الكلمـــــة الحـــــرّة
الكلمـــــة الحـــــرّة
الكلمـــــة الحـــــرّة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الكلمـــــة الحـــــرّة

منتدى ثقافي عام
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
م.ح المستيري
عضو



عدد المساهمات : 1
نقاط : 16068
تاريخ التسجيل : 28/03/2010

الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية Empty
مُساهمةموضوع: الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية   الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية I_icon_minitimeالأحد مارس 28, 2010 2:55 pm

مقــــــدّمة

مثلت الذكرى العشرون لتغيير 7 نوفمبر1987 مناسبة لعودة الجدال حول المشهد السياسي بتونس وأوضاع الحريات وآفاق المشاركة في الحياة العامة. ولئن حرصت السلطة في هذه المناسبة على إبراز جوانب التغيير في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وعلى تعداد المكاسب، فإن التوجه العام للمتابعين يرجح تقدّما ملحوظا في كثير من الملفات، مع بقاء الإصلاحات السّياسية دون المأمول، وهو ما سنركّز عليه الاهتمام في هذا النّص.

ففي ظل استمرار الاختلال الفادح في موازين القوى بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمعارضة، وعدم تقدم أيّ طرف سياسي بما في ذلك الحزب الحاكم، بمبادرة لتطوير المشهد السياسي وحلحلة الوضع الذي يعاني من الجمود والاحتقان، ظلت الإنتظارات مشدودة إلى خطاب رئيس الدولة بمناسبة العشرينية. ويهمّنا بصفتنا ناشطين في الحياة العامة من مواقع مختلفة، واستنادا إلى ما سبق أن عبرنا عنه من آراء في نصوص سابقة، في إطار الحوار الوطني المتأكد على طريق المسار الديمقراطي المنشود، أن نسهم بهذا النص السياسي الجديد آملين في التواصل والتفاعل وإثراء الحوار في علاقة غير خافية مع ما تم التعبير عنه بصيغ مختلفة، قبل الخطاب الرئاسي في العشرينية أو بعده.

أكد خطاب 7 نوفمبر 2007 الإستمرارية ولم يؤشر لمراجعة جوهرية لسياسة السلطة، لكنه ظلّ مفتوحا على إمكانيات للإصلاح. لذلك رأينا من المهمّ فهم نسق الإصلاحات السياسية البطيء وتتبّع حراك المشهد السياسي المحكوم بجاذبية التسلّط وجاذبية الديمقراطية للتفاعل معه بما يحرّك المسار نحو الديمقراطية في علاقة بتعقيدات الواقع وخصوصيات المرحلة. فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عرفتها تونس منذ الاستقلال، تبدو تأثيراتها واضحة وتدفع باتجاه التحرّرية. كما أنّ التطوّر الحاصل في خطاب النخب يتيح أكثر من أي وقت مضى رصد تقاطعات هامة بين السلطة والمعارضة من أجل إنهاء التنافي والبناء على المشترك والتوافق على الهوية وتعزيز التعددية وضمان الاستقلالية ودعم الاستقرار، بتحقيق منظومة مشاركة متطوّرة تتيح تنافسا سياسيا على أرضية تعددية حقيقية، يمكن أن يتجه إليها المسار السّياسي إعدادا للاستحقاقات الوطنية القادمة.

جاذبية التسلّط وجاذبية الديمقراطية

مسار سياسي محكوم بجاذبية التسلّط

اتّسم النظام السياسي بتونس بعد الإستقلال بالحكم الفردي وعدم التوازن بين السّلط والمركزية المفرطة وضعف استقلالية الجماعات المحلية ومكونات المجتمع المدني وهيمنة الحزب الحاكم على مفاصل الدولة والمجتمع واستعمال الإدارة للسيطرة الاجتماعية. وبعد 50 سنة من الجمهورية وعشرين سنة من تغيير 7 نوفمبر 1987 مازال الخيار السياسي للسلطة تحرّكه جاذبيات عديدة أبرزها جاذبية التسلّط، رغم حضور الديمقراطية وحقوق الإنسان باستمرار في الخطاب الرّسمي الحالي. ومازال الحذر والبطء غالبين في ملف الإصلاح السياسي وهذا ما يفهم من خطاب رئيس الدولة بمناسبة عشرينية التغيير.

أكد الخطاب الاستمرارية وأبقى أبواب الأمل في الإصلاح والتطوير مفتوحة، ذلك أنه أعاد التأكيد على" أن خيار التعددية خيار لا رجعة فيه وأن الأحزاب السّياسية في الحكم وفي المعارضة هي أطراف المعادلة الديمقراطية والتنافس النزيه" وهذا يعني أن التعددية التي أقرّت في الدستور ليست مستهدفة في وجودها، وإن ظل الخطر يهدّد وظيفتها وفاعليتها. فالتعددية صارت من متطلبات الحكم نفسه وهي عنوان تحرره السّياسي، فضلا عن دورها في امتصاص الاحتقان ودفع مخاطر العنف السياسي. وحصر الخطاب الإجراءات المختلفة لدعم التعددية في الأحزاب الممثلّة بمجلس النواب، في إشارة واضحة إلى أن السّلطة تضع للعمل السّياسي إطارا عاما لا ينفتح على الأحزاب التي تظلّ خارج التوافق. "فالوفاق دعامة للاستقرار السّياسي، والحوار قاعدة للسلم الاجتماعي" كما جاء في خاتمة الخطاب الذي لم يهاجم المعارضة الخارجة عن الوفاق، وفي الوقت نفسه لم يشملها بأية إجراءات ولم يؤشر لمراجعة جوهرية للمسار السياسي. فالحذر والاستمرارية الّذان صبغا هذا المسار انعكسا في مزيد تخفيف القيود التي كبّلت العمل السياسي ومنح المعارضة هامشا أكبر، لكن بما يبقي الحزب الحاكم مسيطرا على الوضع.

وهكذا أبقى الخطاب المعارضة في إطار منظومة تحدّد السلطة قواعدها وشروطها سلفا ولا يمكن أن ترتقي إلى مرتبة الشريك الوطني إلا الأحزاب القابلة بهذا الإطار ولا يمكن مساءلة هذه المنظومة إلا من الداخل، وهو ما ترفضه الأحزاب المستقلّة وتعتبره دون الوعود التي أُعلنت لتأهيل الحياة السياسية.

