مدخل نظري في الصورة الشعرية:
إن موضوع الصورة والرمز وطلب المعني أصبح أمرا قائما في الدراسات النقدية والشعرية ولعل هذا ماثل في كل الآداب وراجع إلي العناية البالغة بأمر اللغة وأمر الكلمة في الدراسات الحديثة.
ومعلوم أيضا أن الصورة الشعرية لا معني لها إذا لم تكن إيحائية، وهي لذلك لصيقة بالرمز، وفي علاقتها به فهي مؤدية حتما إلي معني يلقيه الشاعر على المتلقي، وبذلك تصبح الصورة أداة خطاب، مرورا بالرمز وتحقيق المعني، والنظرية الحديثة في تناول الأدب تؤكد الخصائص النوعية لمصطلح "صورة" وأهميته في استكشاف كل عمل إبداعي ومعرفة موقف صاحبه من الواقع ومن القضايا الأخرى، فالصورة أذا من المعايير الهامة في الحكم على أصالة التجربة،وقدرة الشاعر على تشكيلها في نسق طريف يحقق المتعة والخير لمن يتلقاها.
وضروري قبل الإقدام على دراسة الصورة عند شاعر ما: ضبط هذا المصطلح والإشارة إلى العناصر التي من شأنها أن تساعد على بلورة مفهومه.
المفهوم النظري لمصطلح "صورة":
إن كلمة صورة من الكلمات التي ينبغي أن تستعمل بحذر وضبط دقيقين، وهي كلمة غامضة وغير دقيقة في الوقت نفسه، غامضة لأنها تسمح باستعمالها استعمالا غير محدد. وقد تميز مصطلح صورة تاريخيا باكتسابه لمفهومين:
1- مفهوم قديم: يقف عند حدود الصورة البلاغية.
2- مفهوم حديث: يضم إلي الصورة بالبلاغية نوعين آخرين هما:
أ- الصورة الذهنية.
ب- الصورة الرمزية.
ويمثل كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة اتجاها قائما بذاته، ولابد أن نشير إي أن علوما كثيرة ساهمت في تطوير هذا المفهوم كالفلسفة وعلم الجمال وعلم النفس، وتفيد الدراسات أن هذا المصطلح سقط بمعناه الفلسفي إلي العرب مع فلسفة أرسطو حيث دعم الفصل بين الصورة والهيولي، ونجد من البلاغيين العرب من يفرق بين الصورة والهيولي، نذكر منهم أبا هلال العسكري في كتاب "الصناعيين" إذ يقول: "الألفاظ أجساد والمعاني أرواح" وقد استعمل مصطلح صورة في أكثر من مجال واحد من مجالات المعرفة الإنسانية واتخذ في كل منها مفهوما خاصا.
والجوانب التي تتعلق بالشعر هي دلالاتها الرمزية وتستعمل هذه الدلالة في الدراسات الانتربولوجية وفي البحوث التي تعتمد نتائج هذه الدراسات والصورة لديها هي القصيدة بأجمعها باعتبارها رمزا حسيا يكشف عن أشياء كثيرة جوهرية في حياة الفنان وشخصيته وطبيعة ذهنه، أنه خلق يعادل حدس الشاعر.
وقد تبني الصورة بناءا بلاغيا وقد لا تبني، المهم هو أ، الصورة رمز لا يحمل الواقع هي عالم إشارة.
فالصورة في جوهرها خلق جديد لعلاقات جديدة بين الحقائق وهي الوصال الخفي بين الكائنات، وهي تتعدى المحسوس المنطقي لتجمع ما تفرق.
وإذا كانت الموسيقي أهم فارق في لغة الشعر ولغة النثر، فإن الصورة خاصية في لغة الشعر، لأن الشعر يتخذ طريقة إلي المتقبل بالإيحاء، وقد تتآزر الموسيقي والصورة في الشعر وقد يدخل فن الرسم لتشكيل الصورة على نسق معين مستعينا بالألوان والأشكال والظلال ليضفي عليها معاني ودلالات أكثر إيحاءا ورمزا.
وإذا بحثنا عن تفسير لتشكيل الصورة فقد لا نعثر عليه إلا في لا وعي الشاعر.
