ريم العيساوي عضو
عدد المساهمات : 16 نقاط : 14644 تاريخ التسجيل : 31/07/2011
| موضوع: عتبة العنوان ودوافع الكتابة في ( سرد الذات ) للشيخ سلطان بن محمد القاسمي - ريم العيساوي الخميس أكتوبر 13, 2011 12:18 pm | |
| نّ الوقوف على عنوان كتاب “سرد الذّات” لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة يحيلنا على مفهوم السّرد في المصطلح الحديث باعتباره متضمّنا المرسل والرسالة والمرسل إليه .وهذه الأسس السّردية صاغتها الدّراسات السّردية الأدبية على النحو التّالي:الكاتب والقصة والقارئ ويأتي القصّ هنا نسيجا ضامّا لهذه العناصر، والّذي بدوره ينطوي على (وجهة نظر) تقنن القصّ، وتنظّم البنى السّردية في علاقاتها مع الزّمن والمكان والسّارد والحدث والشّخصيات، ويجمع أغلب النقّاد على ربط مصطلح السّرد بالقصّ عموماً، والأدبي منه بخاصّة، ويرون أنّ السّرد هو قصّ الحدث واقتفاؤه سواء أكان حقيقيّا أم متخيّلا، يحيله السّارد بطريقة من طرق السّرد وأنماطه جنساً أدبياً . ولقد تطوّر مفهوم السّرد مع الكتابات النثرية الجديدة مدعوماً بأطروحات النقد الحداثي، فصارت الكتابات السّردية أقرب الأجناس الأدبية إلى القرّاء، خاصة مع تغيّر نظرة كتّابها في التعامل مع اللّغة، وزمن الحدث، وفضاء الحكي، وجاء فنّ السّيرة الذّاتية ليعطي للسّرد بعداً أكثر حميميّة وخصوصية، ويخرج به من إطاره التقليديّ كوظيفة يؤدّيها السّارد ويمارسها وفق أنظمة لغوية ورمزية، إلى مدى أكثر رحابة يتّصل بعلاقة السّارد بالأحداث المسرودة ومدى تأثيرها فيه، وبالمسرود له، وبالشّخصيات التي يتفاعل معها، وبالتّالي صار السّرد مع فنّ السّيرة الذّاتية مسرحاً للحوار والصراع بين المبدع وذاته من جهة، والآخر المتلقي من جهة أخرى .يمثّل العنوان مفتاحا إجرائيا نستطيع من خلاله النفاذ إلى عوالم النص، وفكّ أسراره سواء كان النص نثرا أم شعرا، وازدادت أهميّة العنوان مع الشكلانيين والبنيوية وعلم العلامات، إذ اعتبر نصّا صغيرا ينهض بوظائف شكلية وجمالية ودلالية، وهو بمثابة الرأس للجسد الذي هو النص، وقد عرّفه “ليو هوك” مؤسّس علم العنوان الحديث بأنّه: “مجموعة العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرج على رأس نص لتحدّده، وتدلّ على محتواه العام، وتغري الجمهور المقصود بقراءته” . ولقد حظي العنوان عنده باهتمام بالغ نظرا لكونه أكبر ما في النص،إذ له الصّدارة ويبرز متميّزًا بشكله وحجمه منتصبًا في مقدّمة الكتاب، ولكونه أداةً تحدٌد النّصْ، وتعيّنه فهو رسالة لغوية تعرّف بهويّة النص، وتحدّد مضمونه، وتجذب القارئ إليه، وتغويه به، وهو بعد ذلك “نظام دلالي رامز له بنيته السّطحية، ومستواه العميق مثله مثل النّص تمامًا من حيث إنّه حمولة مكثّفة من الإشارات والشيفرات التي إن اكتشفها القارئ ووجدها تطغى على النّص كلّه،فيكون العنوان مع صغر حجمه نّصًا موازيا، ونوعا من أنواع التعالي النّصي، الذي يحدّد مسار القراءة التٌي يمكن لها أن “تبدأ من الرؤية الأولى للكتاب انطلاقًا من العنوان ولوحة الغلاف، وشكل الكتاب”، العنوان يعكس حمولة مكثّفة للمضامين الأساسيّة للنّص، وهو صورة النّص مصغرًة على صفحة الغلاف، لذلك عدّه الدارسون نظامًا سيميائيًا له أبعاد دلالية، وأخرى رمزية، تغري الباحث بتتبّع دلالاته، ومحاولة فك شفراته الرامزة، بغية استجلاء المفاهيم النّصية المتراكمة داخل الحيٌز النّصي .