إن الإبقاء على هذه المنظومة التي تبيّنت محدوديتها، ينبع من تخوّف السّلطة من تبعات تسريع نسق تحرير الحياة السّياسية، الذي يتطلّب بناء الثقة وطمأنة كل الأطراف حول اتجاهات الإصلاح وتجاوز تراكمات المرحلة السّابقة ومعوّقات البيئة السّياسية. وإذ نتفهّم تريّث السلطة وحذرها فإنّنا لا نراهما مبررين للجمود والانغلاق السّياسيين المكرّسين للاحتكار. ولا بد من الاعتراف بأن نسق الإصلاح السّياسي بطيء جدًّا ومكبّل للطاقات ومعطّل لحركة التغيير. فالتدرّج جزء من الثقافة السياسية التونسية، إلا أنّ من سماتها أيضا الجرأة في الإصلاح كما حصل في إقرار مجلة الأحوال الشخصية وإصلاح نظام التعليم والانفتاح المبكّر على الاقتصاد المعولم. و بدون جرأة ما كان تغيير السّابع من نوفمبر نفسه ليحصل.

إنّ ممّا عطّل تأهيل الحياة السياسية، في تونس عدم قبول السّلطة بمعارضة مستقلّة وهو ما يتجلّى في الحصار الأمني والسياسي والمالي والإعلامي المفروض عليها، الأمر الذي حرم البلاد من بيئة تعدّدية تزخر بالحيوية والإبداع والحرية ومن طاقات عديدة، لم يسمح النظام السّياسي والمؤسسات القائمة ومنظومة الوفاق، بالاستفادة منها. وبقي الحزب الحاكم يتحرك بأفق تحرري ضيق وبثقافة وسلوك سياسيين مشحونين بمصطلحات إقصائية وصور نمطية سلبية للمعارضة، وهي أبرز مظاهر جاذبية التسلط التي ما زالت تحكم الحزب الحاكم وأجهزة الدّولة.

إن تأهيل الحياة السّياسية يتطلب مراعاة ثراء المشهد العام وتغذية عنصر التنافس فيه، وتقاسم المعارضة والسلطة الوعي بالتهديدات والتحديات، والتمسك بالجمهورية وقيمها ومبادئها وتوخي منهج التدرج في الإصلاح. إذ في غياب هذا يبقى الاستبداد جذاّبا للبعض مقابل عنف جذّاب للبعض الآخر في مشهد تضيع فيه فرص التحرّك بجاذبية الديمقراطية.

إذا كانت سلطوية النظام تدعو للقلق فإنّ ضعف جاذبية الديمقراطية لدى المعارضة يدعو إلى قلق أكبر. فاستهداف استبداد السّلطة لا يؤدّي بالضرورة إلى الديمقراطية. واعتقاد النخب في الديمقراطية والتزام الأطراف السّياسية بها، وهو ما لم يتأكد بعد (ضعف التحررية الفكرية والنقد الذاتي والتسامح، رفض النقد...) لا يكفيان ليزول الاستبداد أو لتقلّ وطأته. كما أن المعارضة الرّاديكالية عبرت خلال السنوات الأخيرة عن مطالبها ورفعت سقف احتجاجاتها واعتمدت التصعيد وأعطت التبريرات المبدئية والأخلاقية والنظرية لخياراتها فتفاعلت معها بعض المجموعات، ومع ذلك ظل الناس بعيدين عن هذا التمشّي، مما أعطاه طابعا نخبويا ذا تأثير شعبي ضعيف. فلكي تبرز الديمقراطية كخيار جذّاب، لابدّ أن تكون ثقافة اجتماعية ومطلبا شعبيا ووعيا جماعيا، يدرك النّاس أثرها في حياتهم اليومية وعلى مصالحهم.

ومن جهة ثانية فإن النّظرة الميكانيكية في التخلّص من الاستبداد، القائمة على إلغاء نظام فاسد (لا يصلح ولا يصلح) والدعوة إلى بديل مكانه، أبرزت ضيق أفقها، وبينت الحاجة إلى استحضار صور أخرى وتعبيرات جديدة لمواجهة التعقيدات والتناقضات والضغوطات والإستفهامات. فالنظام السياسي بناء معقّد يبرز للوجود من خلال الحركة والتفاعل. وإذا كان إصلاحه ليس أمرا هينا فإن ذلك في كلّ الأحوال أقلّ كلفة من بناء نظام جديد. فالسعي إلى إرساء نظام سياسي جديد على أنقاض النظام القائم، بقطع النظر عن واقعيته، يظلّ بدوره محكوما بجاذبية التسلّط.

ومن الأجدى أن نتجه نحو الممكن أين تتوفر فرص الإصلاح لا حيث إغراء الفرضيات القصوى. فالتجارب الناجحة في الإصلاح تذهب بعيدا في خلق ارتكاز للوضع الجديد في الواقع القائم وتوفّر مدخلا لفهم جاذبية التسلط وما يجب فعله لتقوية جاذبية الديمقراطية. والنّجاعة السياسية تتطلّب البراغماتية والتركّيز على تعاون الناس وتفاعلهم، لا على إملاء اتجاه معيّن عليهم. وبتطوير أداء السلطة وأداء المعارضة يمكن تطوير منظومة المشاركة والوصول تدريجيا إلى إبراز ديمقراطية تونسية المنشأ.

تحولات تحررية تعزّز جاذبية الديمقراطية

وضعت النخبة الحاكمة تونس بعد الاستقلال على درب الإصلاح من خلال رؤية تحديثية متكاملة. وما نروم التوقف عنده في هذه المناسبة هو رصد درجة التحررية داخل المجتمع وتتبّع مدى تناغم نسق الإصلاح السياسي ومساره مع التحوّلات التي عرفتها بلادنا وشهدها العالم خلال العقدين الأخيرين خاصة.

