قصيدة النار
- 3 -
للأستاذ محمود عزت عرفة.
قصيدة النار
. . وقصيدة النار التي عقدنا لها هذا الحديث هي ما أنشده أبو تمام في حادث مقتل الأفشين وصلبه؛ وقد كان معبرا فيها ولاشك عن الشعور الذي ساد عاصمة الخلافة وقتذاك. ولعل القارئ فهم مما قدمناه عن محاكمة الأفشين أننا أميل إلى الانتصار له - ولكن الواقع تحقيق تلك القضية والبت فيها برأي حاسم يحتاج إلى أن يفرد له كتاب معدود الصفحات لا مقال محدود السطور. والذي يعنينا أن نذكره في هذا المقام هو أن أبا تمام كان صدى في قصيدته هذه للشعور العام، وخاصة الشعور العربي الذي ضاق ذرعا بنفوذ الموالي من العجم، وأرمضه ما تمكن لهم من النفوذ في مناصب السياسة والجيش. ندرك هذه الحقيقة من أشخاص الذين اختيروا لمحاكمة الأفشين، ومن الطريقة التي أعدوا بها الشهود ورتبوا مواقفهم. . . وندركه من بعض التهم نفسها في تلونها بروح الشماتة وتحامل العصبية، مع شيء غير قليل من التكلف والإسفاف. . . وندركه أكثر من ذلك، في هذه القصة التي يحكيها أسحق ابن إبراهيم المصبعي - أحد أعضاء هيئة المحاكمة - عن حديث جرى بينه وبين المعتصم بعد مقتل الأفشين قال له فيه: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فأفلحوا، واصطنعت أربعة فلم يفلح أحد منهم. قال أسحق: ومن الذين اصطنعهم أخوك المأمون؟ قال: طاهر ابن الحسين فقد رأيت وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم وأين مثل محمد؟ وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه، وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: أجيب على أمان من غضبك؟ قال: نعم. قلت له: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها؛ واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. فقال: يا أسحق، لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
لقد كان يتجاذب النفوذ في بلاط المعتصم حزبان كبيران: العرب ومن يعتصب لهم، والأعاجم ومن ينتمون إليهم. وكان رأس الحزب العربي القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد من حاكموا ألأفشين. وقد عاش في كنف المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل على التوالي فلقي منهم الإكرام والتبجيل جميعا. وكان ركن العرب عندهم وملاذهم الحصين، يشفع في مسيئهم فيشفع، ويلتمس الثواب لمحسنهم فيثاب.
وهو الذي استخلص أبا دلف العجلي من براثن الأفشين حين اعتل عليه ورام قتله، وكشف الغمة عن خالد بن يزيد الشيباني حين علقت به حبائل الدسائس وأمر المعتصم بنفيه إلى الحجاز وقد انضوى أبو تمام تحت راية هذا الحزب العربي بحكم طبيعته ونشأته وبتأثير من أدبه وثقافته. . وحسبك للتحقق من ذلك أن تسمع قوله لابن أبي دؤاد في بعض مدائحه:
أخذت بأعضاد العريب وقد خوت ... عيون كليلات وذات جماجم
فأضحوا لو اسطاعوا لفرط محبة ... لقد علقت خوفاً عليك التمائم
ولو علم الشيخان: أد ويعرب ... لسرت إذاً تلك العظام الرمائم
تلاقي بك الحيان في كل محفل ... جليل، وعاشت في ذراك العمائم!
والعمائم تيجان العرب كما قالوا، والشاعر هنا يكنى بها عنهم. . وندع الآن البحث في موقف الأفشين، مبغيا عليه أو باغيا، لنتحدث عن قصيدة أبي تمام التي نكرر أنه إنما أنشأها معبرا فيها عن شعوره وشعور عامة المسلمين في وقته؛ فهي من هذه الوجهة كلمة صادقة تفيض بالأحاسيس القوية، وآية من آيات الطائي لها على الأدب حق التسجيل.
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
ملك غدا جار الخلافة منكمو ... والله قد أوصى بحفظ الجار
يا رب فتنة أمة قد بزها ... جبارها، في طاعة الجبار
بمثل هذا الإنذار القوي العنيف يبدأ أبو تمام قصيدته. وكأنما هو يحاول أن يصك به آذان هؤلاء الموالي جميعا ممن ركبوا رءوسهم فتطاولوا على الانتقاص من كرامة العرب، بل حاولوا أن ينالوا بالأذى ولي نعمتهم المعتصم وهو الكفيل أن يهلك كل متجبر فيهم، امتثالا لأمر الجبار سبحانه في أمثالهم من أهل البغي.