الصورة الشعرية لحظة خلقها وارتباطها باللاوعي
لقد أهمل النقد القديم مسألة اللاوعي واعتبرها شيئا مهما يدخل ضمن الإلهام والوحي، إلا أن هذا المبهم ساعد على كشفه علم النفس في بداية هذا القرن، فلم يعد سعرا خفيا، بل صار عنصرا طبيعيا مستقلا، له وظيفته الهامة في عملية الخلق، فاللاوعي هو جوهر الذات العميقة، من خلاله ندرك الخيط الخفي الذي يربط الألفاظ المتباعدة.
كما لا ننسي عنصر الخيال الذي يعتبر المدخل لدراسة الصورة.
1- الخيال: إذا كان الشعر العربي لم يستفد من الفهم المستنير الذي قدمه ابن عربي لدور الخيال في خلق الصورة الشعرية، فقد أتيح للشعر في أوروبا أن يفيد من نظرية كولردج (COLERIDGE) في الخيال التي تتقارب مع فهم ابن عربي وقد جاء هذا التقارب نتيجة قرب التصوف من المنابع الدينية والفلسفية التي ترجع في أصولها إلي الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة التي عاد إليها الرومنطيقيون في ثورتهم على الكلاسيكية وروافدها العقلية الأرسطية.
ويعتبر تحديد "فرويد" للصورة الشعرية بأنها رمز مصدره اللاشعور انعطافا مهما في فهمها، إضافة إلى فكرة "يونج" عن النماذج العليا (Archetypes)، إذ توجه اهتمام الدارسين نحو التشكيل اللغوي للصور ومنابعها الموغلة في أعماق التراث الحضاري للذهن الإنساني. وقدام على هذه الأسس النفسية التعريفان الجديدان للصورة "الذهنية – والرمية".
فبينما "الصورة الذهنية" تصنف حسب مادتها إلي صورة بصرية وسمعية وشمية وذوقية ولمسية، فهي تشكيلات من عمل الحواس الخمس، يضاف إليها الصورة الحركية والعضوية.
فالصورة الرمية يهتم فيها بالألفاظ المتكررة التي سميت بعناقيد الصور، ويهتم هذا الاتجاه بما وراء هذه الصورة الرمزية من أصول نبعت منها وملاحظة كيفية ارتباطها بالنماذج العليا في الشعائر والأساطير. وكذلك فإن الصورة إذا تكررت تصبح "صورة نمطية" وهذا ما يجعلا "رمزا" ويسميها "نورمان فريدمان" "الصورة الرمز".
ومن هذه الاتجاهات نخرج بمفهوم قريب إلي الوضوح لمصطلح "صورة": إنها تشكيل لغوي يكونها خيال الفنان من عناصر عديدة يقف العالم المحسوس في مقدمتها إلي جانب الصورة النفسية والعقلية. والعبارة هي مادة الصورة الشعرية وهي لغة تتجاوز المستوي الأول للدلالة.
1- المستوي التصريحي (Denotation): إلى المستوي الثاني التلميحي الإيمائي (Connotation) ولهذا تقوم تقنية الصورة الشعرية على بمدأ "العدول" (Ecart) إذا قيسمت بالنسبة إلي الكلام العادي الذي هو لغة التواصل اليومي، ومن هنا تري أن تقنيتها تخضع لمبدأين رئيسيين:
أ- مبدأ لمشابهة: ويؤلف الاستعارة.
ب- مبدأ التجاوز: ويؤدي إلي المجاز المرسل والعقلي.
وانطلاقا من هذهين المحورين نصل إلي تعريف الرمز.
2- الرمز: هو استعمال لفظة معينة لها معانيها المحددة المعروفة والاصطلاحية ثم انتقال من خلال هذا المعني إلي معنى ومعان جديدة.
والفرق ببين الرمز والاستعارة والمجاز هو أن الانتقال في الرمز يتم نتيجة المشابهة بين المعني الأول والمعني الثاني، وليس للمجاورة بينهما وإنما لعلاقة تدرك بالعقل.
والرمز أن تكرر يصبح دالا على أشياء بعيدة عن معناها الأصلي ويرجعه "فرويد" إلي حافز نفسي هو مبدأ اللذة، وينحصر حقل التحليل الرمزي في إطار التعبير عن الكبت، ويرتبط الرمز بالأسطورة لأنها تخرج عن مدلولها الأول وتتحول إلي وظيفة تتنوع فيها الدلالات.
3- الأسطوة: إن علاقة الأسطورة بالأدب حقيقة لا يمكن التغافل عنها. والأسطرة هي حكاية عن أزمة قديمة ذات طابع إيحائي تعطي تفسير لبعض القضايا، ومنهج التحليل النفسي يعتبرها نتاجا للمخيلة، ولكنه خيال يحتل رتبة وسطي بين الخيال العضوي التلقائي الذي ينتج عنه الحلم والخيال الهادف الذي ينتج عنه العمل الأدبي، هو خيال يؤدي إلي تنظيم معين على أساس الانفعالات النفسية الخاصة المتمحورة حول الثوات النفسية: الجنس – الحب – الموت.
والعلاقة بين الأسطورة واللاوعي واضحة بالنسبة إلي التحليل النفسي، فهي تخضع بدورها للمبدأ الأساسي في التحليل وهو أن الرغبة اللاواعية تشبع بواسطة المخيلة، لذلك فهي تحوي بشكل مستتر ميول الطفولة لمجموعة بشرية معينة هي بقايا الحياة النفسية الطفولية لشعب ما كما أن الحلم هو هيئة الفرد.
أن هذه المعطيات ضرورية لتحديد المنطق الذي سنبي عليه دراستنا لتشكيل الصور في شعر مبارك بن سيف الناخي.
كشف تشكلت صورة الوطن في شعر الشيخ مبارك الناخي؟
أن الوصول إلي عناصر هذه الصورة وإدراك خصوصياتها يقتضي الدخول في "حالة" القصيدة أو "حالة" الشاعر الشعورية تلك اللحظات التي يبلغ فيها الشاعر الذروة في الطاقة الانفعالية بولوغ هذه المرتبة من القارئ يتطلب حسا خاصا حتي تتجسد القصيدة أمامه كاملة بتفاصيلها وعالمها فيستشف قسماتها الظاهرة وينفذ إلي زواياها الباطنة فيلامس وحداتها الدلالية ومنابع الإشعاع الشعري فيها، وإن تناول القصيدة كاملة كوحدة نصية يعني ألا تجزئ أداة المعني المتمثلة في نسق معين. وهذه النظرة الكلية توصلنا إلي بؤرة العطاء الفني والنظام اللغوي فندرك العلاقات والتأثيرات التي من خلالها تمارس القصيدة سلطتها علينا.
إن القصية عند الشيخ مبارك تمثل وحدة كاملة ولنتناول نونينه التي يمكن نونتها "بالشاعر والوطن" أنشدها سنة 136هـ، يحث فيها قوم على الأخذ بأسباب العلم والحضارة يقول فيها:
دعني أفكر في قومي وأوطاني
أنثر الدمع أحزانا بأحزان
ولا تلمني على نصحي وتذكرتي
قد داء للنصح تحريضا بأديان
ولا تلمني إذا ما قمت منتصبا
أتلوا الخطاب بإيضاح وتبيان
ما كنت أطلب جاها لا ولا نشبا
إلا معزة أخواني وأوطاني
لولا الهموم وما في النفس من همم
ما ضاقت الأرض في عيني كأرداني
ولا بقيت بهذا الحال مكتئبا
دله الفؤاد وجوما طيل أزماني
متي أري الوطن المحبوب منتبها
من الرقاد مجدا غير وسنان
ملحقا في سماء العز متبعا
درب النجاة وما في أرضه واني
يسعي ونيشر في الأنحاء أغرسا
غرسا من العلم لا غرسا من البان
لولا العلوم تعالى الله ما نهضت
قوم من الجهل أو عزت بسلطان
ولا سعت دولة في الغرب قاهرة
يعنو لها الشرق من قاص ومن دان
ولاخطت خطوة نحو العلا أبدا
ولا أعادت لمجد زائل فان
ولا رأيت لها في اليم من جزر
يحيرك الصنع من علم واتقان
بوارج قد تريك الهول في زمن
أيام تقذف نيرانا بنيران
قسم على اليم كالأبراج ناهضة
منها وآخر غواص لحتان و
ولا رأيت لها في الجو طائرة
كالصقر يعدو على صيد غزلان
ولا سمعت بأذن ناقلا كلما
للسامعين بإيضاح وتبيان
تلك العلوم تسامت أن يحيط بها
شعب من الجهل في غي وحرمان
إن النظر للقصيدة كوحدة كاملة يعني أن لها منطقا خاصا تقوم عله وتنهض به فعلها الإبداعي، والقصيدة هي صورة الشعر العليا لأنها تعبر عن أعلى حالاته وتطلعنا على روح الشاعر ومواقفه وخلجات نفسه ونماء فكره .. كما تعكس إيماءات المكان والزمان والأحداث.
إن هذه القصيدة ليست لحظة شعرية وحسب، بل لحظة تاريخية تختزن في أعماقها مخزونا حديثا هائلا من مجريات الحياة، وهذا زاد من تألقها الشعري ومن دلالاتها انصهار الشاعر الشيخ مبارك انصهارا كليا مع الوطن.
ورفع ذلك الانصهار درجة الانفعال اللازمة للشعر. وقد أشار حازم القرطاجني إلي ذلك بقوله: "إن الشاعر يحدث الانفعال ويؤثر" وهذه السمة من أولي عناصر القول الشعري، فالقارئ حاضر في ذهن الشيخ مبارك واضح له حسابا يسهمه في الإحساس بالانفعال وهكذا تبدو القصيدة صورة متحركة بين ذات الشاعر والوطن وبين ذات الشاعر والقارئ.
إن صورة الوطن في القصيدة صورة نامية متعددة، فالوطن مفرد في صيغة الجمع "دعني أفكر في قومي وأوطاني" ألا تثير هذه الصيغة قلق السؤال؟ كيف يكون الوطن أوطانا، ألا يعني هذا أن الوطن بصورة الجمع لا حدود لمعناه هو كل الوجود، ألا توحي عبارة "عني أفكر" ثورة على الجمود ودعوة إلي التأمل في الواقع الراكد الذي يعيشه الوطن. أن الماهية الكلية لهذه القصيدة الثورة على كل ما هو غير إنساني وغير "مفكر" على كل من فقد علاقاته الحارة المضيئة من خلال الفكر الإنساني الذي يجري مجري الصفاء، إنها حالة تأملية تنحت الوطن صورة العالم الجامد وإلا لم يأل الشاعر؟ متمنيا التغيير من الجمود إلي النهوض بقوله:
"متي أري الوطن المحوب منتبها
من الرقاد مجدا غير وسنان؟"
أن صورة الوطن في القصيدة شئ عزيز لدي الشاعر هو المحوب، وهنا ينخرط الشيخ مبارك مع شعراء الالتزام في اعتبار الوطن هو الحبيب ولكنه غير منتبة تنقصه اليقظة وهو راقد وسنان أي غارق في النعاس وهنا نستفهم ما الذي دعا الشاعر إلي أن ينثر الدمع في مطلع القصيدة؟
ألا يبدو الوطن مرثيا؟ ألا تنتظم القصيدة مرثية للوطن؟ بما فيها من نظام بناه الشاعر على التكرار والتعاود: (تكرار في صيغ النهي والنفي والاستثناء) مثال: لا تلمني (بيت 2)، لا تلمني (بيت 3)، ما كنت (بيت 4)، ما ضاقت (بيت 5) لا سعت (بيت 11) لا خت (بيت 12)، لا رأيت (بيت 13)، ولا رأيت (بيت 16)، ولا سمعت (بيت 17).
إنها بكائية الوطن يصوغها الشاعر في قصيدة ذات نبرة حزينة إيقاعها توجع وأنين، هذا النغم يؤدي الروي تأدية واضحة فجاء نونا مكسورة تعبيرا عن الحرقة والانكسار، إنها أنات شاعر يطلقها زفرات حادة تعبر عن ذروة الألم.
أن هذه القصيدة ولدت بتوتر انفعالي قوية – فيه من الصدق ما أكسب التجربة الشعرية تلقائية محببة، تلقائية مرتبطة باندفاعات واعية تتحرق وتتحفز إلي التعبير والتحول والخروج والخلاص من عالم اللاتفكير إلي الم التفكير. ومفتاح القصيدة هو انفالات من سكون الفكر الذي يعني سكون الحياة والموت. ومحاولة نحت صورة جديدة للوطن هي صورة مثالية منشودة يتحقق فيها حلم الشاعر بتحقق حلم الوطن.
أن الصورة المنشودة للوطن هي كائن قدسي محلق في سماء العز سالكا درب الندة من الهلاك والفناء، لعل القارئ يعتبر بكائية الشاعر من نوع السلبية والانهزامية ولكن الإجابة كامنة في بنية القصيد، فقد أقام الشاعر بناءها على المحاورة يخاطب "الآخر" بما يضفي عليها سعة الحركة والجدلية التي تكشف عن قلق الشاعر ومأساته النابعة من مأساة وطنه هذه المأساة التي تدفعه إلي "القيام" وما في معني القيام من إيجابية وإصلاح.
ولا تلمني إذا ما قمت منتصبا
أتلو الخطاب بإيضاح وتبيان"
فالشاعر منكسر ويائس لكنه ينهض من أجل ز قومه وأوطانه، والقصيدة حوار مأساوي فيها قلق وحيرة وفيها كذلك تجاوز وتحد.
والحوار بين الشاعر واللائم شكلي يوهم به تركيب القول وإذا تأملنا فيه نقف على القطيعة بين الشاعر والآخرين، إن الشاعر متألم لكنه غير يائس وهو متحسر لكنه لم يفقد الرجاء، فالقصيدة تفاعل وحركة هي فعل صادر من اليأس ولكن اليأس لا يثبط من عزيمة الشاعر وهو "قائم منتصب" وهذا الثبات يدل على إيمانه برسالته ساعيا إلي تبليغها، وثمة اصطدام إذا بين الإيمان الذي عليه الشاعر والمستوي العقلي الذي عليه المجتمع (الوطن)، اصدام بني الحلم والمثل العليا التي ترقي بالوطن وبين الواقع المزري الذي يتخبط فيه، ويعد نحت الشاعر ملامح الوطن الحر المؤمن بالعلم فهو يسكل أسلوب الترغيب في تصوير ما يحققه العلم من نهضة وعزة ويضرب لوطنه الغافل مثل الغرب القاهر للصعاب والمحقق للرفعة، ويزين له الشاعر ما توصل له الغرب من تقدم علمي وتطور في المواصلات البحرية:
ولا رأيت لها في اليم من جزر
يحيرك الصنع من علم واتقان
بوارج قد تريك الهول في زمن
أيام تقذف نيرانا بنيران
وعبارة "أفكر في القصيدة فجرت الدلالات في نسيجها وانتظمت بها التجربة، وهي عبارة توحي بمعني الحرية من قيد الصمت، بينما تقابل عبارة أخري توحي بها الكلمات إيحاء لطيفا هي كلمة "حرية" في صورة "الوطن ملحقا في سماء العز" وبقيت عبارة ملحقا" تختزل معني الحرية معبأة بالأحلام ومشعة برغبات الخلاص والتطهر بنور الحياة والتحرك في كل الاتجاهات دون قيد، فلا شئ يحد من حركة الوطن ويمنعه من التحليق في السماء.
إن القصيدة تنحت صورة للوطن مبنية على التقابل بين لحظتين تاريخيتين لحظة تعني الماي وتستمر إلي الحاضر وهي حالة فقدان الحرية والطيران، ولحظة تعني المستقبل وهي الحلم يحقق الوطن فيها حريته، وإذا كان الوطن محبوبا فالشاعر يمثل صورة العاشق "دله الفؤاد" ولفظة الفؤاد لفظة أثيرة في الثقافة العربية الإسلامية قبل أن تصبح ركنا من أركان المفاهيم الرومنطيقية العالمية. فالفؤاد موطن الإحساس والحب وكل المشاعر المتسامية التي ترقي بالإنسان إلي معانقة السعادة وقد ظهر حب الوطن نفس الشعار فصار يتعامل مع الحياة بعيدا عن مكتسبات المجتمع.
"ما كنت أطلب جاها لا ولا نشبا
إلا معزة إخواني وأوطاني"
إن الهوة كبيرة بين الشاعر والوطن، فإذا كان عالم الشاعر فضاء رحبا فسيحا فيه المثل العليا الخالدة، فالوطن في عالم سفلي "شعب من الجهل في غي وحرمان" والشاعر يحاول أن يسمو به ويدفع بكل حواسه في سبيل هذا السمو يدفع (فكره – علمه – لسانه – قلبه) ثمنا من أجل عزة الوطن أنها تضحية الشاعر الوطني الصادق.
وإذا كان الشيخ مبارك يسعي إلي أن يسمو بشعبه عن طريق الرسالة التي ؤمن بها إلا أن شعبه متمسك بواقعه لم يع جوهر الرسالة التي يحملها ومن هنا تقوي مأساته فيعبر عنها في آخر القصيدة بقوله:
"تلك العلوم تسامت أن يحيط بها
شعب من الجهل في غي وحرمان"
إنها صورة القطيعة بين الشاعر ومجتمعه، ومفهوم القطيعة من المفاهيم الرومنطيقية الثابتة عند الغربيين والشرقيين، فالشاعر "نبي مجهول" اطلع على ما لم يطلع عليه شعبه من حقائق وشعبه غير مدرك يغط في الجهل، وقد كرر الشاعر عبارة (علم وعلوم) لأنها المفتاح الذي يفضله يتخلص الشعب من جهله، وقد أكد على قيمة العلم بقوله:
وما العلم إلا نعمة وسعادة
وما الجهل إلا آفة وبلاء
إن صورة الوطن الحلم ينحتها الشيخ مبارك نحتا مفصلا، صورة حول فيها العلم غرسا يزرع ليعم أرجاء البلاد وذلك ليؤكد انتشار العلم في كل المجالات، والعلم مفتاح التقدم عن الشاعر وقد كرر العبارة في صيغتي المفرد وفي الجمع .. واطلاع الشاعر على الواقع المعاصر جعلع يؤمن إيمانا قاطعا بقيمته، وقد شاهد أثره على البلدان التي نهضت وتخلصت من الجهل وجعله يعدد مزاياه فهو يحقق السمو ويقهر المستحيل، ويعيد المجد الزائل ويجسد الشاعر صورة الوطن الحلم، هو وطن تتقدم فيه الحياة وتتطور فيه وسائل النقل البحرية والجوية، هو وطن يأخذ بأسباب التقنيات من صنع البوارج والمدافع – أنه ينشد الرفعة لأمته ويعهدد الاختراعات التي تحققت بفضل العلم، وتظهر أنا الشاعر في القصيدة والوطن العربية عنصرين يعكسان الحياة في لحظتين، لحظة تاريخية تعني الماضي ولحظة شعرية بمعني المعاناة القاسية في الحاضر حيث فقدان الحرية والوعي – وجاء فعل الأمر – رسالة من الشاعر إلي المتلقي حتي يحمل معه العبء في التغيير، وقصيدة أخري تشع بالاحساس الوطني والانتماء للعروبة والإسلام متأثرا بالوضع المتدهور الذي عليه العالم العربي نظمها سنة 1340 يقول فيها:
كم ذا على الضيم نصبر أيها العرب
ماذا الشقاء وماذا الذل والنصب
بئست حياتكم يا قوم فانتبهوا
من الرقاد فإن القوم قد وثبوا
واستعبدوكم فصرتم كالرقيق لهم
يقضون فيكم بما شاؤوا وما طلبوا
فأين إحساسكم بل أين غيرتكم
وأين رابطة الإسلام يا عرب
الموت والله هير من حياتكمو
فحالكم هذا يقضي به العجب
بالأمس كنتم ملوكا لا نظير لكم
والغرب من بأسكم يخشي ويرتهب
واليوم عدتم إلي حال مبكية
يرثي لها الشرق والإسلام ينتحب
لم لا نقلد آباء لنا سلفوا
بمجدهم يشهد التاريخ والكتب
تلك الحياة فلا هم ولا حزن
ما جاء يحميهم حام ومنتدب
وإذا كان الزمن يفصل بين القصيديتن فإن هذه سابقة عن الأولي باثنتي عشر سنة، فلذلك نلمس النبرة المأساوية أقوي والدرجة الانفعالية اعتي، وذلك بتعدد الأساليب الانشائية فيها، وقد كثف الشيخ مبارك أساليب الاستفهام "كم ذا على الضيم؟" "ماذا الشقاء؟"، "ماذا الذل والنصب؟"، "أين إحساسكم؟"، "أين غيرتكم؟"، "أين رابطة الإسلام؟، "لم لا نقلد آباء لنا سلفوا؟".
أليست هذه القصيدة مشحونة بالأسئلة؟ إنها قصيدة القلق السياسي يقض مضجع الشاعر ويجعله يعيش حيرة من أمر وطنه ونكتشف توجهه للعرب كافة فتبدو صورة الوطن باعثة على الثورة يشعلها الشاعر الشيخ مبارك في النفوس ويلهب الحماس حتي يغر صورة الوطن العربي الخانع للظلم والصابر عليه والشاعر قد نفد صبره، إن تكثيف الاستهام في هذه القصيدة يعمق المأساة التي عليها العرب، صورة بائسة من الذي والهوان والشقاء، أن في كثرة الجمل الاستفهامية بحثا عن الحقيقة وإعادة الوعي بما هو مبهم لقد نحت الشاعر صورة الوطن مجردة من الوعي ومن الحس ومن القيم وتبدو صرخة الشاعر في وجه العرب قوية بمثابة الانفجار بما فيها من نبرة حماسية خطابية، وهنا تتجلي لنا صورة الشاعر الخطيب والمصلح، ويعبر فعل "بئس" في البيت الثاني عن ثورة الشاعر وحده انفعاله فيذم الوطن لأن حياته لا خير فيها مادام راقدا يكبله الجمود، فيحثه على الاتقداء بالغرب دون التصريح قائلا "فإن القوم قد وثبوا".
محاولا أن يشكل صورة مضادة للركود لما في الوثبت من حركة وحيوية – أن الطباق بين لفظتي "رقاد، ووثبوا" يبرز صورة التناقض الذي عليه الواقع العربي مقارنة بالشعوب المتطورة. ويساهم أسلوب النداء في تعميق الإحساس الوطني وبثه في النفوس وأداة النداء "يا" تساعد على حرارة التوسل وتعكس تفريغ الاختناق الذي يطوق الشاعر وينحت الشيخ مبارك صورة منفردة لأبناء وطنه:
واستعبدوكم فصرتم كالرقيق لهم
يقضون فيكم بما شاؤوا وما طلبوا
أت صورة العرب مستعبدين مثل الرقيق صورة تثير النخوة والحمية وتتقابل مع الصورة الماضية عندما كانوا "ملوكا لا نظير لهم والغرب من بأسهم يخشي ويرتهب"، لقد عمد الشاعر إلي ضرب من المقارنات بين الحاضر البائس والماضي الزاهر، ويذكر بالمجد الضائع عسي أن يفيق الشعب من السبات الذي هو فيه، ويلح في السؤال عن تجرد العرب من الإحساس بالغيرة وبعدهم عن الوحدة والتضامن وتقوي ثورة الشار فتيدرج من الذم إلي الدعاء بالشعر معبرا عن نعمته على هذا الشعب مخيرا له الموت بدل الحياة لأنه لم يفقه معناه فيقول:
الموت واله خير من حياتكمو
فحالكم هكذا يقضي به العجب
ويؤكد القسم ثورة الشاعر على الوضع المتردي يوقوي شعور الغضب عنده ويتلاقي في ثورته هذه مع الشعراء العرب المتثرين بالرومنطيقية في اعتبار الموت خلاصا ولم يكن اللواذ إلي الموت إلا تعبيرا عن الجمر الذي يوجع ويدفع إلي الخلاص.
والإيقاع النفسي في القصيدة مصطخب ملئ بالاحتراق بعد أن رفع حالة اليأس إلي أقصاها، فيبكي على الماضي الذي كان العرب فيه أسيادا أصحاب حضارة زاهية ويقارنه بالحاضر الذي "يرثي له الشرق وينتحب له الإسلام".
لقد بني الشاعر رؤياه على نسق تقابلي درامي "بالأمس" و"اليوم" ومن خلال التضاد بين زمنين مختلفين حتي يختار المتلقي ما هو أحق وأجدي ويأخذ التأثير الدلالي أثره حين يكون التوجه بهذه الصفات النقضية.
إن صورة الوطن في هذه القصيدة مرة أخري مرئية والرائي ليس الشاعر لحسب، بل الشرق والإسلام وهنا يقوي عنصر الدرامية في القصيدة. كما يذكر الشيخ مبارك الناخي قومه بمعني الأصالة والاعتبار من سيرة السلف والآباء وبهذا يجذر الواقع الذي يعيشونه ويرطه بمفاهيم التفتح والأخذ بأسباب المعاصرة. أنها معادلة أراد الشاعر أن يؤصلها في شعبه ويسترجع صورة كانت الحياة فيها بلا "هم ولا حزن ولا يحتاجون فيها إلي حام ومنتدب" وهنا يبرز موقف السخرية من وطنه الذي انطلت عليه حيل المستعمر ويتجلي موقفه من فكرة الحماية والانتداب.
أنه نضال بالشعر ضد أشكال الاحتلال أثاره النفوس ونشر الوعي ويتجلي إيمانه بالقضايا الوطنية والقومية وبرسالة المثقف في تنوير العقول من قصيدة قالها بتاريخ 5/3/1956 وجهها لصديقه عبد الله بن صالح المطوع يدعوه فيها لتحمل هذه الرسالة المقدسة يقول فيها:
" فانهض بالقريض لكل قوم
فما كالشعر للإقدام نار
ولا تيأس وإن جهلوا وماتوا
فإن الموت يعقبه انتشار
وقل للغافلين متي تفيقوا
وللأطماع حولكمو قرار
وقل للساكنين على هوان
كفاكم ذلة وكفي عثار"
إن هذا يوضح ما استشعره الوعي القومي من عراقة الأصول العربية، وينصب شعر الشيخ مبارك في أدب المقاومة في العصر الحديث. وقد قيل في شعر التذير بالأمجاد الشئ الكثير، انصب معظمه على المجد العربي القديم.
خلاصة
نصوغ في الختام جملة من الاستنتاجات تتعلق بالقصيدة عند الشيخ مبارك الناخي وهي تعكس موقفه من القضايا الوطنية، وهي تجمع بين العقل والوجدان وتملك طاقة تأثيرية في النفوس.
كما تؤكد القصيدة اندماجه القومي الوطني إذ لم تشغله التجارة عن هذه المسألة، بل لعبت الموهبة دورا كبيرا في شعره فجاء على سجيته بلا تكلف ولا تصنع وجاءت معانيه قريبة من عقل القارئ في إيقاع موسيقي وقافية معبرة.
ولم تخل قصائده من الوجدانية، إذ صور الذات في صراعها مع واقع الشعب المؤلم ورسمها في غنائية تعكس آلامها وعذاباتها، وهذه السمة أضفت علي تجربته سمة درامية نابعة من الوعي بدور القل إلى جانب السيف.
فجاءت القصيدة ذات الموقف الفكري في إطار موضوعي ملموس يؤكد أن ذات الشاعر لا تقف معزولة عن بقية الذوات وعلى هامش العالم الموضوعي وإنما هي ذات تتفاعل مع واقع المجموعة.
وإذا قلنا أن القصيدة عند الشيخ مبارك الناخي تقليدية من جهة الشكل وهي حديثة من جهة رؤيتها الشعرية للقضايا الوطنية وتصور مفهوم المجتمع الحديث مع الأخذ بمصطلحت العصر وما أفرزه من مخترعات صارت رمزا للرقي.
أما الكآبة التي نستشفها من القصائد لعلها تعود غلي مثاليته الروحانية التي تري أن القيم خي ما في هذا العالم وأقدس ما في الوجود.
مراجع:
1- بشرى موسى صالح – الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولي، 1994.
2- دريد يحي الخواجة – القصيدة لا الشعر – طبعة أولى، دار المعارف – حمص، 1992.
3- الدكتور عز الدين إسماعيل – الشعر العربي المعاصر – قضاياه وظواهره الفنية، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1973.