تقدمت البلاد خلال العقود الخمسة الماضية على نهج الإصلاح الذي لم يكن سهلا ولا خطّيا، بل عرف صعوبات والتواءات، وتسارع نسق الإصلاح أحيانا، وتعطل أحيانا أخرى. ومهما قيل عن النظام السياسي وسلطويته المفرطة، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه حمل مشروعا تحديثيا حرّكته ثقافة إصلاحية. ممّا مكّنه من تحقيق نتائج تنموية أبرزها نشر التعليم وتحرير المرأة وتخفيض مستوى الفقر وتحسين مستوى العيش وتوفير مناخ من الاستقرار.

وإذا كانت البلاد قد أقدمت على إصلاحات إقتصادية ليبرالية مصيرية وجريئة، فإن المواقف قد تباينت بين مبرر لهذا التوجّه المدفوع بإرادة الإصلاح وبين منبّه من زحف رأسمالية كاسحة واقتصاد سوق جشع على حساب الأجراء والفئات الضّعيفة. ولا زال هذا الجدال متواصلا لإدخال تعديلات ضرورية على المسار الليبرالي الذي تواصل خلال العقدين الأخيرين بدفع خارجي وبمقاربة سياسية اعتمدت على أولوية الأمن والاستقرار وعلى جهود حكومة تكنوقراطية مهنيّة وتخطيط مركزي وجهاز إداري بيروقراطي ثقيل.

رغم كلّ الإصلاحات والتغييرات التي ذكرت، مازالت الدولة مهيمنة على المجتمع وبدرجة أقلّ على الاقتصاد ومازالت ممارسة السلطة غير مقيّدة ومازال الحذر الشديد يحول دون أي خفض للسّيطرة أو تحوّل نحو استقلالية وتعدّدية حقيقييّن. ومع تراجع الدور الاجتماعي للدولة والخوف من الفراغ الذي ستتركه، أنتجت السلطة مجتمعا مدنيا على شاكلتها يتحرك بجاذبية التسلّط ( أحادية، ولاء...) ولم يلعب الدور المرجو للإسهام في تكريس التعدّدية والتحرّرية ودعم القدرة على التكيّف مع المتغيرات.

1. تحولات اجتماعية تحرّرية

يتميز المجتمع التونسي اليوم بخصائص عديدة تدعو إلى تعميق النظر والتحليل، لاستشراف إمكانيات تطور النظام السياسي. فمع تعميم التعليم وارتفاع مستوى العيش، تشكلت طبقة وسطى هامّة وتقلّصت أهمّية الريف وتجاوزت نسبة التمدن 65%، وتغيّرت احتياجات التونسيين وانتظاراتهم ووعيهم بحقوقهم. ومع التحوّل السّريع للمجتمع نحو الاستهلاك وتراجع المقدرة الشرائية وبروز مظاهر الثراء الفاحش، وتعمق الفوارق الاجتماعية، بدأت أصوات التذمر لدى الطبقة الوسطى تتعالى وتطالب بالمشاركة السياسية وبحرّية التعبير. فليس من المصلحة التغاضي عن شرعية هذه التطلعات بل يجب إدراجها كجزء لا يتجزأ من عملية تطوير البلاد وتحديثها.
كما أظهرت الدراسات الأخيرة حول التحولات الأسرية أن كل فئات المجتمع، في الحضر والريف، قطعت أشواطا كبيرة على درب الحداثة، وهذا ما عكسته تحولات عميقة في مستوى المعارف والسلوكيات الفردية والجماعية، لعل أبرزها ارتفاع معدلات العزوبة لدى الجنسين وتحوّل أشكال تكوين الأسرة وأنماطها وتوزيع الأدوار داخلها وحجمها ووظائفها، إضافة إلى أساليب العيش المختلفة التي تتداخل في مجتمعنا وتتمازج دون تضارب أو تصادم ، وهي مؤشرات هامة من حيث مقتضيات التحول الديمقراطي.

إن العلاقة وثيقة بين نوعية الحياة الأسرية في المجتمع ونوعية الحياة السياسية فيه. فالنموذج النواتي للأسرة الذي أصبح يمثل القاعدة سواء في الريف أو في الحضر ومعدلات الخصوبة التي استقرت في حدود %2.2 ونسبة النساء النشطات التي ستتجاوز قريبا 30% مع التحسن في تمكين المرأة وتجسيم المساواة بينها وبين الرجل، كلّها مؤشرات تنبئ بتحولات ذهنية عميقة سوف تدفع المجتمع بالضرورة للتخلي عن الأدوار التسلطية المستبطنة وتشجع بروز ثقافة قائمة على الحوار والمسؤولية والتعاون، مما يدفع بالمجتمع نحو التقدم للمشاركة السياسية بعقلية تحررية أكبر.

إنّ هدف المشروع التحديثي والإصلاحات الجريئة التي عرفتها البلاد، لم يكن الازدهار الاقتصادي فحسب، بل أيضا ضمان الكرامة والتحرّر والتمكين والحقوق. ومن التناقض التنكّر لتلك الأهداف التي تجسّد معنى المواطنة والتي لا تكتمل إلاّ بتطوير الحياة السياسية.

2. تحولات تستدعي المشاركة

انطلقت الدولة في تحرير الاقتصاد وخصخصة القطاع العام وشرعت أبوابها أمام الاستثمار الخارجي وخفّضت الضرائب وقدّمت الحوافز لجلب الاستثمار وعقدت صفقات للتجارة الحرّة وطوّرت بنيتها التحتية بما فيها الإتّصالية والرقمية. تعددت الإصلاحات الهيكلية وبدت المكاسب جليّة، فحقق الاقتصاد الوطني على مدى العشرية الأخيرة متوسط نموّ 4,5% وتطوّر الإستثمار وخلقت مواطن شغل وتنوّع الاقتصاد وانتعش القطاع الخاص حيث أصبح يمثل % 55 من حجم الاستثمار وتحسنت الإنتاجية والقدرة التنافسية في القطاعات الواعدة وتقلّص الفقر وارتفع مستوى الدخل الفردي. إلاّ أنّ الدراسات التي أنجزها الإتحاد العام التونسي للشغل كشفت أنّ الطبقة الوسطى وخاصة الأجراء منها لم تنعم بنفس الدرجة بإنجازات النموّ وأنّ الأجور تعاني الركود نتيجة للتضخّم وتراجع الدّور الاجتماعي للدولة .

