعي )
ب – القسم الثاني : بقيّة النّصّ : إبداء موقف نقدي من الأخبار المرويّة
والدّعوة إلى " الشكّ " المنهجي "
التّحليل المفصّل :
القسم الأوّل : دراسة الأخبار عن تكاثر الحيّات :
أ – السنّد : رواية الأخبار :
تعدّدت الأفعال الدّالة على الإخبار وتنوّعت وهي على التّوالي :" زعم" و"حدّث" و"خبّر" و"قال" .وهي تشترك جميعا في الدلالة على الرواية والنقل المصدر المهمّ من مصادر المعرفة .ولكن بينها فُوَيْرِقَاتٌ معنويّة دقيقة .
زعم : أورد خبرا مشكوكا فيه يحتمل التّصديق أو التّكذيب
حدّث: بلّغ أحدوثة وهي الحكاية التي تتضمّن أعجوبة
خبّر : أنبأ وأعلم
قال : أورد كلاما يفتقر إلى البيان والحجّة
هذه الأفعال الدالّة على انتقال المعرفة من طَرَفٍ (الرّواة) إلى آخَرَ ( الجاحظ وقرّاؤه) تختلف في درجة الإقناع وقوّته وتكشف عن التزام الجاحظ بالحياد في بداية الأمر.
كما أنّ سلسلة الرواة وهم أسانيد الخبر تنوعت هي الأخرى وتعدّدت:
ابن أبي العجوز : مروّض أفاع ( خبير ميداني بالأفاعي )
أيّوب : معتزلي ( صاحب فكر عقلاني )
اسحاق : رجلٌ من رجال الدّولة
آخرون : كثرةٌ في العدد ولكنّهم نكراتٌ بين النّاس
هؤلاء الرّواة متعدّدون ومختلفون في درجة الوثوق بهم .
ب – المتن : مضمون الأخبار:
الدّساس تلد ( والمتعارف عليه بين الناس أنها تبيض )
الأروية وهي ضأن الجبل : تضع مع مولودها أفعى ( والمعروف أنها تلد أروية مثلها لا غير )
النّمرة تضع كذلك مع مولودها أفعى ( والمعروف أنها لا تزيد عن ولادة النمور )
يكشف النظر السريع في هذه الأخبار عن أنها متضاربة ويكذّب بعضُها بعضًا .
أساليب النّفي أساليب التّأكيد
لا النّافية ( لا تعرف ، لا تقتل )
ليس ( النّاسخ الفعلي ) أن
قد + فعل ماض ( التحقيق )
لكن : أداة الاستدراك
ونستنتج من هذا كلّه أن الأخبار المنقولة ( النّقل ) هي مصدر غير يقيني لإدراك المعرفة .ذلك أن سبب الاطمئنان الرئيسي بل الوحيد إليها هو ثقة الرّواة . ولا يخفى أنّ الحكم على هذا أو ذاك بأنه من الثقاة مسألة أخلاقية ذاتية لا تقطع بيقين جازم. ف"بالحقّ يعرف الرّجال ولا يعرف الحقّ بالرّجال" . كما ذكر الغزالي .
القسم الثّاني : نقد الأخبار بمنهج الشكّ :
أ – الدّحض:
" لم أكتب " ، " لا يعجبني " : اعتمد الجاحظ أسلوب النفي لغاية دحض مصداقية تلك الأخبار ثم إنّه أشار إليها بصيغة النكرة " رواية " للتقليل من شأنها
" لم أكتب هذا لِتُقِرَّ به " : مفعول لأجله / نفى الجاحظ أن تكون غايته من نقل تلك الأخبار الإقرار بها وتصديقها
ب- مرحلة انتقاليّة :
" و لَكِنْ لِيَكُنْ قلبك إلى إنكاره أميل " : أداة استدراك تثبت حكم ما بعدها وهو الميل إلى إنكار الخبر وتنفي ما ورد قبلها وهو الإقرار بصحة الأخبار.
ج- الإقناع :
اعرف ، اعلم : إنشاء الأمر بصيغة الأمر
ليكن قلبك أميل " إنشاء الأمر بصيغة لام الأمر + فعل مضارع مجزوم
ووظيفة الأمر هنا توجيه المتلقّي لتبنّي الأطروحة وتتمثّل في أنّ اليقين في عالم الطبيعة لا نبلغه سوى باعتماد منهج علمي يرفض التسليم بالمرويات من الأخبار رغم تعدّدها وتنوّعها وكثرة رُواتها وما اشتهروا به بين النّاس ويسعى إلى الشكّ فيها والتّوقّف عندها بالبحث والتّمحيص والدّراسة والتبّت في مصادرها ومدى مطابقتها للوقائع .وهذا ما يطلق عليه ب "الشكّ المنهجي "الذي يستند إلى العقل
بنية النصّ الحجاجيّة:
1 – الأطروحة المدعومة : الفقرة الأخيرة من النصّ : ميل العوامّ إلى التسليم بالأخبار وتروّي العلماء في تقبّلها .
– الضمان / الحجّة:
الحجة الأولى : تضارب لأخبار المتداولة عن تكاثر الأفعى : حجة المثل
الحجة الثانية : أقوال العلماء ( ابن الجهم والمكّي ) : حجة القول / السّلطة
– الاستنتاج : موقف الجاحظ : ضرورة التمييز بين مواضع الشك ومواضع اليقين
النصّ قائم على ثنائية العقل والنّقل وبينهما حوار وجدل وسم الفكر العربي
الإسلامي منذ نشأة "علم الكلام " على يد المعتزلة إلى يومنا هذا .
معهد المكناسي / الجمهورية التونسية دروس العربية للرابعة شعب علمية واقتصادية الأستاذ: محمد نجيب قاسمي