انسحاب من العراق للحرب على ايران
عبد الباري عطوان
لم يرفع الجنود الامريكيون اياديهم ملوحين بعلامة النصر، وهم يتسللون ليلا، وتحت جنح الظلام الى الكويت، قبل اسبوعين من الموعد المقرر لانسحاب آخر وحداتهم القتالية من العراق. ولم يودعهم العراقيون بباقات الزهور باعتبارهم محررين. كما لا نعتقد ان حلفاءهم العراقيين الذين جاءوا معهم، على ظهور دباباتهم، كانوا على علم بخطط الانسحاب هذه، وموعد تنفيذها. وحتى اذا علموا، فانهم كانوا مشغولين عنها بالتفكير بمصيرهم.
تقليص عدد القوات الامريكية الى خمسين الفا فقط، رغم معارضة الحليف العراقي، وفي مثل هذا التوقيت، ربما يكون في اطار الاستعدادات لحرب اخرى، او هروبا من نتائجها، قد تستهدف لبنان اولا، والمنشآت النووية والبنى التحتية الايرانية ثانيا، او الاثنين معا.
الامريكيون يعلمون جيدا ان اي ضربة لايران او لحزب الله في لبنان، قد ترتد جحيما على قواتهم في العراق حيث النفوذ الايراني في ذروته، وحيث يتوقع الكثير من المحللين ان تقع القوات الامريكية فيه فريسة سهلة لانصار ايران وحلفائها وهم الاغلبية.
وليس صدفة ان يتزامن هذا الانسحاب، وتموضع القوات الامريكية في الكويت مع اعلان امريكا عن بيع الكويت صفقة صواريخ من طراز 'باتريوت' تصل قيمتها الى ملياري دولار، للتصدي لاي صواريخ ايرانية ممكن ان تقصف هذه القوات الامريكية.
وليس صدفة ايضا ان يصدر بيان اللجنة الرباعية للسلام الذي سيستخدمه مسؤولو السلطة في رام الله كغطاء للعودة الى المفاوضات المباشرة بسقف زمني مدته عام، تؤدي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة. هذه المدة الزمنية تكفي، حسب التقديرات الامريكية، لتدمير ايران، وسحق لبنان، فقد علمتنا تجارب الحروب السابقة انه في كل مرة تضغط امريكا لمفاوضات سلام، وتتحدث عن تسوية للقضية الفلسطينية تنطلق القاذفات والطائرات والصواريخ ضد بلد عربي او اسلامي.
* * *
حالة الرعب بدأت تدب في اوساط النخبة السياسية الحاكمة في العراق، او النسبة الكبيرة منها، لسببين: الاول لانهم يعرفون ان هذه الحرب باتت وشيكة، والثاني الخوف من المصير الاسود الذي ينتظرهم في حال قيام ثورة شعبية، او حكومة وطنية تتولى محاسبتهم. وقد بدأنا نشاهد طلائع هؤلاء تتدفق الى العواصم الاوروبية، وخاصة لندن، حيث اموالهم واستثماراتهم التي نهبوها من العراق، وحيث عائلاتهم التي لم تغادر لندن اساسا لانها لا تطيق العيش في 'العراق الجديد' الذي لا يناسبها ولا توجد فيه الكماليات اللازمة للاستمتاع بالمليارات التي نهبت من ثروات ابناء الشعب العراقي في اكبر عملية فساد في تاريخ المنطقة، وربما العالم بأسره.
العراق يقف حاليا امام مرحلة دموية من الفوضى والتصفيات الطائفية بسبب الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات الامريكية المتعجل، ولعل اول من تنبأ بها رئيس اركان الجيش العراقي الفريق اول بابكر زيباري عندما اكد بان قواته تحتاج الى عشر سنوات (2020) حتى تصبح مؤهلة لتولي المسؤوليات الامنية في البلاد. وبعد يوم واحد من هذه 'الفتوى الامنية' نجح انتحاري في تفجير نفسه وسط متطوعين مرشحين للانضمام للجيش العراقي، مما ادى الى مقتل 60 منهم واصابة اكثر من مئة آخرين. ودخل شهر تموز(يوليو) التاريخ العراقي بانه الاكثر دموية (500 قتيل) منذ عودة الهدوء النسبي الى العراق في العامين الماضيين اي بعد تشكيل 'الصحوات'، وزيادة عدد القوات الامريكية (surge)، وارغام سورية بعد اغتيال الحريري على اغلاق حدودها بالكامل في وجه العناصر الراغبة في الانضمام الى المقاومة العراقية.
في الماضي القريب، جرى طرح تعبير 'ايتام صدام' للتداول في اوساط المبشرين بالعراق الجديد، كنوع من السخرية (توقف الحديث مؤخرا عن نظام صدام او بالاحرى خفت حدته)، ويبدو ان المصطلح نفسه قد يستخدم بقوة في الايام المقبلة ولكن مع بعض التعديلات، فبدلاً من 'ايتام صدام' سيروج مصطلح 'ايتام امريكا' الذين سيجدون انفسهم وجها لوجه امام الشعب العراقي الذي خدعوه، ومارسوا ابشع عمليات التضليل لاقناعه بمشروعهم الدموي الثأري الطائفي، حتى لو جاء هذا المشروع على حساب العراق ووحدته وهويته.