إنّ الضغوطات المختلفة لتقليل كلفة الأعمال قصد ملاءمة الاقتصاد التونسي مع المنافسة العالمية، تشكّل مصدر توتر سياسي واجتماعي إضافي، كما أنّ الإجراءات اللّيبرالية تنذر بمزيد تراجع تدخل الدولة في المجال الاجتماعي وتبقيها متأرجحة بين العقلانية الاقتصادية من جهة والحس الاجتماعي الذي طبع سياستها منذ قيامها من جهة أخرى. هذا إضافة إلى ظاهرة البطالة لاسيما في صفوف حاملي الشهائد التي تتصدّر مشاغل المجتمع.
كما أنّ تراجع دور الدّولة الإيديولوجي (التحديث القسري) والاقتصادي (الإقتصاد الموجّه) والاجتماعي (الدّولة الرّاعية) يبدو مسارا مدفوعا بجاذبية الديمقراطية ولكنه محفوف بالمخاطر.

قد تختار السلطة في مواجهة الأزمات المحتملة مزيدا من التحكم في حركية المجتمع وتحترس من أي نهج تحرري، لكن لم يعد ممكنا اليوم أمام التحديات المذكورة طلب الشرعية من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية فقط. فمطالبة السلطة الشعب بالتضحيات تتطلب قدرا كبيرا من الشرعية في الحكم ومن المشاركة في صياغة القرارات وتحديد الخيارات. لذلك يكون من الضروري فسح المجال للاختلاف والاحتجاج والتنافس بين الخيارات، لا كرها للوفاق ولا حبا للخلاف ولا رغبة في زعزعة الاستقرار، بل لأنّ الاقتصاد اللّيبرالي بالضرورة يخلق تباينات، واختلافات في المصالح وفي الأدوار. وعلى الدولة ضبط آليات فعّالة وعادلة لإدارة التناقضات.وإنّ الطبيعة المعقّدة للأوضاع تتطلب رفع نسق الإصلاح مع توخي الواقعية والتدرّج.

ومن جهة أخرى فإن العولمة لا تدفع عمليا باتجاه جاذبية الديمقراطية كما يُروّج لها، خاصة مع التركيز على مقاومة الإرهاب وتراجع الاهتمام الدولي بنشر الديمقراطية وتكريس حقوق الإنسان. فالعولمة الاقتصادية تسببت في بروز فوارق اجتماعية متزايدة، ولم تأت بالديمقراطية باعتبارها عنصر ضغط على الأنظمة المطالبة بضبط التذمّر في صفوف الفئات المحرومة من منافع العولمة. كما أنّ النظام العالمي الجديد قيد التشكل، مليء بالمخاطر والصراعات الدولية والإقليمية ومثقل بمشاريع مبهمة، إلى جانب مخاطر الإيديولوجيات المتطرفة التي تهدّد الشباب وتضغط على المجتمع وتتغذى من الظلم والإحباط والعنف.

إن المتابع للشأن العالمي يصل إلى قناعة مفادها أنّ المشاركة السياسية هي أضمن مبرمج للإصلاح السياسي ومواجهة التحديّات الدّاخلية والخارجية. ففي ظلّ نظام ديمقراطي ينضج بطريقة طبيعية يكون النجاح متوفرا للتعاطي مع الخلافات وتضارب المصالح بين مكونات المجتمع وذلك بتشجيع المشاركة وتغليبها على التنافي، وتدعيم الانفتاح والمرونة والنقد الذاتي والاستقلالية، بما يعزّز قدرة البلاد على الحدّ من التداعيات السّلبية للعولمة.





















تحريك المسار بجاذبية الديمقراطية

تواجه السلطة اليوم تحدي الإصلاح السياسي وسط دعوات داخلية وخارجية، مطالبة إياها بتجسيد تعهداتها وتسريع نسق تحرير الحياة السياسية من القيود التي لازالت تكبلها رغم التطورات الهائلة التي حصلت داخل المجتمع. وسيحدد النجاح في رفع هذا التحدي مدى تقدمنا في إرساء أسس متينة لمواطنة حقيقية عبر تأهيل الحياة السياسية وإطلاق الحريات وتوسيع قاعدة المشاركة وإقرار مبدأ المحاسبة.

وبعد أن وضّحت السلطة موقفها من قضية الإصلاح السياسي من خلال خطاب الرئيس الأخير بمناسبة العشرينية، يكون من المفيد أن تعمد المعارضة إلى تحديد المواطن المفصلية في الخطاب حيث تتقاطع جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية (سيطرة واستقلالية، ولاء ومعارضة، إجماع وتنافس... ) فتتفاعل معها بما يحرّك المسار نحو الديمقراطية.

البناء على المشترك

إن الإقرار الرئاسي بأن" الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة هي أطراف المعادلة الديمقراطية والتنافس النزيه" يمثل خطوة هامة في سياق ما نعبّر عنه بإنهاء التنافي. فوجود أحد الطرفين لا يتوقف على إلغاء الطرف الآخر. هذه الخطوة تتطلب من المعارضة مرونة وواقعية بالتقاط عناصر الالتقاء وإبداء رغبة في إرساء علاقات جديدة في المرحلة القادمة بما يساعد على بناء الثقة. إن إنهاء التنافي يمهّد لتوسيع مجال المشاركة بما تقتضيه من تعاون وتنافس وثقة متبادلة، خلافا للتهميش و القطيعة، ويقرّبنا من أهدافنا في التحررية والديمقراطية. ويسهّل انتقال الحياة السياسية في من هيمنة السلطة إلى دولة القانون والمؤسسّات.

وإنّ بين المعارضة والسّلطة، فيما نرى، مشتركات عديدة تمثل منطلقا لتعزيز هذا التوجه نذكر منها:

 المشروع التحديثي: فالنظام الجمهوري وأولوية التعليم والمعرفة والمساواة بين الجنسين والمقاربة الحقوقية والانفتاح على العالم التي تمثل أهم عناوين المشروع التحديثي، أصبحت محلّ وفاق بين مختلف الأطراف السياسية. فقد تحققت للبلاد عديد الانجازات المهمة على هذه الأصعدة، وهي مكاسب على نقائصها وما تثيره من مشاكل، تعتبر منطلقا لمواصلة التطوير.