تتّضح أهمية العنوان عموما، باعتباره مكونا نصيا لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، فهو يضطلع بسلطة نصية وإشارة إعلامية بمثابة مرآة للنسيج النصي، محفّز على القراءة وبؤرة غواية للمتقبل،والأهمية التي يحظى بها متأتية من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي .ترتكز تحاليل النصوص في معظمها على تحديد العلاقة بين المرسل أو الباثّ والمرسل إليه والرسالة وما يمكنه أن يساعد في عملية التواصل، مثل السياق والصلة والانساق، وذلك بما تقدّمه هذه العناصر جميعا(متّحدة أو متفرّقة) للمتلقي، الذي هو عمود هذه العلاقة، إذ ما وجدت الرسالة وما صاحبها من عوامل الاتصال إلاّ لتبليغ فكرة ما للمتلقي . فالعلاقة إذن ما بين المرْسِل والمرسَل إليه والرسالة والسياق تشوبها مكاسب تخصّ أركان التواصل، هذه المكاسب التي ينعتها “رومان جاكوبسون” بالوظائف، وهي وظائف يمكن تطبيقها إلى حد بعيد على أي خطاب أو نصّ عام، وهذه الوظائف هي: الوظيفة المرجعية، والانفعالية، والتأثيرية، والتواصلية، والميتالغوية والإفهامية . وإن كانت هذه الوظائف يمكن تطبيقها على كل ما يمكن اعتباره رسالة، فإنّ الأمر يمكن سحبه على العنوان وإجراؤه عليه “تطبيقه إجرائياً”، فالعنوان رسالة وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه وهما يسهمان في التواصل المعرفي والجمالي وهذه الرسالة مسنّنة بشفرة لغوية يفكّكها المتقبل حسب فهمه لها .غير أنّ العنوان قد أثبت مع تطوّر النقد أنّ له وظائف أخرى، قد تكون جديدة عن الوظائف التي حدّدها “جاكبسون”، ولكنّها لا تخرج عنها في معظمها، ما عدا وظيفتي التعيين، والإغراء، فإنّ العنوان حقّق السّبق فيهما من دون النّص، بحكم مواجهته المباشرة مع المتلقّي أوّلا، ثم سيادته على النّص من منطلق المهمّة التي أنيطت به، ألا وهي مهمة التعريف بالنصّ . وقبل تحليلنا للعنوان نذكّر بتحمّل صاحب السمو حاكم الشارقة هاجس العنونة، ولعلّنا نستشف أيضا ما أولاه من اهتمام لمسألة إخراج الغلاف، حتى يستوي بالصورة الفنية اللائقة .ولأهمية العنوان بوصفه علامة بارزة في تحديد النّص أوّلا والكشف عن مجموعة من الدّلالات المركزية المنبثقة منه ثانيا، فقد كان وما يزال من المواقع الحسّاسة الّتي يقف عندها المؤلّف كثيرا قبل أن يختار عنوان نصّه وهذا التريّث في وضع العنوان أفصح عنه سموه بقوله: ولكي أروي القصة بلغة عربية جزلة وقويّة، عمدت خلال العمل إلى تجربة الكثير من أساليب الكتابة، وقمت بتحرير وتنقيح اللغة، إلى أن وصلت إلى القناعة المطلوبة، لأقرّر حينها أن أطلق على هذا الكتاب اسم “سرد الذات”) ومن هنا نكتشف القلق المعرفي في وضع العتبة الأولى للكتاب . ومن ناحية العنوان فقد جاء مركّبا إضافيا “سرد الذات” يتكوّن من مصدر لفعل سرد أي قصّ، مشتق من الفعل مضافا إلى الذات: اسم بمعنى الأنا . .