السيد عادل عبد المهدي نائب رئيس 'العراق الجديد' اعترف الاسبوع الماضي، وبشكل موارب، في احدى المقابلات الصحافية، وهو اعتراف نادر على اي حال، بان النخبة العراقية الحاكمة فشلت في اقامة نظام سياسي مستقر يحقق طموحات الشعب العراقي بسبب خلافاتها الداخلية والشخصية المتفاقمة.
* * *
خمسة اشهر ومنذ اجراء الانتخابات النيابية، التي يمكن ان تكون الاخيرة فعلا، والعراق دون حكومة رغم الوساطات والتدخلات الامريكية التي لم تتوقف، والبرلمان الذي تمخض عنها لم ينعقد الا لربع ساعة، ولم يتم انتخاب رئيس له، وبالتالي رئيس للجمهورية. ولا يلوح في الافق اي مؤشر عن قرب التوصل الى اتفاق.
القوات الامريكية انسحبت من محافظة الانبار، وخلفت وراءها ايتامها من عناصر الصحوات، ترى ماذا سيحدث لهؤلاء بعد رحيل 'كفيلهم' الامريكي، وباتوا مثل 'اللقطاء' غير معروفي الاب، فلا هم من اجهزة 'العراق الجديد'، ولا هم قوات مقاومة للاحتلال التي خانوها وتعاونوا مع الاحتلال ضدها، ولا هم من المواطنين العاديين المغلوبين على امرهم، ولا هم رحلوا مع مستخدميهم الامريكيين مثل نظرائهم الفيتناميين او بعضهم، او حتى الفلسطينيين الذين اجلاهم الاسرائيليون بعد الانسحاب من غزة.
نفهم، ولا نتفهم، ان لا يستوعب رجال الصحوات هؤلاء وزعماؤهم (خاصة من قادة العشائر) ونسبة كبيرة منهم من الجهلة فكريا وسياسيا، الدرس الابرز في التاريخ الذي يفيد بان جميع الذين تعاونوا مع احتلال بلادهم وقواته واجهوا مصيرا حالك السواد، بعد تخلي المحتلين عنهم وهروبهم تحت جنح الظلام مهزومين، ولكن لا نفهم ان يقع في هذه الخطيئة سياسيون ورجال دين كبار يرتدون العمائم بمختلف ألوانها، وبعض هؤلاء دكاترة وخريجو جامعات غربية او حوزات علمية مشهود لها في العلوم الدينية والفقهية.
تعالوا لنجري 'جردة حساب' لما جرى في العراق بعد سبع سنوات من احتلاله، والانجازات التي تحققت بفضل هذا الاحتلال، وما اذا كانت تستحق الثمن الباهظ المدفوع من دماء العراقيين والامريكيين وثرواتهم في المقابل؟
* * *
يتباهى الامريكيون وحلفاؤهم بانهم اطاحوا بنظام 'الطاغية' صدام حسين حسب تعبيرهم، وهذا صحيح، فنظام صدام لم يعد يحكم العراق، ولكن هناك خمسة ملايين يتيم، ومليون ارملة، ومليوناً ومئتي شهيد، وستة ملايين جريح، نسبة كبيرة منهم في حالة اعاقة كاملة واربعة ملايين مشرد داخل العراق وخارجه، علاوة على ان العدد نفسه بقي في المنافي ولم يتحقق حلمه بالعودة. اما الطبقة الوسطى عماد المجتمع العراقي فقد اختفت بالكامل، وكذلك الخدمات الاساسية من تعليم وطبابة وماء وكهرباء، فهل يعقل ان العراق الذي يعد ثاني دول العالم من حيث الاحتياطات النفطية لا تزيد مدة امدادات الكهرباء فيه عن اربع ساعات يوميا وفي صيف ترتفع درجة الحرارة فيه الى خمسين درجة مئوية ؟
عند غزو العراق، كان هناك حصار، ورغم ذلك كانت هناك كهرباء وماء وجامعات، ودولة مركزية اقليمية مهابة من الجميع، لم تكن هناك طائفية، ولا تفتيت مذهبي وعرقي، ولا تنظيم 'القاعدة' ولا 'ابو درع' فهل تعترف البقية الباقية من 'دكاترة' العراق بهذه الحقائق علنا؟
نأمل ان نرى 'صحوة' حقيقية في اوساط العراقيين، عنوانها محاسبة كل الذين تورطوا في جرائم الحرب هذه، والعراقيون منهم خصوصا، امام محاكم دولية واذا تعذر ذلك فمحاكم عراقية عادلة، ولكننا نخشى من امر واحد وهو ان تحرمنا الحرب الزاحفة، وشبه المؤكدة من تحقيق هذه الامنية.