 دور المؤسّسات: لقد بنت الدولة مؤسّساتها بما يضمن الاستقرار والاستمرارية، وما تحقّق إلى حدّ الآن يفسح المجال لمزيد التطوير والمراهنة في المستقبل على نوعية المؤسّسات واستقلاليتها وسلامة العلاقات بينها وإدخال عناصر أساسية للحكم الرّاشد.

 التهديدات والتحديات: تواجه تونس اليوم تحدّيات وتهديدات لا تعترف بالانقسامات السياسية أو الاجتماعية. فعالم اليوم المليء بالأزمات الإقليمية والدولية الذي أصبح أكثر تعقيدا وخطرا، يفرض على تونس تطوير مفهوم أمنها القومي وتعزيز قدراتها على تكييف منظومتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفقا للنظام العالمي الجديد قيد التشكل لدعم مناعتها وضمان سيادتها. فتونس اليوم التي لا تشعر بتهديد في محيطها القريب ما دام الوضع الإقليمي مستقرا وعلاقتها الجوارية والدولية متميزة، يبرز فيها التطرف الديني العنيف، كظاهرة دولية، تهديدا حقيقيا للدولة.
فبعد أحداث سليمان المسلّحة التي شهدتها البلاد في نهاية ديسمبر 2006 تأكد الخطر وأصبح مصدر قلق كبير يتصدر الأولويات. ولا بد من إجراءات متعددة لرفع التهديد عن مجتمعنا وحدودنا، وذلك بوسائل عديدة (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وديبلوماسية وأمنية) فمعالجة ظاهرة الإرهاب المعقدة تتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة، وهذا ما تلح عليه المعارضة باستمرار، وهو ما أشار إليه رئيس الدولة أيضا في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الدولي حول الإرهاب الذي استضافته تونس مؤخرا.
ومن جهة أخرى انخرطت تونس في الاقتصاد المعولم (شراكة أوروبية، عضوية منظمة التجارة العالمية، اتفاقيات تبادل تجاري،...) كخيار استراتيجي لخلق فرص جديدة للنمو ولجذب الاستثمارات الخارجية. ومع أن هذا الخيار يمكن من تعزيز الفرص للإقتصاد الوطني، فإنه قد يخلق أيضا تحديات أخطرها التأثير على استقلالية القرار الوطني وتهديد جزء هام من نسيجنا الاقتصادي وقطاعات حيوية للتشغيل بسبب شدة المنافسة من طرف الدول التي تزاحمنا في الامتيازات التفاضلية. وهذا يتطلب إعادة صياغة أنشطتنا الإقتصادية وتموقعاتنا الإستراتيجية ومجهودات كبيرة لتعزيز قدراتنا التنافسية.
كما أدّت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية إلى بروز مشاكل معقّدة من نزوح وبطالة وهجرة سرّية وجريمة ومدن فوضوية وغيرها من الظواهر المعهودة في الدول السائرة في طريق التحديث، إضافة إلى التهديدات البيئية وشحّ الموارد والفجوة الرّقمية. هذه التحديات المشتركة تتطلب من الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني تقاسم الوعي والمعرفة وتضافر الجهود وتكاملها للتقليل من المخاطر.

 توسيع المشاركة: نتيجة للتحولات المذكورة واعتبارا لخطورة التحديات واستجابة للتطلعات، تشترك المعارضة والسلطة في الرغبة في تطوير نظامنا السياسي بما يساعد على تجسيد التعددية السياسية وعلى توسيع مجال المشاركة ويضمن حقوق الإنسان ويطور أداء المعارضة ويعزز دولة القانون والمؤسسات ويرتقي بأداء الإعلام ويوفر مزيدا من عناصر الحكم الراشد.

إن الخلافات العديدة و الملفات العالقة بين السلطة والمعارضة، لا تمنعان الإقرار بمثل التقاطع سالف الذكر، وإنهاء التنافي والبناء على المشتركات لخفض مستوى التوتر بين الطرفين وتطوير خطاب مسهل لحوار يفتح الطريق أمام حقبة جديدة من الحياة السياسية بالبلاد. كما يمكن أن تمثل سياسة التفاعل الإيجابي نقطة الانطلاق لانفراج أوسع في كل القضايا. وهناك فعلا عناصر تدعو للأمل، يدركها من يجتهد في ملاحظتها وتفتح الطريق لإطلاق مبادرات تقطع مع السلبية والجمود.

التوافق على الهوية

اعتمدت النخبة الحاكمة بعد الاستقلال مفهوم " الأمة التونسية " لبناء لحمة داخلية تضمن وحدة الدولة وقوّتها، وتمكنها من انجاز إصلاحات جذرية وسريعة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، تجسيدا للمشروع التحديثي. واستفادت آنذاك من شرعية تاريخية استمدّتها من دورها البارز في الحركة الوطنية ممّا سمح لها بالتقدّم دون معارضة كبيرة في إنجاز مشروعها المجتمعي. ولعب الحزب الحاكم دورا أساسيا في ذلك فبسط هياكله وامتزج بالدولة وانطلقت المسيرة السياسية بإيديولوجية الحداثة وتحرّكت بجاذبيّة التسلط تحت شعار "الوحدة القومية وأولوية الخروج من التخلف". واعتبرت كلّ مساءلة لهذه الخيارات آنذاك تهديدا للدولة وقوبلت بالقمع أو التهميش.

برزت محدودية هذه المقاربة واحتدّ الخلاف حول مسألة الهُويّة مع نموّ الإسلام السياسي، الذي ركّز في بداياته على التصدي لما اعتبره خطرا على الهوية الإسلامية لتونس، معتمدا خطابا سياسيا دينيا محافظا، عُدّ تهديدا للمشروع التحديثي للدّولة. ولم تكن سلطوية النظام السياسي وتركيبة المجتمع المدني ويقينية خطاب الإسلام السياسي وضعف انفتاحه، عناصر ملائمة لاحتضان حوار هادئ حول مسألة الهوية، ولم يحسم الصّدام المحكوم بجاذبية التسلط في نهاية الثمانينات المسألة.