ثم ما أسرع ما ينفذ أبو تمام إلى أول المعاني الخطيرة التي أعدها لهذا المقام، فالأفشين قد أوتي نعمة لم يبرها ولم يحسن القيام عليها لأنه غير كفء لها. فهو حري إذا أن يسلب هذه النعمة ولا كرامة، وأن يلقى بعدها الخسران والبوار جزاء وفاقا:
جالت بحيدر جولة المقدار ... فأحله الطغيان دار بوار
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وإسار!
كسيت سبائب لومة فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وتكرير التصريع في البيت الرابع من القصيدة (جالت بحيدر جولة المقدار) ينم على تدفق القريحة بالشعر، وانطلاق السجية فيه إلى مداها. فالمعاني تترافد على نفس الشاعر، والقوافي تقتتل في سبيل احتلال مواضعها من أبيات القصيدة. . وما بقى على السامع إلا أن ينتظر الروعة والجمال، والإبداع والافتتان.
وبعد أن يسجل أبو تمام مخادعة الأفشين لأمير المؤمنين، وكيده الذي ارتد إليه فأوبقه، وما كان يبيته لهذا الدين من شر ألبسه الله خزيه وعاره - يعود فيسجل العذر البين للمعتصم في اصطناع هذا الخائن، وفي غفلته سنين عما يبطن من النفاق، ويعتقد من الكفر والخلاف. فمثل هذا أمر قد تعرض له الرسول عليه الصلوات من قبل، وهو المعان من ربه ومن رأيه ومن مشورة صحبه بأعظم العون. وتعرض له أيضا الكرام الخيرة من آل هاشم:
هذا النبي وكان صفوة ربه ... من بين باد في الأنام وقار
قد خص من أهل النفاق عصابة ... وهمو أشد أذى من الكفار
واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح، لوحي، الله، غير خيار
حتى استضاء بشعلة السور التي ... رفعت له سجفاً عن الأسرار
والهاشميون استقلت عيرهم ... من كربلاء بأوثق الأوتار
فشفاهم (المختار) منه ولم يكن ... في دينه المختار، بالمختار
حتى إذا انكشفت سرائره اغتدوا ... منه براء السمع والأبصار
وهذا توجيه بارع لموقف المعتصم، وتعزية جميلة له في خطبه، فالأفشين صنيعته، ومجده صنع يديه. وهذه الخيانة إن دلت على شيء فإنما تدل على سوء الاختيار وخطأ التقدير، وعلى أن المعتصم لغفلته (قد استعمل فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها) كما قال أسحق بن إبراهيم. وأبو تمام حين يلتمس الأعذار اللطيفة أو يتنقر البراهين القوية، لا يجد أرحب من التاريخ سجلا للحوادث، ولا موردا للأسى والعبر. . فليكن للمعتصم في انخداعه أسوة بالرسول وآل بيته، خدعوا في اختيارهم، ولم يصيبوا في بعض تقديرهم، فما نقصهم ذلك فضلا، ولا أعلق بهم مذمة.
والمشار إليه في قصة الرسول عليه الصلوات هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح. صحابي أسلم قبل الفتح واستكتبه النبي عليه السلام، فكان يكتب موضع الغفور الرحيم، العزيز الحكيم. . وأشباه ذلك. فأطلع الله عليه النبي عليه السلام فهرب إلى مكة مرتدا، وفيه نزل قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه، ثم استأمن له عثمان، فأمنه الرسول.
وفي أخبار أبي العيناء أنه دخل على عبيد الله بن سليمان فشكا إليه حاله فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقته في طلبتي. قال: أنت اخترته. قال: وما علي أعز الله الوزير في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتبا فرجع إلى المشركين مرتدا؛ واختار علي ابن أبي طالب أبا موسى حاكما له فحكم عليه!
وأما (مختار) بني هاشم الذي يشير إليه أبو تمام فهو المختار ابن أبي عبيد بن مسعود الثقفي. كانت لأبيه في الإسلام آثار جميلة. والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث. وكان يزعم أنه يوحي إليه في قتلة الحسين فقتلهم بكل موضع. وقتل عبيد الله ابن زياد. وله أسجاع يصنعها وألفاظ يبتدعها، ويزعم أنها تنزل عليه وتوحي إليه.
