في السنوات الأخيرة شاع في الخطاب الإعلامي والسياسي والأكاديمي ما يسمى بـ "ثقافة الصراع" فبات القوم يتحدثون عن صراع الطبقات الاجتماعية، وصراع الثقافات، وصراع الحضارات، وصراع الأديان، وصراع الإيديولوجيات، وصراع الأفكار.. وفي مقابل هذا الصراع نلفي جمهرة من المثقفين والمفكرين وكذلك بعض رجال الإعلام يشذبون ويعدلون من قسوة هذا الصراع ويدعون إلى الحوار بدل الصراع،فنجدهم يتحدثون عن حوار الحضارات، وحوار الأديان، وحوار الأفكار..لأجل إسعاد الإنسانية وفق قاعدة الاعتراف المتبادل بين البشرية جمعاء، وقد برز في العالمين الغربي والعربي الإسلامي مفكرون ومثقفون أفنوا جزءا من حياتهم في الدعوة إلى الحوار بين الأفكار والثقافات ضدا على ثقافة الانغلاق والتكلس والتمركز حول الذات، ونذكر من بينهم الأمريكي نعام تشومسكي والفرنسي روجي كارودي والسويسري طارق رمضان والايطالي أمبرطو إيكو والمصري عبد الوهاب المسيري والفلسطيني إدوارد سعيد والإيراني محمد خاتمي..الخ.
غير أنه من تابع البهرجة والتحريض المتبادل وتهييج الجماهير بدل تنويرها التي رافقت مقابلة في كرة القدم ما بين فريقين(= مصر والجزائر) تجمعهما الثقافة والدين والحضارة والتاريخ المشترك ... يجعلنا نعيد ترتيب حساباتنا الثقافية والفكرية والسياسية والحضارية. فما وقع من تحريض واحتقان بلغت شظاياه إلى السياسة والعلاقات الدبلوماسية بين بلدين شقيقين يجعلنا نقر أننا نعيش صراع التفاهات، وان الوطن العربي ليس بخير، إته مريض يعاني من مرض خطير لم تبلغه من قبل الأمة العربية والإسلامية.
إن النظام العربي الرسمي لم يعد له شيئا يمكن أن يدافع عنه ويقنع الجماهير المسحوقة بتبنيه والدفاع عنه. ما عادت الشعارت الجوفاء والخطابات العصماء تقنع أحدا، لقد تاجرت الأنظمة العربية الرسمية بالثورات الكاذبة والمشاريع الفاشلة، وتاجرت بالأمن القومي والقضية الفلسطينية، وتاجرت بالإسلام والطائفية المقيتة وشراء الذمم وتأميم كل المشروعيات الاجتماعية التي تتوكأ عليها المعارضة : الدين والوطن والتاريخ. ولم يعدلها ما تقدمه للشعوب سوى التفاهات. لذلك ما رأيناه وتابعناه من تحريض إعلامي غير مسبوق يدخل في إطار ما سميناه بصراع التفاهات.
هذه حقيقة لا يستطيع أن ينكرها إلا منافق/انتهازي..غير أنه ما أحزنني شخصيا هو ما طالعته لبعض الكتاب الذين أكن لهم احتراما وتقديرا من انجرار لخطاب تحريضي متجاوب مع ما يشتاقه الحكام في مصر والجزائر، لم أستسغ كلاما من مثقف جزائري معارض من طينة يحيى أبو زكرياء في مقال معنون بـ" بين دولة المليون شهيد ودولة المليون راقصة" يقول الكاتب أبو زكرياء: " ولا يمكن بأية حال أن نقارن بين دولة المليون شهيد، ودولة المليون راقصة، و الذين أهانوا الشعب الجزائري و أحرقوا العلم الجزائري، فيما العلم الصهيوني يرفرف في القاهرة، وسوف لن يقبل منهم اعتذار، و سوف نرى من يقود العالم العربي والإسلامي نحو المجد والعزة والكرامة و الإباء أحفاد الشهداء أم الذين ملأوا الدنيا عهرا براقصاتهم وأفلامهم الماجنة التي فسقّت نساءنا وبناتنا ..."
قد أتفهم من السيد يحيى هجومه على النظام المصري، وقد نتفق معه فيما يذهب إليه من كون هذا النظام سجن مناضلين عرب من لبنان وفلسطين وعذبهم إلى أن فارق البعض منهم الحياة كما وقع لبعض قادة حماس وهو شقيق القيادي سامي أبو زهري، وقد نتفهم هجومه على نظام مبارك الذي أصبح شريكا في العدوان على قطاع غزة وعدوا لقوى الممناعة العربية في المنطقة..لكن لا يمكن أن نتفق معه في إطلاق الكلام على عواهنه بصيغة تعميمية حين يعتبر أن شعب مصر يتألف فقط من مليون راقصة!!