لعبت التطورات الداخلية والإقليمية والعالمية دورا في تراجع شعار "الأمة التونسية" وخف التوتر حول موضوع الهوية مع الإجراءات المتخذة في بداية تغيير السابع من نوفمبر انطلاقا من الميثاق الوطني مرورا بإجراءات رمزية (رفع الأذان في الإذاغة والتلفزة، اعتماد الرؤية مع الاستئناس بالحساب، جامعة زيتونية بثلاثة معاهد..) فيما اعتبر مراجعة لسياسة التحديث القسري التي ميزت عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. كما حصل تطور في خطاب التيّار الإسلامي الذي عرف تنوّعا سياسيا وفكريا وغيّر أهدافه وأولوياته في تفاعل مع الواقع.

وإن مقاربة الهوية التي تقوم على مكونات تاريخية وجغراسياسية عديدة (مغاربية، عربية، إسلامية، افريقية، متوسطية)، من منظور استراتيجي للتعامل مع التهديدات وبناء العلاقات الدولية، قد تخلق لبسا وتثير ردود أفعال لاسيما لدى الشباب بتعويم عنصري العروبة والإسلام ضمن دوائر أخرى لا تضاهيها في التأثير.
إن خفض التشنج حول مسألة الهوية وتغيير أسلوب التخاطب بين مكونات المجتمع وإرساء حوار بين مختلف الأطراف عوامل مساعدة على حصول توافق وطني حول مسألة الهوية. فالمجتمع يتغير بتغيّر حياته الحوارية، وإن ما يُسجل اليوم من تقدم في تناول بعض المواضيع/ التابوهات مثل السيدا والأمهات العازبات والمساواة في الإرث وحرية المعتقد وعقوبة الإعدام...، التي أصبح الحديث فيها ممكنا بهدوء وعقلانية، يعد في حد ذاته بارقة أمل لبروز المجتمع التحرري الذي يدفع نحو جاذبية الديمقراطية.

إنّ تطوّر خطاب النخب التونسية حول مسألة الهوية، بصرف النظر عن بعض التعبيرات المتشنجة في هذا الاتجاه أو ذاك، يجعل التوافق بينها مُتاحا أكثر من أي وقت مضى. فالحداثة التي دخلت مختلف مفاصل حياتنا صارت جزءا من هويتنا دون أن تلغي حضور عنصري العروبة والإسلام أو تأثيرهما. ذلك أنّ تطور المجتمع التّونسي احتوى التوتّر بين هذه المكوّنات وجسّد التفاعل الإيجابي بينها بما يخرج مسألة الهويّة من دائرة الصّراع السياسي وبما يتيح المجال لمشاركة سياسية لا تقصي أحدا.

ضمان الإستقلالية وتعزيز التعددية

إنّ الانتقال من دولة الحزب الواحد إلى دولة ديمقراطية تعددية تحررية يستغرق وقتا كما استغرق تحويل الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الليبرالي، ذلك أن تأهيل الحياة السياسية على غرار إعادة هيكلة الاقتصاد، يحتاج، إضافة للإرادة السياسية، إلى رؤية وبرامج وإلى متابعة الإنجازات على أرض الواقع.

فليس سليما أن يتمّ في تونس تغيير مناهج التعليم ومحتويات كتب التاريخ والتربية والفلسفة والأدب ونشر قيم الوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش والاختلاف، والتأكيد على حوار الحضارات، لضرورات إستراتيجية، ويبقى خطاب الحزب الحاكم والمسئولين المحليين (عمد ومعتمدين وولاّة) ينضح بالإقصاء والتنافي. ولقد كان الرئيس على صواب حين ذكر "أن لا مجال للحزب الواحد والرأي الواحد والفكر الواحد"، في إشارة واضحة لتفشي مثل هذه الثقافة وهذا السلوك و استمرارهما. و ليس سليما أيضا أن يتم إقرار التعددية في الدستور وتُعدّل التشريعات بما يتيح تمثيل المعارضة في البرلمان والبلديات، ويستمر المشهد الإعلامي في الإذاعة والتلفزة أحاديا لا يشعر المواطنين بمشاركة حقيقية للمعارضة في الحياة السياسية.

ويصعب أن نتقدم نحو الديمقراطية بحزب حاكم مهيمن ومتداخل مع أجهزة الدولة خاصة على المستوى المحلي والجهوي، ولم يعد مقنعا أن يبرر الحزب الحاكم هيمنته باعتباره يمثل كل التونسيين. فهو إن تبني خلال عهد التغيير خطاب الإصلاح والديمقراطية حتى صار ثابتا في أدبياته، فإنه فشل في لعب دور قاطرة الإصلاح، وظل يتحرك بجاذبية التسلط طوال السنوات الماضية، وهذا لا يعني أن الحل يكمن في إزاحته، بل في تعديل دوره.
فمن الضروري أن تقرّ السلطة التعدد الموجود أصلا في المجتمع، وتقلع عن منطق الإجماع، وأن تعمل على تكييف النظام السياسي بما يكفل المشاركة لكل الأطراف في أجواء من الاحترام والتعايش والتنافس.

وعلى المهتمين بالتغيير السياسي أن يعملوا أثناء التحرك نحو الديمقراطية على احتواء التخوفات الناتجة عن تداعيات بعض التجارب التي تعثرت أثناء تحولها من نظام سلطوي مركزي إلى نظام مفتوح يعمل بسيطرة منخفضة. كما أن السلطة التي تبدي تخوفا من أي تحول قد يفسح المجال لبروز أدوار غير محبذة لها تأثيرها على توزيع السلطة والسيطرة داخل الدولة تبدو مترددة في مسار التعددية وخاصة في إعطاء الاستقلالية للمجتمع المدني والسياسي وتشجيع اللامركزية. وترغب بقوة في أن يكون الإصلاح متدرجا وأن يتم التخطيط مركزيا لكل مراحل الانفتاح السياسي. وتستطيع المعارضة أن تقوم بالكثير لاحتواء هذا القلق الناتج عن البدء بالإصلاحات لتوسيع إشراك النخب في مسار الإصلاح. وممّا ييسّر ذلك تغيير لغة الحوار والصور المعتمدة للتشخيص و العلاج.