وإشارة أبي تمام إلى المختار الثقفي تنطوي على معنى دقيق، فهو رجل على خبث طويته وانحراف مذهبه قد خدم آل البيت، بما أبلى في الدفاع عنهم، وبما أراق من دم أعدائهم. ثم تمادى به طغيانه فزايل الحق وتنكب عن نهج الدين، فكان أن قاتله مصعب بن الزبير حتى قتله (في رمضان سنة 67هـ). وهكذا عفى بما أحدث من شر على كل ما سلف له من خير. ومثل هذا صنع الأفشين حين أبلى في الجهاد السنين ذوات العدد، ونصر الدين بسيفه كما لم ينصره قائد؛ ثم محا ذلك كله بما تكشف من غدره واستبان من كفره.
ويخلص أبو تمام من احتجاجه للمعتصم، هذا الاحتجاج الذي حشد له عقله وعلمه ليعود إلى ذكر غدر الأفشين فيقول:
ما كان لولا فحش فجرة حيدر ... ليكون في الإسلام عام فجار
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
قال أبو العيناء: انصرفت يوما من عند ابن أبي دؤاد، فدخلت إلى محمد بن منصور، فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدة له في الواثق، أولها:
عفت الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر
فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل. فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين. فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها! فقال: هاتها. فأنشده:
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:
مازال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
ناراً يساور جسمه من حرها ... لهب، كما عصفرت نصف إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها ... أركانه هدماً بغير غبار
ففصلن منه كل مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكل فقار
. . . قال راوي الحديث: ثم ذكر المصلبين فقال:
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدرعاً من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون، ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار
فقال عمارة: لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءا له. قال أبو العيناء: فاعتقدت في أبي تمام من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأي من قبل!.
لقد نالت هذه القصيدة إذا غاية الإعجاب منذ إنشادها، وبلغت من ذلك حظا لم تنافسه فيه إلا قصائد لأبي تمام معدودة. منها - فيما نرى - قصيدتاه اللامية والنونية في الأفشين أيضا.
وهما مدح له وتنويه في إبان تألق مجده وهكذا يتفوق أبو تمام في الحديث عن ألأفشين مادحا له في حياته أو قادحا فيه بعد موته.
ويبدو لنا أنه كان صادق التأثر مطبوع المعاني في كلتا الحالتين. أما اللامية فقد اقترح عليه إنشاءها عبد الله بن طاهر والي خراسان وهو على بابه بنيسابور، وقت أن كان الأفشين يعصف بقوى البابكية في أرشق. ومطلع هذه القصيدة: (غدا الملك معمور الحرى والمنازل)
روى أبو بكر الصولي قال: استنشد خالد بن يزيد أبا تمام قصيدته في الأفشين التي ذكر فيها المعتصم، وأولها:
غدا الملك معمور الحرى والمنازل ... منور وحف الروض عذب المناهل
فلما بلغ إلى قوله:
تسربل سربالاً من الصبر وارتدى ... عليه بعضب في الكريهة قاصل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل
قال له خالد: كم أخذت بهذه القصيدة؟ قال: ما لم يرو الغلة، ولم يسد الخلة. قال: فإني أثيبك عنها. قال: ولم ذاك، وأنا أبلغ الأمل بمدحك؟ قال: لأني آليت لا أسمع شعرا حسنا مدح به رجل فقصر عن الحق فيه، إلا نبت عنه. قال: فإن كان شعرا قبيحا؟ قال: أنظر فإن كان أخذ شيئا استرجعته منه!
فهذا نصيب اللامية وحظها من التقدير، أما النونية التي مطلعها (بذ الجلاد (البذ) فهو دفين) فقد مدح بها أبو تمام الأفشين عندما قدم ببابك إلى سر من رأى، فأمر الخليفة باستقباله وأفاض من نعمته عليه. يقول الطبري: توج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم منها عشرة آلاف ألف صلة، وعشرة آلاف ألف يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر (223هـ). وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما إن به إلا الوحوش قطين ثم أورد من القصيدة أبياتا. ويبدو أن أبي تمام لم ينصف في هذه القصيدة أيضا، فقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن المعتصم (أمر للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلثمائة ألف درهم، جرت تفرقتها على يد ابن أبي دؤاد. فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، وأعطى أبا تمام عشرة آلاف). وقصيدة محمد بن وهيب مطلعها:
طلول ومغانيها ... تناجيها وتبكيها
ومنها قوله:
بعثت الخيل، والخير ... عقيد بنواصيها
قال أحمد بن أبي كامل: قلت لعلي بن يحيى بن المنجم: أولا تعجب من هذا الحظ، يعطي أبو تمام عشرة آلاف درهم وأبن وهيب ثلاثين ألفا، وبينهما كما بين السماء والأرض، فقال: لذلك علة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.