وقد عمد سموه إلى تذليل مفهوم عمودي العنوان بقوله: “فالسرد هو إجادة سياقة الحديث،أما الذّات فهو ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه” وبمعنى آخر المسرود .والسرد مصطلح يطلق للتعبير عن عملية نقل الأعمال من عالم القصة الأصلي المتخيّل، وهو عالم غير لغوي إلى عالم النص الأدبي، وهو خطاب شفوي أو مكتوب يتميّز بزمنية مدلوله واتسامه بالمآل وهو عكس الوصف “كما يؤكد صادق قيسومة في كتابه “طرائق تحليل القصة” .لقد جاء تعريف “سرد الذات” بالإضافة، معبّرا عن الشّمول والعموم، ودلاليا فقد حمل العنوان ذاتية كاتبه بإحالة مباشرة وصريحة على شخصه .أمّا جماليا فقد كتب بخطّ كوفي أنيق وحروف سميكة أسمك من حروف المؤلف، متصدّرا أعلى صفحة الغلاف الخارجي، بحروف ذهبيّة بارزة، في مستطيل علوي مؤطّرا بصورة لسموه وهو شاب، مرتديا الزيّ الإماراتي، وكتب في أسفل الكتاب اسم الكاتب (سلطان بن محمد القاسمي) بخطّ ديواني باللّون الأبيض،ومن ناحية توزيع العنوان واسم كاتبه على صفحة الغلاف الخارجيّ فقد صمّم بشكل متناسق من حيث توزيع الكتابة على الصّفحة ومن حيث الألوان .وبوضع العنوان في مساحة أوسع من مساحة اسم المؤلّف لغرض لفت نظر المرسل إليه أي القارئ، فأدرك أهميّته بوصفه البؤرة المركزية الّتي منها ينطلق الباحث في تحليل النّص . ووفّر لعين القارئ نظرة منتظمة بلا رتابة، واكتسب شكل هذه الصّفحة أهميّة كبرى عن طريق طاقة التأثير في المتلقّي .إنّ عنوان “سرد الذّات” منح القارئ الفكرة الأولى عن محتواه، وبثّ فيه الإحساس الأوّل مزيجا من الجاذبيّة والإغراء ضرب من الإدهاش بهر الذّهن بما تضمّنه من تبسيط واختزال ومنحه فكرة عامّة عن محتوى الكتاب وحفّز فكره للإحاطة بتفاصيله . هكذا جاء عنوان “سرد الذّات” عنوانا مرتبطا ارتباطًا عضويًا بالنّص الذي يعنونه، يعكسه بأمانة ودقّة، جاء على رأس النّص ليعرّفه وينوب عنه، نص صغير بمثابة صورة عاكسة لآخر كبير، وفي صورة اختصاره يشكّل درجة عالية من الاقتصاد اللّغوي تشدّ انتباه المتلقي .لقد جاء العنوان علامة لغوية تصدّرت النّص فوسمته وحدّدته وعرّفت بهويّته (جنس السيرة الذاتية)، وقد شكّل باقتصاده لفتا لانتباه القارئ وتشويقه للإطلاع على مضمونه الذي دلّت عليه شحنته الدلالية باتخاذه سلطة مفاتيح الغواية وبهذا جاء عنوان “سرد الذّات” رسالة من كاتبها (المرسل) إلى القارئ (المرسل إليه) وبها تحقّق التواصل المعرفي بينهما، وانتقل القارئ إلى عالم النص قبل الدخول في أجوائه والتطرق إلى محتواه، كما نستشّف نوع النصّ وتركيبته، ومن هنا كان للعنوان دور في تفعيل عملية القراءة من جهة، واختصار مضمون النص كاملاً من جهة أخرى . وهكذا نهض العنوان بمهمة التعريف بالنص، وجاء عنواناً صغير الحجم لكنّه نّصً مواز، ونوع من أنواع التعالي النّصي، محدّدا مسار القراءة التٌي يمكن لها أن تبدأ من الرؤية الأولى . كما أوحى العنوان بأبعادٍه الدّلالية والرمزية محفّزا المتقبّل لكشف دلالاته، وفكّ عناصره الرامزة، قصد الوصول لمفاهيمه النّصية داخل الفضاء النّصي . جاء العنوان سلطة للنص، وواجهته الإعلامية، ودافعا محفّزا للقراءة، ومفتاحا لاستكشاف مدلولات ومقاصد الكتاب،كما نهض بوظيفة التّسمية،فجاء اسمًا على مسمًى محدّدا هوية النّص، وإزاء هذا التأثير الذي حقّقه العنوان عند تلقي النّص بفعل خاصيّته التثقيفية الموجّهة إلى القارئ فقد أدّى الوظيفة اللّغوية الواصفة والوظيفة التّعيينية .وحمل قيمة ضمنية مصاحبة لما تضمّنه من طاقة إيحائية من خلال مركّب إضافي بسيط “سرد الذات” كما أدّى العنوان وظيفة التجنيس كشف عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص . سجل صاحب السمو حاكم الشارقة في “سرد الذات” جملة من القضايا، تعدّدت وتشابكت، وعكست صورا متنوّعة لواقع الإمارات، مسجّلا به اللبنة الأولى في مسيرة هذا الجنس الأدبي بمفهومه الكامل في مسيرة الأدب الإماراتي مؤرّخا الواقع الاجتماعي والثّقافي والسّياسي مع الربط بواقع الوطن العربيّ والعالم ككلّ، “سرد الذّات” الكتاب فاتحة لجنس السّيرة الذّاتية بمفهومها الحديث في مسارالأدب الإماراتي،و سنحاول تناول القضايا التي طرحت فيه بالتحليل مع الوقوف على رؤية الكاتب ومواقفه من عديد المسائل مع تناول الأساليب والفنيات التي عمد إليها سموه في سرد سيرته . وتنطلق القراءة من داخل النص من أبنيته الشكلية والدلالية بهدف استكناه جوهرها باعتبار النص سردا سيرذاتيا، فنحلّل عناصره السّيرذاتية، ثم باعتباره سردا أدبيا فنحلّل فيه عناصره السّردية التي تجمع بين الحكاية الفنيّة والتدوين التاريخي .ذهب “جورج ماي” في كتابه السّيرة الذّاتية من أنّ معظم كتّاب التّرجمة الذّاتية تجمع بينهم خاصيتان، أولاهما أن سيرهم الذّاتية نتاج بلوغ سنّ النضج، والثانية أنّ كاتب السّيرة يكون في أغلب الأحيان معروفا قبل أن ينشر سيرته الذاتية . وللسيرة مقام ومنزلة في حياة صاحبها لا تضاهى، فهي عصارة سنّ النضج وعمق التجارب وقد توفّرت هاتان السّمتان في كتاب “سرد الذات” . فكيف جاء ميثاق “سرد الذّات”؟ من المعلوم أن ميثاق السيرة الذّاتية هو بمثابة العقد الذي يجعل الكاتب يربط بينه وبين القارئ، وهو عبارة عن جملة من المعاني . تضمّنت مقدّمة “سرد الذات” ميثاقا سيرذاتيا ناصعا يقول الكاتب: “كتبت هذا الكتاب لأوثّق فيه تاريخ أهلي وبلدي، على مدى تسعة وعشرين عاما، في أساليب من القول، بعد أن أزلت منه الغثّ أو ما اختلط به وأسميته “سرد الذات” . فالسّرد هو إجادة سياقة الحديث، أما الذّات فهو ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه . لقد أغفلت كثيرا من الحوادث والروايات لأناس قضوا نحبهم، فذكرها يثير الضغائن التي سترها الله .جاء في الأثر: اذكروا محاسن موتاكم “غفر الله لهم جميعاً” . استجاب هذا الميثاق لماهيته ولوظيفته الفنيّة، وقد تضمّن بيانا لدوافع الكتابة، لتأليف هذه السّيرة، كما أشار سموه إلى صعوبة التصريح التّام وصعوبة البوح بكلّ ما يندرج تحت هذه السّيرة وليست هذه الصعوبة وليدة النسيان، بقدر ما هي قاعدة رسمها المؤلّف في الميثاق وعلّل اختياره عن وعي ودراية .