لا يمكن لأي كان أن يتجاهل الدور الريادي لمصر. فمصر كبيرة وغنية على المستوى الثقافي والحضاري والفكري، لكن هناك من يستعمل شعار(مصر كبيرة) في غير محله من مثقفين عنصريين وفنانين مغشوشين، نعم مصر كبيرة ولا ينكر هذا إلا جاهل أو متكبر، مصر الفكر والثقافة والسياسة والفن... هي كبيرة فعلا، ولهذا لما ظهرت التيارات السياسية في مصر كالتيار القومي والتيار الناصري والتيارات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين..ظهرت هذه التيارات في جميع البلدان العربية من موريتانيا إلى العراق، من المحيط إلى المحيط، أما على المستوى الفني لا أحد لا يطرب مع أغاني أم كلتوم ومحمد عبد الوهاب، أو لم يقرأ نجيب محفوظ والعقاد والمازني وطه حسين، ويشاهد فن السينما والمسلسلات الراقية على المستوى الفني والجمالي، ناهيك على أن عصر النهضة العربية انطلق من مصر، وأن أغلب ممثليه من مفكرين كبار اشتهروا كونهم مصريين في حين أن أصولهم غير مصرية وربما غير عربية فجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي وغيرهم تعلموا في مصر وردوا لها الجميل وبعدها هاجروا إلى بلاد فارس وتركيا يعلمون الناس وينشرون الوعي بين الناس في المدارس والمنتديات وتركوا تراثا فكريا غنيا لازال قبلة للدارسين والباحثين والمهتمين.
إن صراع التفاهات ما بين بلدين شقيقين يستبطن مرضا عضالا يعاني منه النظام العربي الرسمي ولا شك، ظهرت أمارته بمصر في شكلها الرسمي، فمصر لا تستحق هذا الواقع الذي تعيشه، كانت مصر فيما مضى لها عمق استراتيجي يمتد من بلاد فارس(إيران حاليا) إلى تركيا والجزائر، وكانت مصر قبلة لحركات التحرر العربية والعالمية، كانت مصر تدافع عن أمنها الوطني في كل بلاد العرب، مصر انكفأت عن نفسها وأصبحت تحارب بسيوف من خشب في معارك تافهة لا يلتفت لها من غلغل الفكر في المعطى الحضاري لمصر الكبيرة بمثقفيها ومفكريها وساستها وفنانيها. وإذا مرضت مصر فأكيد أن العالم العربي مريض يعيش صراعا داخليا بين الطوائف والفصائل والعشائر والقبائل تغذيه آفة الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي، وكم كان صادقا الشاعر العراقي طراد الكبيسي لما قال:
خرج الأندلسيون من الأندلس عام 1492
وخرج الفلسطينيون من فلسطين عام 1992
فمتى يخرج العرب من بلاد العرب ؟!
أكيد أن الخوف يا طراد الكبيسي كل الخوف أن يخرج العرب من بلدان العرب بعدما نجد أن كل التقارير الدولية على مستوى التعليم والصحة والحكم الرشيد تجعل كل دول العالم العربي في آخر الترتيب.
إن الأزمة التي نحياها في عالمنا العربي والإسلامي، هي أزمة حضارية شاملة أساسها سياسي بالدرجة الأولى، فحين تشيع ثقافة الاستبداد في الحكم، أكيد أن ثقافة القطيع تصبح هي السائدة، والنتيجة هي أنه لا فكر ولا ثقافة ولا مواطنة مع عقلية القطيع.... القطيع ينتظر من يفكر له و"يرعاه" (= من الرعي) ليسمنه فيذبحه.
ولنتواضع ونعترف أننا في عالمنا العربي والإسلامي لسنا شعوبا ولا مواطنين...نحن الدواب.. بل أضل !
ملحوظة:
"يغلبك الزمان ولا تغلبك المرا " كما يقال في المثل الشعبي،المرأة المغربية مع مدونة الأسرة غلبت الرجل وهزمته في "عقرداره" بينما أميناتو الصحراوية/غير المغربية برأيها هزمتنا جميعا "في عقر وطننا" وورطتنا هي أيضا في صراع التفاهات،فالمؤسف حقا أن النقاش الإعلامي بدا متحيزا للجهة الرسمية الغالبة إلا من رحم ربك،ويبدو أن هذه ليست مهمته كما يفترض...يا أميناتو كلنا صحراويون . لكننا نختلف في الأدوارحتى لا أقول الوظائف..
نورالدين لشهب