حداثة الفكر العربي: غربة الزمان والمكان...
قراءة في كتاب
منذ أن قيل لأبي تمام الشاعر العربي العباسي: لماذا تقول ما لا يفهم? وأجاب: ولم لا تفهمون ما يقال.. منذاك ونحن في شغل عن الحداثة بما حول الحداثة نحوم حول حداثة أبي تمام وأبي نواس وأدباء ومبدعين آخرين... ومنذ أن دخلنا دائرة الاستهلاك النظري واستيراد النظريات غادرتنا الحداثة قولاً وفعلاً... غادرتنا فعلاً لأننا لم نعد نشارك في صنع المشهد الحضاري بألوانه وأشكاله, وكقول غاب مع غياب الفعل. وبعد طول رقاد وبعد أربعة قرون أكثر تعود الحداثة من جديد طريقة تفكير ومحاولة استعادة فردوس مفقود....!!
الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية يتناول موقف العرب من الحداثة في البداية يتوقف عند مصطلح الأصالة.
*الأصالة وهم الفكرة وحقيقتها..? الأصالة كما يراها بلقزيز جوهرها مدافعة الهوية والأنا الحضارية (الثقافية, الدينية, القيمية( نفسها في مواجهة نقائضها وليست نقائضها سوى ما ليس هي, أي ما لا يدخل في حوزة كينونتها كوعي ذاتي مطلق. ولقد انتقلت أيديولوجيا الأصالة إلى ضفاف غير مألوفة: إذا انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي إلى الهجوم عليه... رب قائل إن فكرة الأصالة في أصولها, الإحيائية المعاصرة لم تكن لتتحمل كل هذه المآلات وإنما زيد على مقدماتها مزيدات ليست من نسلها ولا مما في جوفها من ممكنات. أما مفارقات الأصالة فهي كما يراها بلقزيز تستحق الوقوف عندها ويمكن إيجازها بأربع نقاط هي:1ـ لا تاريخية مفهوم الأصالة 2- اختراع معنى أصولي للأصالة 3- مذهبية مفهوم الأصالة واستواؤه على معنى يجافي معناه الأصلي 4- معاداة خطاب الأصالة للتقدم والتغيير.
*الحداثة.... نهضة ونكسة .... الحداثة كما يعرفها بلقزيز: خطاب ثقافي جديد يقترح على الوعي العربي رؤية مختلفة للعالم والمجتمع والثقافة متمايزة عن الرؤى والتصورات السائدة. وتاريخ الحداثة في الفكر العربي تاريخ خاص لأنه تاريخ هذا الفكر نفسه وأنه ليس يتقبل القراءة إلا في شروط تطوره الثقافي... وقد نشأت المقالة الحداثية في ثقافتنا المعاصرة في امتداد وتأثيرات ثقافية وافدة من خارج, وغالباً في ركاب الغزو الأجنبي. لسنا نشذ في ذلك عن غيرنا في العالم الحديث, سيقال إن ظروف النشأة والتكوين تلك أنتجت حداثة شوهاء وهشة شديدة النخبوية أو معزولة في محيطها الثقافي.... وعزلتها ونخبويتها ليست حجة عليها ولا دليلاً على انعدام الحاجة إليها ذلك أن الأفكار الكبرى في التاريخ تبدأ دائماً بداية صعبة.
*إبداع واقتحام.. يفرّق بلقزيز بين الحداثة وبين التقليد الرث للغرب (التغربن) الحداثة إبداع واقتحام, يجذف ببطولة ضد التيار كي يؤسس للنفس مكاناً, أما (التغربن) فيرادف التبعية الفكرية والكسل المعرفي والتسول الثقافي والتعيش من إبداع الآخرين وتحويل المعرفة من إنتاج إلى ترجمة وترداد ممل ورتيب لما قاله الآخرون لا يمثل هذا التغربن أو هذا التقليد الرث والتبعي للغرب, الحداثة وأدوارها الثقافية التقدمية بقدر ما يسيء إليها ويغرمها بباهظ الغرامات أمام نقائضها الثقافية. ويخلص إلى القول: إن حداثتنا تعاني غربتين زمانية ومكانية. زمانية لأنها خطاب (جالية ثقافية) ما ضوية من خارج الزمان, وخطاب (جالية ثقافية) حداثوية من خارج المكان من جوف هذا النقد الثقافي المزدوج سيبدأ تاريخ الحداثة.
*عنف الحداثة... لم تقترح الحداثة نفسها بطريقة حضارية إقناعية عن المجتمعات والثقافات التي اقتحمت قلاعها المحروسة, بل أتتها على حين غرة متوسلة بالغزوة الاستعمارية حاملاً ومحققاً, ومع أن عنف الحداثة هذا كان يكفي لرفضها ولفظها من قبل من وقع عليهم فعل العنف إذ ذاك إلا أن ذلك لم يحصل دائماً بالقدر المتوقع... وفي سائر المجتمعات التي اقتحمتها الحداثة خارج مداها الأوروبي لم يكن ممكناً أن تتم عملية الاستقبال بتسهيل أو رحابة صدر, خاصة وهي أتت في ركاب الغزو الاستعماري الأمر الذي عنى القبول بها تسليماً بالهزيمة واعترافاً نفسياً بها: أما وسائل الممانعة فهي كثيرة أولها: الممانعة الحادة والشاملة وثانيها: الممانعة المتكيفة مع إكراهات الحداثة وثالثها: الممانعة الثقافية البعدية.
*خلاصة القول: يحاول الكتاب كما يقول مؤلفه أن يقدم مساهمة متواضعة في إعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر وهي محاولة لا تعتذر عن رغبة لديها في إعادة الاعتبار لهذا الخطاب الذي لحقه حيف شديد وتعرض كما يقول المؤلف لتهميش كبير وخاصة في القرن الماضي من لدى معظم من تصدوا لكتابة تاريخ الفكر العربي والمعاصر من مواقع ثقافية توسلت بمقدمات إيديولوجية وأعلنت للحداثة عداء صريحاً حتى دون أن تصغي إلى خطابها أو تضعه في ميزان التقدير العلمي.