من هنا يؤكّد الكاتب قاعدة الصّراحة المطلقة المستحيلة والمعتمدة في المدوّنة المرجعية لهذا الجنس الأدبي وأنّها في أغلب نصوص هذا الجنس أمرا نسبيا . ولتحقيق جنس السّيرة الذّاتية هويّتها اشترط “فيليب لوجون” هذا “الميثاق السّيرذاتي” ويتضمّن الاعتذارات والتوقيعات والمقدّمات وإعلان النيّة .وفي الإشارة للتّسمية في “سرد الذات” فالعنوان مضطلع بوظيفته، أي أنّ كاتبها يترجم لذاته، وقد صرّح بدواعي كتابته لسرد ذاته ومنها توثيق تاريخ أهله ووطنه، ومن هنا ندرك التماهي بين السّرد الذاّتي والسّرد الموضوعي في هذه السيرة .“سرد الذّات” يعلن فيه العنوان حقّ الذّات في اتّخاذ نفسها موضوعا للتّحليل والتأمّل، وحقّ الذّات الانصهار في ذات المجموعة: (الوطن والأهل والوجود) وحق الذّات في الاندماج في المكان (بلدي)، وحقّ الذّات في الانصهار في الزمن (التاريخ) . وفي ربط الكاتب بين سرد الأحداث والواقع، يتأكد توفر الميثاق المرجعي في “سرد الذات”، إذ هو تعاقد بين الكاتب والقارئ أن المادة المسرودة لها مرجعية واقعية .* الدوافع الذاتية: ولنا أن نستنير بكتاب يحيي إبراهيم عبد الدّايم في إبراز دوافع الكتابة للتّرجمة الذّاتي،ة ومنها، الدّوافع التبريرية وهي الّتي تكتب للدّفاع عن النفس أو الاعتذار، كمثال ما كتبه ابن خلدون في (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا) . كما أنّنا نستنير بكتاب “جورج ماي” الّذي يفسّر دافع التبرير بالقول: “هو حاجة المرء إلى الكتابة ليبرّر على رؤوس الملأ ما كان أتاه من أفعال أو صرّح به من آراء، ويكون شعورالمرء بهذه الحاجة،أكثر إيلاما وأشدّ إلحاحا على وجه الخصوص، إن ذهب في ظنّه أنّ النّاس قد افتروا عليه .* الشّهادة: وإن كان الدّافع التبريريّ ضمن المقاصد الأكثر عقلانيّة، فلا بدّ لنا من الإشارة إلى بواعث أخرى أكثر غموضا وأكثر عاطفية يمكن أن تمازجه، والشّهادة تعني ما يصرّح به كثير من كتّاب السّيرة الذّاتية من شعور بضرورة العمل بوجه من الوجوه على ألاّ يزول بزوالهم ما كانوا عليه لسبب أولآخر شاهدين مقرّبين .الشهادة من بين كلّ الدّوافع التي يقرّ بها كتّاب السّيرة الذّاتية أنفسهم، هو بلا مراء ذاك الّذي يظهر بمظهر الأكثر غيريّة وترفّعا، كما يتّضح أنّه حين يكون موضوع الشّهادة الذي يميل إليه كاتب السّيرة الذّاتية تصوير وعيه، فإنّ الشهادة ربّما انقلبت اعترافا ولعلّ ذلك ما دعا كثيرا من الباحثين في السّيرة الذّاتية إلى التمييز بين الشّهادة والاعتراف، ونقترح بين التبرير والشّهادة أنّه يتيح لنا أن نشير إلى ضربين من الشهادة أوّلها الشهادة الاعتراف، سواء أمازجها أم لم يمازجها شيء من النزوع إلى إظهارالمرء عيوبه، وترجع أصول هذا الدّافع إلى القديس “أوجستين” و”روسو” وتتواصل من دون انقطاع إلى أيّامنا في بعض جوانب أعمال “ميشيل ليريس” . وأمّا الثّاني من ضربي الشّهادة فهو الشّهادة المموّهة إن جاز القول، وفيها يعمد كاتب السّيرة الذّاتية إلى سحر براعته الأدبيّة، فيصرف بها انتباه القارئ إلى حاضر التدوين، ويبعده عن ماضي الخطأ . التخفّف من الثورة والانفعال: مثلما جاء في رسالة أبي حيان “في الصّداقة والصديق” وفي كتابه “الإمتاع والمؤانسة” .* تصوير الحياة المثالية: هي أشبه بنجوى الذّات مثالها ما كتبه عبد الرحمن الجوزي عن نفسه في كتابه “لفتة الكبد في نصيحة الولد” .* تصوير الحياة الفكرية: هذا النوع يعمد إلى تصوير كلّ ما أثّر في تكوين الكاتب وتطوّره العقلي والفكري من منابع ثقافة متنوّعة: كتب وأساتذة وتجارب الحياة ورحلات، وهذا وارد في الأدب العربي القديم نذكر منهم ابن الهيثم والبيروني والرازي والسّيوطي .* الرغبة في استرجاع الذكريات: من أمثلتها كتاب (طوق الحمامة في الألفة والألاّف) لابن حزم الأندلسي،وقد جرى فيه مجرى الاعتراف بالبوح بذكريات شبابه العاطفية . * المتعة بتذكّر الذّات: يؤكّد “جورج غاسدورف” أنّ السّيرة الذّاتية هي المرآة التي يلتقي فيها الفرد مع ذاته، وهذا التماهي مع الذّات يحضر للتعبير عن أحاسيس الرضا عن النّفس والاعتزاز بقدرات الذّات ومواهبها وسماتها المتفرّدة وهذا أكثر من دواعي المحاسبة والاعتراف .فالتمتّع بتذكّر الذّات باعث لا يقلّ أهمية عن بواعث أخرى تشكّل محفّزا على سرد الذّات قصّتها، وهذا الدافع يدفع صاحبه لاسترجاع رحلته في الحياة وصور تجاربه، الأبيض منها والأسود بما فيها من نجاحات وتعثّرات ليصل إلى ما هو عليه، بعد الكثير من المجهود والتضحيات .استعادة جمال الإحساس بالحياة التي عاشها صاحبها واستعادتها وعيشها مرّة أخرى تقطيرا لما كان أحسّ به من لذّة وجمال .وأنّ في إحياء الذكريات احتماء بالماضي ونسيان الحاضر وما فيه من مكدّرات . * تحقيق متعة الكتابة: والسّيرة الذّاتية تستدعي لكاتبها أجمل مشاعر اللذّة الفنيّة بعظمة ما أنتجته الكتابة عن الذّات من صور فريدة عن الماضي أخرجتها الكتابة من غيابات الذّاكرة، إضافة إلى لذّة فعل الكتابة نفسه”، وهذه اللذّة وصفها حنّا مينا وصفا دقيقا بقوله: “إنّ الماضي له قابلية حياة دائمة في حياتي وفي ذاتي، ينضج ويتصفّى ويشفّ كقطرات الماء الصّافي، ومع كلّ العمق الّذي أعيش به الحاضر، وكلّ الحلم الذي يسبق المستقبل ويبني لي مستقبلا أحياه، يندر أن أتناول مادتي إلاّ من تلك القطرات، من ذلك الشيء الّذي تخمّر وتكرّر وصار قابلاً للاشتعال والتوهّج في نفسي ما أن تمسّه ومضة الاسترجاع الكبريتية إنّه التعبير عن الوعي بقيمة الذّات المبدعة والمتلفّظة” .* الرغبة في الانفلات من الزمن: لقد تضمّنت “سرد الذّات” عبارتي التذكّر والنسيان، ما يفصح عن رغبة في الانفلات من الزمن من قيود الحاضر وما فيه من مكدّرات ومحاولة رسم أحلام جميلة للمستقبل، ويصوّر التذكّر في السّيرة حالة صراع مع الزمن بأبعاده الثلاثة، ويندرج ضمن هذا المعنى الاعتراف بجميل الآخرين .* إثبات الهوية: “سرد الذّات” ألّفه صاحب السمو حاكم الشارقة حسب تصريحه ليتيح للقرّاء فرصة التعرّف إلى الأحداث التاريخية الكبيرة التي شهدتها المنطقة من الأربعينيات وحتّى السبعينيات من القرن الماضي،و التعرّف إلى المزيد من المنعطفات المهمّة التي عاشتها إمارة الشّارقة خصوصاً، والخليج والعالم العربي عموما، ومن ذلك المدّ القومي العربي والتطوّر الثقافي والتعليمي السّريع في الإمارة . وثّق به سموه ستّا وعشرين عاماً من التاريخ الشّامل لعائلته وشعبه ودولته . مثلما وضّح قائلاً: “إنّ الحجم الهائل للإرث التراثي والعلاقة الوطيدة التي ربطت بين الناس وبعض المعالم الخاصّة في الشّارقة، ساعدتهم حقاً على تحديد شخصيّتهم، وأعطت للشارقة هويّة ثقافية فريدة من نوعها” .