أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله. والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء، ودون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه، وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان، ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه، حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه، ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه. ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت، وإنعام التفهُّم والتمهُّل، ليكون الاختيار بعد الاختيار، والحكم بعد التبيُّن.
وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره، مُبينٌ عن نفسه، مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره؛ إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن، وعلى الجوهر بالعرض، ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر.
وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا، غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا، وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن، بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس.
إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر، وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربّه واستصغار نعمته، والسَّخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صُعُداً، والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى. وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها.
الجاحظ ص 144..145