إنّ التحرك نحو الديمقراطية يفرض مراجعة عديد المسائل التي هيكلت النظام السياسي نذكر منها العلاقات بين السلط والمركزية المفرطة والسيطرة المطلقة وتداخل الحزب الحاكم بالإدارة كما يقتضي تغييرالسلطة لنظرتها للمعارضة وللتعددية السياسية. لكن هذا التحرك يفرض أيضا مراجعة المعارضة بجميع أطيافها لمواقفها وأدوارها وصيغ تدخلها.

فإذا أردنا تعزيز التعددية لا يمكن من جهة أولى أن يستمر العمل بالطريقة الحالية في منح التأشيرات للأحزاب التي كرست مشهدا سياسيا لا يعكس حقيقة التنوع في الواقع ولا يعطي صورة عن اختلاف في الرؤى والبرامج. ومن جهة ثانية فإن حق المعارضة البرلمانية في التوافق مع السلطة لا يبرر تخليها عن ممارسة دورها باستقلالية. فأحزاب الموالاة حين تتخلى كليا عن استقلالية قرارها، تنتهي إلى إلغاء وظيفتها الرئيسية، مما يؤدي إلى فقدانها لكل مصداقية، وهي أسوأ صورة للمعارضة وللوفاق، وليس من الحكمة تكرار الانخراط في علاقات من هذا النوع مع السلطة.
ومن جهة أخرى، لم يعد مجديا أن تستمر المعارضة المستقلة على نهجها الحالي في القطيعة والتشنج مع السلطة. فهي لم تستطع فرض تغيير النظام ولا حمل السلطة على الاستجابة لمطالبها، ولا تعبئة المواطنين حولها ولا بناء القوة الميدانية ولا البروز كبديل مقنع للسلطة القائمة. ولم يساعد اختلال التوازن بين السلطة والمعارضة على فتح أفق سياسي للمجتمع. وصار التساؤل مشروعا عن إمكانية حلحلة الوضع السياسي في ظل القطيعة . فغياب أي علاقة بين الطرفين أمر غير عادي. وإذا كانت السلطة لا ترى العلاقة إلاّ تبعية مطلقة ومفرغة من أي بعد تنافسي، فإن في الدعوة إلى القطيعة إدامة للأمر الواقع وتشجيعا عليه. وقد حان الوقت لإعادة صياغة هذه العلاقة.
ليست العلاقة بالسلطة هي العنصر الوحيد الذي يساهم في إضعاف التعددية السياسية وإفقار المشهد التنافسي، والذي يستدعي المراجعة والتعديل من طرف المعارضة، بل أيضا صيغ تدخلها في المجتمع وخطابها الثقافي وقدراتها عل الاقتراح وجسور التواصل بينها وبين الناس. لما لهذه المسائل من صلة مباشرة بوضع المعارضة وموازين القوى بينها وبين السلطة. وإذ لا نغفل الظروف الصعبة التي تعمل فيها المعارضة، وأبرزها القيود المفروضة عليها، فإن ذلك لا يبرر الفقر في إنتاج المعارضة لتقارير ودراسات ومقترحات حول المواضيع التي تلامس مشاغل مختلف القطاعات والشرائح على سبيل المثال، وتقترح حلولا، تكسبها احتراما وتوسع إشعاعها.

إن آفاقا مستقبلية للإصلاح السياسي مرتبطة بمدى قدرة السلطة والمعارضة على إنتاج منظومة مشاركة سياسية جديدة، لا نرى التداول-على أهميته كركيزة للنظام الجمهوري- أولويتها في الواقع الراهن بل تعزيز التعددية والتحررية وضمان الاستقلالية. وتعمل سائر الأطراف داخل هذه المنظومة ضمن بناء مُعقّد تجتمع فيه بأشكال خلاقة ومتطورة، الاستقلالية في التنظم والبرمجة والتحرك مع السيطرة بدرجة منخفضة من الوفاق واليقين. وهذا يتطلب من جميع الأطراف قدرات عالية على التعلم والتعاون والالتقاء وإدارة الخلافات واستشراف المستقبل والتأقلم السريع.

ومن المهم إخراج هذه المسائل من دائرة اهتمام النخب إلى أوسع شرائح المجتمع والبحث في كيفية منح التونسيين دوافع للمشاركة السياسية في استحقاقات سنة 2009 من أجل تحريك المسار بجاذبية الديمقراطية. فالانتخابات هي الإطار المناسب لاختيار منظومة تجتمع فيها السيطرة والاستقلالية وتتعايش فيها السلطة والمعارضة، وتستمد شرعيتها من تفويض الناس عبر انتخابات ذات مصداقية.




خــــاتمــة

تقوم الرؤية السياسية التي عرضناها على:
 قراءة التحولات العميقة التي تدفع باتجاه مزيد من التحررية وتُسهّل التعاطي مع القضايا التي أثارت خلافات حادة في المرحلة السابقة.
 رصد المواطن المفصلية في خطاب السلطة للتفاعل الايجابي معها بما يدفع المسار نحو الديمقراطية، ورصد التقاطعات بين خطابي السلطة والمعارضة للبناء على المشترك ـ دون القفز على الخلافات ـ وإنهاء حالة التنافي.
 توخي الواقعية في الإصلاح، حيث تراعى الطبيعة المعقدة للأوضاع ويجتمع الحذر مع الجرأة والتدرج مع النسق التصاعدي ويتم العمل حيث الممكن لا حيث إغراء الفرضيات القصوى.
 تطوير منظومة للمشاركة السياسية تقوم على بناء الثقة وطمأنة مختلف الأطراف وتعزيز التعددية والاستقلالية وإتاحة المجال للمنافسة وتطوير أداء السلطة والمعارضة للوصول إلى إبراز ديمقراطية تونسية المنشأ تُستمدّ فيها الشرعية من انتخابات ذات مصداقية.