* الاعتبار من تجارب الحياة: عبّر صاحب السموّ حاكم الشارقة عن الغرض من تأليف هذا الكتاب بقوله: “إنّني آمل من وراء نشر هذا الكتاب أن يعيد القرّاء إحياء تجاربي، وأن يتعرّفوا على المزيد بشأن تلك الحقبة التاريخيّة . “إنّها تجربة حياة فردية، وتجربة حياة جماعية زاخرة بالمعاني والقيم يجد فيها القارئ فسحة للتأمل والاعتبار من تجارب الآخرين واستخلاص العبر الصالحة لكلّ زمان ولكلّ مكان” .* تصوير الحياة الفكرية: عمد سموه إلى تصوير كلّ ما أثّر في تكوينه وتطوّره العقلي والفكري من منابع ثقافية متعدّدة وتجارب متنوّعة:أهله وأساتذته وأصدقاؤه وتجارب الحياة ورحلاته، ومطالعاته . * الشهادة التاريخية: نتبيّن في “سرد الذّات” دافعا جليّا وقويّا إلى الكتابة في تاريخ المجتمع الإماراتي الاجتماعي والسّياسي والثّقافي وذكر الشّواهد والأدلّة والنتائج والمواقف .لقد كانت “سرد الذّات” شهادة على كاتبها وعلى عصرها، فتح فيها الكاتب نوافذ على محيطه وعلى العالم (صورة المدن وتصرّفات الأفراد) وكل ما فيها من صراعات وتناقضات وتطلّعات، ترجمت لمرحلة خطيرة هي مرحلة التحوّل من مجتمع تقليدي إلى مجتمع دولة . وشاهدة على كلّ ما اعترى الذّات الكاتبة والأفراد من انفعالات وتوتّرات وأحلام، ترجمت الآلام الفردية والجماعية وقد استوعبت الذّات الفرد، الذّات العربيّة والذّات الإنسانية بكلّ أبعادها . * الوظيفة النقديّة: من الدّوافع البارزة في “سرد الذّات” رغبة صاحبها في تحليل الواقع ونقده، وهذه الرغبة نستشفّها من مواقف الإدانة لكلّ ما لا ترضى عنه ذاته من ذاته ومن الآخرين . وقد تجلّى هذا الوعي النّقدي في صورته الطفلية البريئة من خلال استرجاعه سن طفولته، بدءا من تلك الجولة الّتي رافق فيها والده المندوب الأمريكي خلال رحلة في سيّارته البرمائية، لكنّه ألغاها بسبب تقيؤه، فالنّقد هنا لهذا الموقف يتجلّى في صورته الجنينيّة . نقد من خلال تذكّر الكاتب وهو صبيّ لإلغاء النائب البريطاني لمتعة التجوّل بسببه .ويتجلّى النقد في عديد المواقف وعديد السلوكيات في مظاهر مختلفة .* الوعي بحركية الزمن: يكشف سرد الذات “وعي صاحبه بقضية الزّمن يجسد إحساسه بالحنين، إحساسا نابعا من متعة التذكّر التي تنشد الاكتمال بمشاركة الآخرين هذه المتعة . وهكذا تكتسب عملية سرد الذّات قيمتها في ترجمة وعي ذات الكاتب بأهميّتها وبأنّ الحياة الّتي يسردها جديرة بأن تروى .إنّ “سرد الذات” إضافة نوعية لجنس السيرة الذاتية، ورفد للمكتبة العربية، استطاع صاحب السمو حاكم الشارقة فيها محاورة تاريخ وطنه معمقا من خلال السرد الموضوعي فكرة تأصيل الإنسان في المكان والزمان ؛ كما استطاع إغناء هذا الفن بانفتاحه على أساليب التعبيرالأخرى،و بالكشف عن وجود كيان فردي ذاتي بحت في علاقته بتاريخ كيان جماعي موضوعي صرف، مبرزا ما تنطوي عليه كل ذات فردية من جوهر جماعي وما تنطوي عليه كل ذات جماعية من عمق فردي. | |
|