كان ليلها ثقيلا : للعاصفة نحيب يملؤها حزنا ، صرير الأبواب يقلق مضجعها ، للريح صوت يتغلغل في نفسها ويؤسس مملكة للرعب ، طقطقة النوافذ أصوات مزعجة تضاعف شعورها بالوحشة .. وحشة متدثرة بالظلام الزاحف على مناطق الصمت . فكرت في إنارة الغرفة ... إنها فرصة ليرى شمعدانـها الجديد النور ، لكن صفير العاصفة جعلها تركن إلى الخمول ، فدست رأسها تحت الغطاء لحظات أخرى من الراحة والدفء . وفجأة أضاءت الغرفة ... أطلت فرأت شمعتين ارتكزتا على الشمعدان و أشاعتا نورا مبهرا ... بسملت ومكثت تحدّق . . . قرّبت أناملها من النار .. كانت نارا تضيء ولا تلهب ... سمعت حمحمة تخرج من جوف الشمعدان .. خرج منه رجل في لون الضباب . اعتدل ، ونفض الغبار عن بدلته ، وابتسم ثم قال :
- لا تخافي ، كنت بشرا مثلك ، أنا روح الشمعدان .
حدّقت فيه دون أي حراك ، كان وسيما ، ذا ملامح واضحة ... شعر غزير وشاربان طويلان وعينان شرارتان ... لونهما من لون الرماد . تحاملت ثم قالت :
- من جاء بك أيها الرجل ؟ كيف دخلت حجرتي ؟
- أنا لم ادخل غرفتك ، أنا ساكن جوف الشمعدان ، أنت اشتريتني دفعك حبك إلى الطرائف النادرة فأدخلتني بيتك .
- قل لي ما قصتك بالضبط ؟
- اطمئني لا تخافي أنا كونت من كونتات الإفرنج ، عشقت ابنة الملك .. كانت روعة في الجمال فهمت بـها وهامت بي .. لكنّ أباها رفض زواجنا وضرب بحبنا عرض الحائط وصارت بيني وبينه عداوة . وذات ليلة بينما أنا بحجرة ابنته - وقد دخلت خلسة - التحق بي الملك ورفع هذا الشمعدان وضربني به على أم رأسي فانتقلت روحي إلى هذا القمقم الصغير .. من ساعتها و أنا ساكن جوفه وأحيى فيه من خمرة العنب . وها قد دفعت بي الأقدار وصرت بين يديك . وحين اشتد بي الظمأ خرجت أتوسل إليك أن تمنحيني جرعة خمر .
- ما أغرب قصتك يا كونت ! ولكن أنى لي أن آتيك بالخمرة والوقت ليل ، وأنى لي بالحانات وأنا امرأة متعففة . أعطيك شربة ماء إذا شئت أو كوبا من الشاي .
- أتوسل إليك ! إني أكاد أحترق ... لقد تعود سابقوك أن يسقوني خمرا ، دعيك من هذه الخرافات ، الخمرة زينـة موائد الملوك وتحفة الأفراح ، تدبري الأمر ، أرجوك ... لا تدفعيني إلى الغضب .
- اسمع يا كونت لي رطل من العنب ، إذا شئت أصنع لك منه عصيرا ، ولا فائدة في أن تطالبني بأكثر منه .. إن مدحك للخمرة لا يغريني على اقتنائها .
- انك امرأة رقيقة واللهّ . ومؤانسة روحك تستطاب . لقد دخلت قلبي بلا استئذان وستجدين فيه كل ترحيب ، سأمكث عندك ولا أمسك بسوء .
- هل الأرواح تعرف هذه المشاعر .
- نعم وعواطفها شفافة كشفافيتها .
أخرجها هذا الحوار من عالمهـا وحملها الى فضاء تخـدرت فيه حواسها واعتراها ذهول . دخلت يومها نـهج زرقون : بـحرا متلاطما من الناس بحرا أسود من الهامات تتماوج فيه حركات وئيدة متراصة . انّ السرعة تستحيل على المار من هذا النهج التجاري ، سوق بلا حدود ، بضائع مستوردة ، ضروب من السلع يعرضها أصحابها في هدوء ، وأخرى ينادون اليها الزبائن في الحاح ، هذا يكاتف وهذا يزور . حملتها قدماها الى دكان التحف القديمه فوجدته شبيها بالمتحف الصغير واحست بمتعة النظر في الأشياء القديمة : غرف نوم ذات طراز عتيق نادر ، مرايا حائطية مزخرفة بأشكال هندسية ونباتية ..أرائك من الخيزران .. رسومات كبيرة في أُطُـر منقوشة محلاّت باللون الذّهبي وزرابي وأواني خزفية .كانت رائحة القِدَمِ العطنة تشدّ بيد الجدهّ المتأنـقة ، أحست برهبة ورأت نفسها داخل كنيسة تخّدرها موسيقى حالمـة . " القدم صورة ضامرة للفناء . القدم صورة الزمن المتمرد على خلود الإنسان وبقائه في الكون " . شدهاّ شمعدان ذو حسكتين من النحاس الرفيع البراق منقوشٌ نقشا فريدا يحتار الناظركيف بدأت يد الصانع وكيف انتهت ، رُسِمَ عليه وجه حسناء رقيقة التقاسيم يتوزع جسمها الملائكي على الجذع الرئيسي للشمعدان . سألت عنه صاحب الدكان فأجابها : " بعشرين دينارا " ساومته وأبدت له رغبتها في شرائه ونزلت المساومه الى ثمانية دينارات ، لفّه في قطعة من الورق وانصرفت هي وضجيج النهج مازالت اصداؤه في رأسها . نزعت عنه الغلاف ومسحته من ذرات الغبار . وحين أدخلت إصبعها في عنقه الأول وجدت به سائلا ... تشممّته ... ذكّرها برائحة التمر المتعفّن . وفحصت العنق الثاني فوجدته مملوءا بذلك السائل ، كان لنحاسه دفء بشري في كفهّا ... دخلت حجرة نومها .. ركزته على منضدة السرير كانت فَرِحَـة فَرَحَ الظافر بتحفة أثرية هامة ...
أفاقتها أصابع الكونت تمسح عن عينها غشاوة سرعان ما انقشعت فصاحت :
- اغرب عن وجهي ايها الروح ، أنا لا أخافك لقد علمتني العزله الانتصار .
- اسكتي .. سأجعلك تحبينني . أما الآن فأرجوك ان تحضري لي عصير العنب .. وسأعود الى الشمعدان حالا ولا أقلقك .
- بل عدْ الى بلدك والى عالمك . فعالـمُنَا لا يفهم لغة الأرواح ما جاء بك الى بلدنا ؟؟
- لن أعود الى بلدي ، أما الذي جاء بي فهو رجل مغرم بحضارتنا .. اشتراني من سوق المزاد العلنّي . المهم ان تفهميني انت وفي هذا كفايه .
- لا أفهم الأرواح ، وماذا أصنع بك سأكسر هذا الشمعدان وينتهي أمرك ...
- اياك ان تفعلي لأنني أتحول إلى رأسك .. كُفّي عن الثرثرة و احضري لي كأس العنب .
توجهتْ الى المطبخ . وبينما هي تغسل العصّارة إذ بالكونت ينزل الدرج مترنحا ، ولخطواته وقع على الجليز . وقف وراءها يراقبه .. كانت أنفاسه دافئة تحمل الزمن البعيد . وحدّقت فيه : بدلته رمادية ذات أزرار لماّعه يظهر من تحتها قميص سماويّ ، شعره ناعم غزير ينتهي عند كتفيه في تسريحه متماوجة . تقدمت خطوات .. وضعت الكوب على الطاولة مصحوبا بمنديل كأنـها تقدمه لضيف , شرب الكونت الكأس في لهفه .. .ثم تـمطّق وأضاف :
- الآن صرت أشعر بالإنتعاش , كيف أشكرك يا حلوتي ! ثم تثاءب واختفى كأنما نفخ عليه فطار . عادت الى فراشها تؤرجحها أطياف غامضة , ونامت على أمل رؤية الكونت في ليله قادمة . ومرّ اليوم ثقيلا وأقبل الليل المعبّـأ بالأسرار , وقبعت تنتظر ظهور الكونت وتستعيد صورته وكلامه .. اختفي ليلة او ليليتين الى ان صارت تمسك الشمعدان وتهتف له : " اخرج يا كونت لقد أحضرت الخمرة " . وطال بها الانتظار ، واشتد الصداع برأسها ، وخافت على عقلها من الجنون ، ثم أسلمت أمرها الى النوم . وعادت الى ذاكرتها أصوات العاصفة وزخات المطر على بلور النافذة . بان لها فضاء الغرفة مشحونا بعيون من شرر ، عيون تفوق الملايين على الجدران ، على السقف على البلاط . وحاصرتها العيون وصارت ترى نفسها سابحة في بحر من نـار . " لابدّ ان أحضر له الخمرة ... لكن من يساعدني على اقتناء هذه البضاعـة ؟ " تذكرت خادما عمل عندها منذ سنتين .. كان لا ينام الا اذا أفرغ في بطنه قوارير من الجعة ، وكان زوجها لا يمنعه من ممارسة هوايته مادام يؤدي كل الخدمات على أحسن وجه . ولكن ماذا سيقول عنها : " زوجة سيدي صارت تشرب الخمرة " ، سأتصرف بطريقة أخرى .. وما المشكلة ... أقف على الخمار وأشتري قارورة بدعوى أنني سأداوي بها مرضا أو سأستعملها غسولا لشعري ، هكذا ينصح بعض الأطباء وبعض خبراء التجميل . وقفت امام مرفع احدى الحانات تسلم الدراهم للنادل وعيون الرجـال ترمقهــا فى صمــت . بدأت تتعلم لغـة العيون من تلك الحانــة ، عيون تغــار لمشاركتهــا اصحابهــا هوايـة الشرب ، وعيون تغازلهـا ، وعيون تهيب بشجاعتها معجبة بتطاولها على منطقة محرّمـة على بنات جنسـها . تسلمت القارورة .. أخفتها تحت معطفهـا كما يفعـل المعربدون المدمنون وسلكت طريقها ، ورغبتهـا تشتـدّ لرؤيـة الكونت ... لقد صارت تملك روح الشمعـدان . وامتطـت سيـارة أجـرة والتحقـت بالشمعـدان . مسحتـه بلطف ... نفضت عنه حبات الغبار ، وسكبت السائل الأحمر في جوفـه . لاحظتـه يمتـص السائل المسكوب وضعت القارورة الفارغــة على المنضدة وقالـت : - ما أكبر كرشك يا كونـت ! ؟ . جرفهـا ضحك هستيرى .. واحتارت هل تخضع للاوهام أم تعلن حربا عليهــا ؟ صعـد دخان خفيف من الشمعدان وظهر معه الكونت في شكله الأول ... كان مبتسما هادئا مادّا يديه نحوها وطوّق بهما خصرها وقـال :
- الآن عرفت انك مهتمّة بي : على الأقل تعبت من أجلي ومن اجل الحصول على الخمرة .. تصوري انني غرت من صاحب النظارات الذي غمزك في الحانـة كدت أطير كأسـه من بين يديه .
- عجبـا ! .. وهل رأيتنى عندما ذهبت الى الحانـة ؟
- وكيف لا أراك ، إننى منتشر في كلّ مكان ، أراك ولا تبصرينني .
- حدّثني عن الماضي .
بدأ يقص عليهـا ... حدّثهـا عن حبّه وهيامه بالأميرة . وحدّثهـا عن طفولتـه وعن مغامراته .
- الا ترى نفسك خائنا لحبيبتك الأميرة عندما تهتم بي ؟
- ان حبّي لك ، معناه الحب في مفهـومه المطلق ومعنـاه وفائي لحبيبتي الأولى في صورته الخالدة ، فالحب الخالص لا يتغير بتغير الأشياء .
- وماذا تريد مني هذه المرّة بعد ان سقيتك الخمرة ؟
- اريد منك أن تطهريني من غبار القدم ، احمليني الى البحر وازيلي ما تراكم على جلدى من ادران الأيـام ، انّ مسام جلدي لا تتنفّـس . اجعليني حيّـا كما تحيين ، وبثّـي فيّ الحياة من جديد .
- لكنّ الطقس بارد والسماء تكسوها الغيوم وأنا أخاف عليك من البرد والزكام .
- خذيني ... خذيني الى البحر !!
** ** **
كان البحر زبدا ، وخيوط المطر تداعب جسمين عاريين ، تحتضنهمـا الأمواج ، وخرجا وتراكضا على ضفة الشاطئ . كانا ملكين على عرش الزمـان ... تناجيا على الرمـال ساعات ... حدّثهـا فيهـا عن طفولتـه : " كنت صغيرا وكانت أمي تحملني الى المغطس تدلك جسمي بلطف ، تغسل شعري وتصب علي المـاء الـفاتر ، كانت ساعة الاستحمام أصفى لحظات حياتي . كان المـاء ينعشني كمـا أنعشني الآن . وكانت قبلات أمي تعبئني سعادة وأملا . ولكنّ سعادتي الآن معك تفوق كلّ سعادة . وأخذت مياه البحر في الارتفاع وغاب الكونت في اللجج واستحال لون المياه الى لون قاتم تعبق منه رائحة كريهة تنفذ الى الأعماق وتخنق الأنفـاس ... وبقيت تنتظر قدوم الصيادين لتسألهم عن الكونت ... كان البحر أسود مهجورا وطيور النورس تحلّـق بعيدا في فضاء الضباب .