هذه الرؤية السياسية يمكن العمل وفقها في سياق الإعداد للاستحقاق الانتخابي القادم سنة2009 ـ الذي نراه محطة قريبة في الأفق البعيد لتونس ـ وذلك بالتوافق على ما يلي:
 قبول المعارضة بخيار المشاركة ومنهج التدرج في الإصلاح وإعادة ترتيب أولوياتها على هذا الأساس. فالمرحلة الراهنة في بلادنا لا تتيح تداولا على السلطة ولا تحقيق انتقال ديمقراطي مكتمل.
 تحرّك السلطة والمعارضة في عملية الإصلاح السياسي بمستوى منخفض من التشنج الإيديولوجي والسياسي. فالتقارب بين مختلف الأطراف السياسية يتيح تجاوز التشنج الإيديولوجي الذي صاحب عملية التحديث السريعة والتشنج السياسي الذي يلازم التنافي.
 اتخاذ السلطة مزيدا من الإجراءات الانفراجية منها تسوية ملف المساجين السياسيين والمغتربين ومنح تأشيرات جديدة تستجيب للرغبة في التنظّم والتعدّد الحزبي والجمعياتي في الواقع ودعم الإعلام الحر والمستقل بعيدا عن مقاييس الولاء وتنظيم انتخابات مختلفة عن سابقاتها في 2009 تفضي إلى تمثيل حقيقي في البرلمان يستفيد من التمييز الايجابي للمعارضة ويعكس وزن الأحزاب في الواقع ويكسب الاستحقاق رهانا انتخابيا مرحليا يشجع الناس على المشاركة ويهيئ لانتخابات تنافسية حقيقية مستقبلا.

إن التشجيع على مثل هذا التوجه يعزز الثقة بين الأطراف السياسية ويسرّع نسق الإصلاح ويفتح أبواب الأمل وتستفيد منه بلادنا. وهذا من شأنه أن يجعل من استحقاق 2009 فرصة لتطوير الحياة السياسية.
هو النص الرابع من سلسلة نصوص في التنمية السياسية
اعداد:محمد القوماني
فتحي التوزري
مالك كفيف
جيلاني العبدلي
حبيب بو عجيلة
رامي الصالحي
تونس ديسمبر 2007
[img][/img][img][/img]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المعتز بالله
مشرف على المنتدى السياسي



عدد المساهمات : 178
نقاط : 16428
تاريخ التسجيل : 14/03/2010

الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية   الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية I_icon_minitimeالأربعاء مارس 31, 2010 12:38 am


الأخ / محمد المستيري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :


يخال لي وأنا أقرأ هذا النص ، كأنه يحاكي الأمة العربية بأسرها ، وأكاد أؤكد أن هذا النص يمكن إنزاله على حال معظم الدول العربية ، التي تعمل لعمليات إصلاح شاملة منها الذي حقق نجاحات نسبية على الأرض بشكل لافت ومنها إصلاحات ربما تعاني من تأرجح ، ومسارها على استحياء باعتبار أن المتنفذين داخل النخبة الحاكمة ليست من مصلحتهم أن تسير عمليات الإصلاح إلى شأن يحقق أهدافها على أرض الواقع .

وتبقى عمليات الإصلاح السياسي وبرامجها هي الأسوأ حيث لم تحقق على أرض الواقع في بلادنا العربية ما نسميه إصلاحاً سياسياً ، وزاد الأمر مرارة " العولمة " وما خلفته من ضراوة معيشية على المواطن العربي ، وبدلاً من أن تقود النظام السياسي إلى طموح المواطن( حسب أدعيائها ) الذي يرقى به لثقافة تعنيه وتعني النظام العام من بوادر نهضوية شاملة تشمل الإنسان والمجتمع ، فإننا نجد بدل ذلك ترسيخ الفردية ، وسيطرة أصحاب النفوذ والتسلط وربما وصل عند عديد الأنظمة للخنوع والخضوع للقوى الداعمة لاغتصاب الحق العربي ، مما جعل شعوبها تعاني حالة اللاثقة التي أخلت بالموازين الخاصة بعلاقة الفرد بالنظام السياسي وبالتالي تأثيره السلبي على أمن المجتمع بأسره .

إن غياب منهجية الاصلاح السياسي لدول البيت العربي وغياب النخبة التي تمتلك شفافية الاصلاح وغاياته نحو مجتمع الممارسة الجماعية في مسئولية دوران دفة سير الوطن إلى قرار عربي موحد يحفظ الهوية العربية والكيان العربي من عوامل التعرية الغالبة اليوم في محيط بيتنا العربي ، وهذا ما يجعل اليوم عدونا الصهيوني الغاشم يتجاهل كافة الحقوق ويتعجرف ويعيث في الأرض الفساد دون رقيب ولا عتاد من هم أصحاب الحق
" دول العروبة "بل وأبعد من ذلك أسقط من أجندته شرف أن يكون العرب أعداء دولتهم وكيانهم الغاصب .

إن البرامج الإصلاح العربية في عديد الدول العربية عمومها تهدف بغايتها إلى أمر واحد كيفية المحافظة على أدوات السلطة الحاكمة ولو على حساب مواطنها وعلى حساب مواقفها القومية ، وبالتالي :
أخي / المستيري
نحن بحاجة إلى إصلاحات جذرية وشاملة ، تبدأ من داخل النخبة الحاكمة ، تتبلور معها مبدأ قبول الآخر كشريك يساهم معها في إطار رؤية بعيدة عن الإقصاء في بناء وطن بنيته الأساسية جماعية القرار ، واعتماد الحوار وسيلة أمثل لحل أزمات الوطن بمشاركة الجميع ، ولا يكون ذلك إلا بعزيمة من بقي في رحم نخب السلطة والذي يملك الشفافية والعزيمة إلى ذلك ، وأرى في ذلك صعوبة بل ربما مهمة شبه مستحيلة على المدى القريب ، لأن أروقة النظام العربي في معظم دولها تعج بالفاسدين وبيدهم مفاصل القرار ، واجتثاثهم لا يكون بالأمر السهل ولا بعملية قيصرية تجهضهم للأبد بل ننتظر عسى أن يولد من رحم هذه الأمة من هو كفئ ذلك مع من يصلح في رحم النظام السياسي لذلك...!!!

تقبل تحياتي مع خالص شكري


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الاصلاح السياسي بتونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دَمِقْرِطُونَا 00 قبْلها تَحسنّوا علينا أرجـِعوا لنا حقوقَنا0000!!!
» أين الاصلاح التربوي؟
» حكومة الشحاتين بتونس
» أين ذهب البوليس السياسي ؟
» التأهل إلى الديمقراطية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الكلمـــــة الحـــــرّة :: المنتدى السياسي-
انتقل الى: